الدراما الرمضانية الطويلة..!- تحسين يقين
هل يفسد المال الفن؟
- نعم..
- كيف؟
- شاهد/ي مسلسلات رمضان، وتأمل كيف سطا المنتجون على الفن بتطويل الحلقات لزوم سوق رمضان الدرامي الساعي نحو الربح على حساب الفن الذي تحبه الجماهير.
لأنه شهر حار، فالعصائر حاضرة والماء، ماذا بقي من رمضان؟ صلاة التراويح والقطايف والمسلسلات التلفزيونية..
ولعلي أتحدث فليلا عن المنقوعات التي عرفتها الحواضر العربية والإسلامية بشكل خاص، حيث اشتهرت بغداد بكثرة منقوعاتها، لتكوين عصائر بمذاقات ونكهات كثيرة، حتى كونوا عصائر فقط لأجل التكوين، حيث راجت فكرة المنقوعات، وصار إنتاجها لنفسها أكثر منها حاجة للجمهور البغدادي، ولم تمر عقود حتى تخلى البغداديون عن المنقوعات التي لم تجد لها جمهورا..
لماذا أتحدث عن المنقوعات؟
وما علاقة ذلك بالمسلسلات الدرامية؟
في المنقوع كما عرقسوس والتمر هندي والكركديه ...يتم نقع المواد النباتية في الماء بإضافة السكر أو بدونه، فيتحلل المنقوع ويتكون لدينا سائل كثير يكفي لأفراد الأسرة والضيوف، ولربما أكثر منه شخص كي يبيعه في حارات بغداد ودمشق والقاهرة..
في حالة البيع يقل التركيز، وتزداد نسبة الماء ويقل السكر لزوم الربح!
هل اقتربنا من وجه الشبه؟
سوق الدراما في رمضان أدخل إليه عادات وتقاليد لزوم ما لا يلزم، وعلى رأسها جعل أي مسلسل 30 حلقة، كأن المواطن العربي ليس أمامه إلا مشاهدة مئات الحلقات لعدد من المسلسلات! فمن قال أن أي قصة تحتاج كل تلك الحلقات الكثيرة المطاطية بدون لزوم موضوعي ولا فني!؟
لقد أكثر المنتجون الماء في المسلسلات فقل دسمها، وللأسف الشديد فقد قبل المخرجون هذا التقليد، فأضروا بالفن وبنا، وصار مسلسل رمضان كالمسلسلات التركية والمكسيكية..يحتاج طول نفس وصبر لمتابعة الأحداث..ولما كنا نعيش في عصر السرعة، فإنه سيكون ثقيلا متابعة الحلقات الكثيرة والطويلة بإعلاناتها ودعاياتها..
ومرة أخرى يفسد رأس المال الفنون، خاصة فن الدراما الذي نحبه، ونحن بالطبع لسنا ضد المسلسلات ذات الحلقات الثلاثين إذا كان هناك ما يبرر، بل ضد الاستخفاف بالجمهور.
ولا أدري لم لا ينتبه الفنانون والمخرج لهذا التطويل والإطناب غير المبرر، حيث أن الفنون المرئية هي فنون أدبية أو قل إن مادة الأدب هي مادتها الرئيسة، وكما هو مطلوب ومفضل في الأدب أن يكون مكثفا، فإن الأحرى بصناع الدراما الانتباه وتكثيف الدراما، بحث يكون لكل مشهد بل لكل لقطة معنى أو إضافة للمسلسل لا أن يكون حشو وتطويل بلا معنى.
معظم مسلسلات هذا العام والأعوام السابقة تسير وفق هذا النظام الربحي، علما أن للفنون رسالة مهمة، يجب الاعتناء بها حتى تؤدي تلك الرسالة بفعالية.
مسلسل فرقة ناجي عطا الله مثال على ما نذهب إليه، فلم يكتف صناع الفيلم يتلك السطحية والتكلف في الفكرة والتمثيل، بل عمدوا إلى تطويله، وبالمرة الفنان عادل إمام يأتي بأسرته لصنع المسلسل، مغامرا بسمعته، حتى أن الجمهور العام الشعبوي صار متقدما عليه ذوقا فنيا ووعيا وفكرا.
مسلسل الخواجة عبد القادر، أفضل من غيره، لكنه لم يسلم من التطويل، والتكرار، رغم أنه يقدم شيئا جديدا، لقد كان الأحرى به تكثيف العمل الفني، وربما نلقي باللوم على الفنان الكبير يحيى الفخراني، وهو الذي يشكل دعما للمسلسل، وهو أحد أسباب نجاحه..بل إنني أصلا أتابع المسلسل لأستمتع بتمثيل الفخراني.
نابليون والمحروسة، ما الدافع وراء تكرار النص، مرة بالفرنسية ومرة مترجم للعربية؟ لماذا لم يتم استخدام الترجمة بالكلمات المطبوعة على الشاشة؟ والمسلسل قوي ومؤثر في مشاهد كثيرة، كما أن المؤلفة د. عزة شلبي جاءتنا بجديدها الذي يقوم على خيالها الخصب المبني على الحادثة التاريخية، جذبت الجمهور، كما انحازت للشخصية النسوية أيضا، وهناك ما يمكن أن يقال إيجابا عن المسلسل، رغم بعض مشاهد الألم التي بالغ فيها، والتي كان من الممكن صياغتها بشكل لا يؤذي أفراد الأسرة صغارا وكبارا..
على أية حال أيضا عانى المسلسل كما عانت مسلسلات أخرى، وإن كان بدرجة أقل، ويشفع للمسلسل تقديم التاريخ الشفوي غير الرسمي، من خلال إبراز حال المجتمع المصري، وليس فقط الاعتماد على تقديم النخب.
مسلسل عمر، الأكثر مشاهدة حتى الآن، جيد، لكنه يكرر ما سبقه من مسلسلات، وكان حري بالمخرج الانتباه لثقافة الجمهور العربي الذي رأى الكثير من قصص السيرة وقصص الصحابة. الحوارات طويلة والجمل كذلك، حتى صار في مشاهد كثيرة أقرب إلى المسرح منه للدراما التلفزيونية. ولم يسلم كذلك من التطويل، ويمكن مشاهدة بضع حلقات لنكتشف أنه يمكن تكثيفه أكثر.
"ابن النظام"، مسلسل كوميدي آخر من بطولة هاني رمزي وحسن حسني، خفيف الظل، ينتقد بأسلوب ساخر نظام الحكم السابق، بل نظم الحكم الاستبدادية. المهم في الأمر أن دراما "ابن النظام" ليست عميقة، بل متكلفة لم ترتق إلى ما كنا نتوقع، والأسوأ في الأمر هو تطويلها بلا مبرر ولا داع، حيث تتكرر المواقف المتشابهة التي لا تضيف له.
ولم يقتصر الأمر على الدراما العربية، بل تجاوز ذلك إلى المسلسلات المدبلجة ك"جنكيز خان" والذي أتابعه شخصيا، للتعرف على قصة المغول والتتار، كما أن هناك ما يدفعنا متشوقين للتعرف على جنكيز خان بعيدا عن كتب التاريخ الكلاسيكية. لكنه لم يسلم من التطويل والتكرار، حتى كادت الكثير من المشاهد تتكرر.
وهناك مسلسلات أخرى كالأخوة أعداء، وأبو جانتي (وهو دراما سورية، يكاد يكون نسخة عن المسلسل السابق الذي يحمل الاسم نفسه، ولكن بشكل جديد، أما المضمون فهو كمان كان، شاهدت جزءا منها فوجدتها بحاجة لتمكين يعتمد على التحرير الفني لإزالة الزوائد والإضافات، وأظن أن المشاهدين والمشاهدات لديهم ملاحظات قيمة حول هذه الإنتاجات، حيث أنني أزعم مرة أخرى أن الوعي الشعبي تطور عن السابق، فالأجيال الجديدة الشابة بشكل خاص لم تعد تتقبل الإسهاب في الحكايات كما كنا نقبل قبل عقدين أو ثلاثة.
ولا أدري على من تقع مسؤولية مساءلة ومحاسبة منتجي الدراما الطويلة؟ هل نحاسب رأس المال؟ أم المخرج؟ أم التلفزيونات التي تلح شراء هذا النوع من المسلسلات بقصد الربح أيضا، من خلال إدماج الدعاية والإعلان فيه!
للأسف ربما يطول بنا الحال على هذا النحو من سلب وقت المشاهدين وتخديرهم بالحلقات الطويلة، والتي فيها يتم التركيز على الإعلانات والدعايات التجارية.
نحن لسنا ضد الدعاية والإعلان.. ولكن من غير المتقبل كثرة الإعلانات في الحلقة الواحدة، حتى صرنا نتابع مسلسلين معا: المسلسل ومسلسل الدعايات المكرر والممل..
نحن لسنا ضد الدعاية والإعلان لزوم حركة البيع والشراء وحركة الاقتصاد، لكن من غير المقبول أن يتم قيادة الفن من قبل الشركات الاستهلاكية، والتي تسرق وقت الناس وفلوسهم وصحتهم أيضا..
لن يعيب المسلسل أن يكون ابن 13 حلقة أو 15، أي نصف العدد الآن، كما لن يعيب الدعاية والإعلان أن تكون خارجة عن الحلقة التلفزيونية، لا أن تكون جزءا منها تثير غضب الجمهور على إدارة التلفزيون والشركات معا.
هل يرقى المال بالفن؟
- نعم..
- كيف؟
- شاهد المسلسلات والأفلام التي تنتصر للفن، والتي تظل روائع تشكل وجداننا ووعينا..
ولأن للدراما التلفزيونية دورا في التكوين الوجداني، فإن على صناعها الانتباه للفن حتى تؤدي رسالتها الاجتماعية والإنسانية والوطنية والقومية..
فهل وصلت رمزية المنقوعات وكثرة الماء!؟
وحتى تصل نحن بانتظار رمضان القادم ومسلسلات غير طويلة بدون مبرر..
وتجاوز كل ذلك اللزوم الزائد الذي لا يلزم!
دراما لا يسطو الطول فيها على المستوى الفني..
وكل عام والفن العربي والعالمي بخير..