يا صبرا: اخرجي من عالمنا...- عطا مناع
نشهر سيف الكلمات في وجه النسيان، نتحلق بوجوهنا الشاحبة لنمارس طقوسنا الملعونة لنتخلص مما أثقل كاهلنا نحن الذين أدرنا الظهر للصحراء، نصارع أيامنا الشاحبة وشوارعنا التي فقدت ملامحها، ما عدنا كما كنا، سيوفنا من بعدك من خشب.
ثلاثون عاماً يا صبرا وشراعنا نجمة سداسية، ثلاثون عاماً يا صبرا ومن بعدك شُرعنا المجزرة، استهوانا الذبح الغير رحيم لأنفسنا يا صبرا، مجازر تتلوها مجازر واختلط الفاعل بالمفعول به يا صبرا، أيعقل أن تكوني يا صبرا الضحية والمجرم في آن.
ما عاد المشهد يزعجنا، ولا دم الأطفال المسفوك في شوارع المخيم، ألم اقل لك يا صبرا أن المخيم ما عاد مخيم، وان الدم الذي يسري في عروقنا اجتاحه البرد والنوم الإرادي، فلا صبرا تعنينا ولا المفتاح ولا حنظله وسيده الذي ينتقل من غربة لغربة.
يا صبرا لم يتسع مخيم عين الحلوة لصاحب الجسد النحيل الذي أعلنها مراراً أنة منحاز للفقراء والمعثرين فكان أن ذبح بكاتم الصوت، لنذبحه مرة أخرى بنفيه بعيداً عن عالمنا، هكذا أرادوا له أو أردنا.
هنا صبرا يا أيها الفلسطيني، هي اللعنة التي ترحل معك كظلك، وهي الصخرة التي تربض على صدرك وكأنك سيزيف حيث اللعنة من الإلهة، صبرا ليست زمان ومكان، وصبرا ليست مقرة جماعية لمن تركتهم السفن المهاجرة لحد السكين، وصبرا ليست مقبرة جماعية لمن عمدهم الألم والاشتياق، وصبرا لا تنتظر أن تدخل جنة السماء، وهي التي انتظرت رحمة الرب الذي لم يتدخل لإنهاء وليمة الذبح وان تدخل فكان متأخرا.
صبرا هي فلسطين كل فلسطين، ما أرادوا أن يذبحوه في صبرا هي الذاكرة، أرادوا أن يستكملوا المجزرة، والمجزرة بدأت في حيفا ويافا وصفد ودير ياسين وسلسلة لا تنتهي ولن تنتهي من المجازر التي تستهدف الذاكرة الحلم والروح التي ضاعت في التيه تنتظر اللحظة لتدجين الزمان لصالح المكان.
صبرا يا أيها الوجع اللعنة اخرجي من عالمنا، ودعينا نعيش فصول المجزرة المستمرة وكأنها جهنم حيث اللاموت واللاحياه، يا صبرا اخرجي من عالمنا فنحن من قبل يد الجزار، ونحن من عفا وسامح وفاوض واحتضن حد السكين، ونحن يا صبرا لا زلنا نتبجح بها من نهرها إلى بحرها، ونحن يا صبرا من شيع الفكرة والذاكرة ، والشاهد يا صبرا على قبرها نجمة سداسية.
يا صبرا اخرجي من عالمنا، فما عدنا نحن، تاهت الألوان والشوارع بلا رائحة، ولم يعد المخيم يستقبل صدى أنين المذبوحين، فالمخيم يا صبرا يعيش الجديد وعلى الجديد يطغى ناموس النسيان، ولا بأس من الكلمات المكسورة وبعض الغضب المهجن بثقافة المرحلة.
هنا المخيم يا صبرا!!! والمخيم ما عاد المخيم!! يا صبرا المخيم عين على المخيم!!! ممنوع على المخيم الاتشاح بالسواد للحظة من الزمن!!! والمخيم أتقن فن النسيان والهروب إلى الإمام من اجل ما نسميه كذبا المصلحة الوطنية العليا!!
يا صبرا اخرجي من عالمنا ولا تحملينا أكثر مما نحتمل، لا تكشفي عوراتنا فاسمحي لنا بما تبقى من ورقة توت وبعض الذل وبساط احمر ومسميات منحنا إياها اله الموت شيفا، هو يا صبرا شيفا الذي قطع الأطراف في شوارعك، وهو الذي بقر البطون واغتصب وقتل الأطفال واعدم الشيوخ، هو اله الموت الذي رقص على جثثنا وشرب من دمنا أياما وليالي.
هي نعمة النسيان وسقوط أمل دنقل وثقافة لا تصالح، وهي جدلية التيه والبحث عن الوطن في الوطن والنزول عن الجبل، هي يا صبرا اللعنة التي تأتينا فتات من بلاد العم سام والثمن أن ننسى، وهي الفجيعة الكبرى بالإحياء الأموات.
نهذي في زمن النسيان لعلنا نحافظ على جذوة الفكرة، نستقوي بها على الذين اغتصبوا الأموات وما تبقى من أحياء، نستقوي يا صبرا على حكايات علي بابا وما شئت من عهر قادنا للقاع، فهذا الذي يشهر سيف الوطن نهاراً ويمارس الاغتصاب للأمانة التي تركها لنا من هم رأس الحربة الأسرى ليلاً.
ثلاثون عاماً على المذبحة ولا زال الوجع يطل برأسه لعلنا نتذكر نحن الذين نرقص على حد السكين، ثلاثون عاماً حملت في جعبتها الكثير من الوجع لفقراء شعبنا الذين تحملوا ولا زالوا نتائج الاتفاقيات مع مرتكبي المجزرة، ومهما حاولنا الهرب أو التمسك بالنسيان كمخرج للتخلص من ارث المجازر التي ارتكبت بحق شعبنا، مهما حاولنا تجميل الواقع الذي يكشر عن أنيابة جوعاً وقمعاً وانقساماً لن نغير في الحقيقة شيئاً.
قد ندير الظهر للحقيقة لكنها ستبقى، والتاريخ لن يميل لكفتنا، لان التاريخ يكتب الحقائق رغم محاولات التزوير المحمومة من العالم الذي يتكالب على قضيتنا للنيل منها، لكن صبرا وشاتيلا المذبحة ومئات المذابح التي ارتكبت وترتكب بحق شعبنا ستبقى الشاهد الحقيقة على أننا لا زلنا شعب حي رغم محاولات التسويف والرشوة المالية للكيان الفلسطيني الهزيل الذي نسميه نحن الفلسطينيين سلطة.
قد نكون قد وصلنا للقاع في التعاطي مع قضايانا الحية، لكن الحياة ستكمل دورتها التي من سماتها التجديد، والجديد يأتي بالعنفوان الذي يستخلص الحقيقة التي ستقودنا حتماً لبر الأمان رغم كافة المعيقات الموضوعية والذاتية، لذلك لن تخرج المذبحة من عالمنا مهما حاولنا لأنها الإرث الذي تضيعه الاتفاقيات، أنة ارث من دم ووجع لا زال صداه يتردد في رؤوس القتلة.