الاحتلال يشدد إجراءاته العسكرية على حاجز تياسير شرق طوباس    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال لمنزل في رفح جنوب قطاع غزة    الاحتلال يواصل اقتحام المغير شرق رام الله لليوم الثاني    جلسة لمجلس الأمن اليوم حول القضية الفلسطينية    شهيدان أحدهما طفل برصاص الاحتلال في بلدة يعبد    مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم    شهيد و3 جرحى في قصف الاحتلال وسط بيروت    أبو ردينة: نحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مجازر غزة وبيت لاهيا  

أبو ردينة: نحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مجازر غزة وبيت لاهيا

الآن

في الذكرى الأربعين لوفاة الشاعر قرقطي/ محاولة احتفاء بالحياة.. فلم هذا الغدر! - أحمد سيف


خصصت موظفة الاستقبال في مكان سكن طلاب كلية الصحافة في بوخارست، للطالب فيصل قرقطي، الموفد الجديد لمجلة "فلسطين الثورة"، الصحيفة المركزية لمنظمة التحرير الفلسطينية، غرفة في الطابق الثاني.
في المصعد، اقترح أن نرتاح قليلا في غرفتي في الطابق الثالث، كنت اسكن إلى جانب الأصدقاء زياد أبو الهيجاء والمرحوم طلال همداني وهاني حبيب وغيرهم.
بالكاد وضع حقيبته الثقيلة وحقائب صغيرة أخرى، سأل ان كان السرير الاخر في الغرفة لأحد، قلت أحيانا. قال جاء حيني الليلة، ضحكنا. وضع سترته جانبا واخرج بطحة من العرق، أحضر كأسين بعد إشارة استئذان واسند ظهره إلى الحائط. وضع ذراعه اليسرى على الطاولة وراح يشمر ذراعه الآخر، أشعل سيجارة أخرى، فتح النافذة، خلع حذائه، بعض المكسرات والقهوة من بيروت والأعداد الأخيرة من مجلة "فلسطين الثورة" وصحف أخرى، سأل إن كان "عندنا" كسرة خبز.
ما الذي هبط علي هذا المساء؟ تساءلت وأنا أقلب يدي أنظر آثار كفه الثقيل. وجه بارز المعالم، جبهة عريضة يزينها شعر ناعم اسود سادل إلى ما وراء اذنيه، أنف بارز وعينان بنيتان يشع منهما ما بدى لي انه وهج.
بعد ساعة، أخذني من يدي إلى باب الكلية ومن هناك في الشارع العريض، أخذته إلى قلب المدينة.
أفقت في اليوم التالي لأرى انحسار فضائي ومكاني.. تناثرت في الغرفة، الملابس، سجائر الكنت والمالبرو، كتب، مجلات، اوراق، قهوة ومكسرات من بيروت وحقائب مفتوحة، وسط كل هذا، كان فيصل يتمدد على السرير الآخر بجانبي.
تلك الليلة، رأيت أوله..رأيت آخره : مرجل هائم يبثك نار لظاه أو دفئه. وفي سكونه حميمية تكاد تلامسها.
مرت ثلاثة عقود ونيف. تغيرت الأحوال، والعواصم والتضاريس ولم يتغير الفتى مرهف الحساسية وأسرع من يبثك، عند مصافحته من بين من تلتقي من الناس، حميمية ودفء خالص.
كان فيصل أثر عودتنا إلى الوطن، بعد أوسلو اللعينة، أول من هرب إلى الحواف. وبعد تشرد في "أكناف بيت القدس"، حط على اخر بيت في أكثر منطقة إنخفاضا في بيرزيت. هنا أمام أخر مكان مأهول في السفح المنحدر إلى الجبل الرابض الثقيل الممتد إلى قرية جفنا، على طاولة الخشب البنية المستديرة، قرب الشجيرات وقواوير من الريحان والنعناع التي يزرعها اللاجئون الفلسطينيون أينما حلوا، هنا على سفرة ام حسام العامرة، تجمع عائدون، لاجئون ومواطنون. وكم راوغ فيصل وصحبه من الشباب الكتاب والادباء، امل الصعود في الحلم إلى أعلى.
في بيرزيت، طوحتنا البلاد. شتات جديد ويقين اخذ في التطاير. دخل فيصل بعد قرابة عقد من مناطحة الجبل طورا اخر، ترك الوادي وغريمه الجبل، حاجب شمس الغروب، ليعتلي هذه المرة، قمة جبل آخر يطل على الجبل، حاجب شمس الغروب، قمة هي الأكثر ارتفاعا في بير زيت.
في منزله الجديد أخذ نفسه إلى علو آخر، صنع لنفسه علّية عند نهاية الدرج إلى سطح منزله، سرير صغير وطاولة بالكاد تأنس بالأصدقاء، جهاز حاسوب قديم كاف للتواصل وبعض عبث قديم. هناك أدار فيصل ظهره زمنا للطريق من عليها ومن دونها.
من سطح منزله أطل على أحلى تلال فلسطين.كم لأمس الندى وجه المحارب المتعب، كم حمله الهواء الغربي إلى يوم آخر وليل اخر يمتد إلى ما قبل نهوض البشر.كم طافت الأحلام والكوابيس هذا المتسع من أقصى العلو إلى المدى الأبيض فوق الوهاد. تأتي الشمس كل صباح وتأتي قرية "جفنا" مجددا تنفض الضباب وينفض هو أحمال ليلته، وتزهر "جفنا" كل صباح وعلى خاصرتها يتكئ المخيم.
بعض من يشبهونك ويحبونك. كثير من درعا المخيم في زواريب الجلزون العامرة بالأمل وبأنفاس المغبونين والمظلومين.كثير من الناس تعرفهم، بعضك ملقي هناك، اين تقر الخواطر قرب المألوف والعادي. قرب نكبة مزمنة محاصرة بالمستوطنات والخيانات، وأين يكمن مبعث غضبك الدائم وصدامك مع دهاليز الموائمة الخادعة بين الصح وهؤلاء من ينحنوا كي يعيشوا فقط.
لم تكن المساومة طبعا في الرجل الذي شاء قدره ان يقد على نحو خاص وفريد منذ ان وقعت أمه فدوى، اليهودية الفلسطينية اليافعة، في شرك أستاذها عازف العود والده الفنان محمد غازي في مدينة القدس، فهجرت قومها مع المهجّر والمنفي والمتخفي تحت مظلة القرقطي لينجبا عائلة من الأولاد المناضلين، وكان منزلهما في المخيم قاعدة للفدائيين وكانت سفرة فدوى قرقطي الأم والأخت، عامرة بالمقاتلين البواسل بعضهم لا زال شاهدا.
صعد فيصل إلى قمة الجبل وأوغل في تعبده. هناك في عين المكان الأقرب إلى السماء، أطبق الكون، النداء الأخير: وفاء، حسام، سلام، سماء" وينكو.. مش قادر أوقف".
لا هواء إلى ليلة أخرى، لا ندى يغسل الوجه من الصحو الطويل، لا كف يد تبثك دفئا يشعل روحك، لا كلمات تفك وحدة السطور، لا مسارب تشقها الحروف، لا لهب يلفحك، لا طلة أخرى للمنفي على شرق البلاد "جفنا " ما فوقها وما تحتها...على غرب البلاد حتى بحر يافا. لا.. لا دموع تترقرق ولا رجفة في الأصابع تراوغ الكلام ولا من مناد: حسام سلام سوسو.. "..وينكو..ما بتردو".
هل تعب فيصل من الصعود إلى جبله وعليته وشرفته؟ هل مد يده إلى أعلى يتلمس علوا اخر وهل لامست كفاه السماء؟. وأي رجاء حملته عيون نمر منفي محاصر يحملق في السماء. سماء؟ ابنته وسر أبيها، ابنه الثاني سلام.. سلام على الأرض والابن البكر حسام، كي نفصل..كي نحسم، هذا لك أحلى وارحم من سيفك، قال لي ذات يوم.
هل أراق في لياليه المديدة ما يغفر غيابا ملوعا خادعا. وهل نثر في الرواق ما قد نمضي زمنا نلملم فيه مشهدا يليق بالغائب؟ ويصيب "نقادنا بالخجل" عندما يتبينون خسارة الشعر والفلسطينيين شاعرا كبيرا أصيلا، كما كتب محمود أبو الهيجاء.
أعرف فيصل أكثر مما اعرف شعره ولم يلتق ثلاثتنا إلا مع عبور الليل وصعودنا غيمة هاربة.
نمت إلى جانبه في عليته. وقبالتي كان يتكئ الكهل الآخر المحترم احمد عبد الحق في ليلة من بقايا تلك الأيام. أخر ما تراءى لي آواخر تلك الليلة، قامة عالية في الشرفة الواسعة، كتاب في يسراه ويده اليمنى تصعد تهبط تمتد، باطنها يكاد يلامس السماء وصوت هامس يرتل مع بزوغ الفجر.
أفقت صباحا وجدت ديوانه فوق وجهي قال "لا تسمع لا تقرأ شم إذا".
قلت "زعوط" فيصل يصيب بالدوار، جلجت ضحكة قديمة عرفتها منذ رأيته أول مرة في بوخارست.
شربنا قهوة في الشرفة: شوف، بربك أين مثل هذا..جفنا، المخيم.
تشابكت أقدارنا في بوخارست، في نيقوسيا، في طرابلس وفي فلسطين. وهنا في هذا المشهد في بيرزيت أين أقمت على بعد أمتار من هذه الشرفة. لن اصعد هناك مرة أخرى، اعرف ماذا سأرى "وما أريد أن لا أرى".
كان همه هذه البلاد وأهلها ومحاولة احتفاء بالحياة.
لم يندثرا لأمل. لم يكسره ظلم ذوي القربى، ولم تغريه، لحظة واحدة، وعود الانتقال إلى الآخر كي يعيدوا فدوى محملة بالهزيمة.
ظل العبد الفقير إلى الله، كبيرا كريما سمحا وطيبا.
كان لفيصل قصته الفريدة والتراجيدية في الحكاية الفلسطينية. قال الكثير ولكنه لم يمهل ليقول بلسانه الفصيح كل حكاية "الطريق إلى بيرزيت".
ظن دائماً أن لديه كل الوقت كي يعلن سخطه، كي يشتم ويبيح.
ظن أن بإمكانه الانتظار كل الزمن إلى جانب عائلته الصغيرة الوادعة وحبيبة أبيها سماء.
غبن فوق غبن، فلم هذا الغدر!.
 

 

za

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024