" وقفات مقدسية "- أمال مرار، القدس المحتلة
أصطدم به في كل مرة أريد دخول مدينتي، وبعد طول إنتظار أعبر بوابته الضيقة التي تنخر قطعها الحديدية المتراصة جسدي وقلبي، أدخل حقيبتي في ماكنة التفتيش وأنثر بقية أغراضي لأستلمها من الجهة المقابلة، لحسن حظي لم يقرع جرس الإنذار لأخلع حذائي أو قطعة من ملابسي لأثبت برائتي، .... أمشي قليلاً وقليلاً عبر مساربه الضيقة وأتحمل كمن حولي صخب أصواتهم المزعجة عبر سماعات جنوده، تلك التي لا تعرف السكوت وتفضل الضوضاء باللغة العبرية، أو بالعربية و الإنجليزية " المكسرة"، تخطيته كالبقية بعد الإنتهاء من المراسم المعتادة، ... ألا وهو حاجز قلنديا الإحتلالي الفاصل بين القدس المحتلة وبقية الأرض الفلسطينية المحتلة، لننطلق بالحافلة متجهين نحو المدينة المقدسة كل حسب غرضه، حيث يبدأ المشوار برفقة الجدار العازل الذي زينه ونحته الفلسطينيون برسومات الحرية والدولة المنشودة يمتد عالياً ليحرمنا من إطلالة الطبيعة الخلابة،..
دقائق ويدق هاتفي المحمول الذي وضعت فيه شريحة "إسرائيلية" كون الفلسطينية لاتعمل داخل مدينة القدس، إنها صديقتي مروة تسكن في وادي الجوز والتي لم أرها منذ أشهر بسبب تواجدها في الولايات المتحدة تقول لي " اليوم فطورنا مع بعض، وإزا بدك تحكيلي إنك أفطرتي رح أزعل منك " تبسمت شوقاً للقائها وأحاديثها التي لا أمل منها، وإذ بالحافلة تصل أمام مدرسة شعفاط الثانوية لإنزال أحد الركاب، حيث تلقت أمي تعليمها الثانوي، لتعصف عقلي موجة ذكرياتها وصديقاتها التي أخبرتني عنها ذات مرة...، وصرت أتخيلها بزيها المدرسي فتاة خجولة تشتري من بائع الخروب وتسرع كي تعود إلى المنزل مع بقية زميلاتها، ... أعود للواقع من جديد ونصل إلى بلدة بيت حنينا التي يمزقها "القطار الخفيف" من منتصف شارعها الرئيسي ليصل كافة مستوطنات الإحتلال بمدينة القدس بهدف تطويقها بشكل أساسي وفصلها عن محيط أحيائها العربية كمن يخرج الروح من الجسد، حتى وصلنا مشارف الشيخ جراح وفي النفس غصة وأمل فالحي يصارع إعصار التهويد والتزييف التاريخي كل دقيقة وثانية، كونه يتمتع بموقع إستراتيجي يحتوي على أبرز المعالم الثقافية والدينية التاريخية على مر الزمن، وكذلك أضخم الفنادق المعمارية وتستقر فيه أبرز القنصليات الأجنبية، نعم هو الحي الذي لا يعرف الراحة ولا الأمان،..
تتلألأ بعظمة وكبرياء، ويطل جزءاً منها لنراه من بعيد، هي قبة الصخرة المشرفة شامخة مكانها لم تبرحه في مدينة فريدة من نوعها بين مدن العالم كونها محتلة وتعيش آخر إحتلال في العالم، يظل مشهدها مسيطراً على العين والقلب، حتى وصلت بنا الحافلة ونزلنا لمحطة التوقف في باب العامود وهو المدخل الرئيسي لأسواق وحارات وبيوت البلدة القديمة بمدينة القدس والتي امتلأت بحرس جنود الإحتلال على مداخلها وتخومها، وعجت أسواقها وحاراتها وأزقتها بالمارة والبائعين والسائحين،،، فرائحة الكعك والحلويات والبهارات والفلافل تشعرك بأنك وصلت إلى المكان حيث تريد، وتتأكد مما قاله أهل الجغرافيا أنه "إذا قمنا برسم مثلث رؤوسه الثلاثة بمكة المكرمة القاهرة وبغداد، تكون القدس في قلب هذا المثلث"، تجتمع فيها الأديان السماوية الثلاثة منصهرة في بوتقة واحدة، وهي قلب التاريخ والحضارة والصراع الإسرائيلي العربي الذي يسعى لإلصاق نمط وجنسية اليهود فيها وخلع صورتها العربية لتغيير تاريخها وذاكرتها المهددة بالزوال بفعل قبضة الإحتلال التي تحاصرها بالجدار وتخنقها بالمستوطنات وتعزلها بالحواجز العسكرية وتشن حرباً لامنتهية ضد المقدسيين في كافة المناحي الحياتية إقتصادياً وثقافياً وإجتماعياً وسياسياً،.. فأنت في القدس حيث بين الحب والحرب مرمى وردة، وبين الوردة والتهويد مسافة يدين، وبين القدس والإحتلال إغماضة جفن تحلم بعودتها عربية الضاد كالأيام التي خلت.