عودة الى عبق الذاكرة.. شعر مطلق عبد الخالق مثلا!- احمد دحبور
كنت وزملائي لا نزال على مقاعد الدراسة الابتدائية، عندما كان معلمنا المتنور الاستاذ علي صبحية يخبرنا ان فلسطين انجبت شعراء مؤسسين، منهم الراحلون ابراهيم طوقان وابو سلمى وعبد الرحيم محمود ومحمد العدناني ومطلق عبد الخالق، وسيمضي بي العمر حتى اشب واقرأ فأعرف ان هؤلاء الشعراء قد انطووا عن عالمنا الحي قبل منتصف القرن العشرين، باستثناء عبد الكريم الكرمي، وهو ابو سلمى الذي لجأ مع اهلنا من حيفا، وعايشناه زمنا فكان يقص علينا ذكرياته وطرائفه والقصائد الماجنة التي كان يتبادلها متظرفا مع صديق شبابه ابراهيم..
وكان اولئك الشعراء مصدر فخر لي ولزملاء لي ثبتوا على اخلاصهم للشعر، لكن شاعرا من اولئك الرواد كنا لا نعرف عنه القليل، هو مطلق عبد الخالق الذي توفي وهو في شرخ الشباب قبل نكبة فلسطين، وربما كان رحيله المبكر عام 1937، اي قبل ظهور الادب الفلسطيني المتصدي للاحتلال، فضلا عن ان شعره تغلب عليه لنزعة الوجدانية غير الخطابية، من اسباب عدم شيوعه شعبيا كالثلاثي ابراهيم وابي سلمى وعبد الرحيم محمود، لكن ما ان حصلنا على نتاجه حى وقعنا على شاعر مطبوع ذي تجربة خاصة، لا في فلسطين وحدها بل بين اقرانه العرب..
ولد مطلق عبد الخالق يزبك عام 1910 في مدينة الناصرة، درة الجليل الفلسطيني، واحب مدينته الخالدة هذه وتعلم ونشأ فيها، ولم يعش الا سبعا وعشرين سنة، اذ قضى في حادث سيارة مروع، ما اذهل الشعراء والادباء في حينه، فكتب كثيرون في رثائه ومنهم وديع البستاني وعبد الله مخلص ومحمد علي الطاهر ومحامي فلسطين حنا نقارة والعلامة اسعد الشقيري وابراهيم طوقان وعبد الرحيم الشريف، فضلا عن سليم العشي المعروف بلقب الدكتور داهش وكان مطلق من مريديه، ولم تبق دورية ثقافية او رابطة اجتماعية فلسطينية لم تشارك في تأبينه ورثائه.
لقد كان اليوم التاسع من تشرين الثاني سنة 1937 يوما حزينا في تاريخ فلسطين، وفي مدينة حيفا تحديدا حيث وقع الحادث واستشهد مطلق الذي كان في طريقه الى منزل الاستاذ وديع البستاني للعمل معه على دعم المعتقلين في مخيم المزرعة.. وان تهب البلاد لتوديع شاب في مقتبل العمر، يعني ان هذا الشاب كان يتمتع بحضور شعبي قوي.. كيف لا وقد برز شاعرا منذ نعومة اظفاره، وعرفته الصحف الادبية وغير الادبية آنذاك مثل «الدفاع» و «النفير» و«الرأي العام» وغيرها..
ونجح اخوه المفجوع صبحي عبد الخالق يزبك في جمع قصائده بعد فترة، وضمها في ديوان بعنوان الرحيل، ولا ادري هل ان هذا الشقيق هو من اطلق اسم الرحيل على مجموعة مطلق لمناسبة رحيله المبكر ام ان الشاعر كان قد اوصى بهذا العنوان، مع انني اميل الى الافتراض الاول بحكم ان المتابعين لم يعثروا علىما يشير الى انه كان بصدد اصدار ديوان شعري. كما تم العثور على عمل شعري آخر له بعنوان «ضجعة الموت» وسأشير الى ذلك في حينه..
شعر الحب
كان طبيعيا من شاعر في مقتبل الشباب، ان يترك قصائد في الحب. واذا كانت مشاغله الوجدانية منصرفة اساسا الى تأمل الحياة والوجود، فإن هذا لا ينفي ان العاطفة الغرامية جزء من تلك الحياة في ذلك الوجود، ويثبت من رتب ديوان الرحيل - وهو كما اسلفنا: شقيقه صبحي - قصيدة «بنت الدلال» بوصفها اولى قصائده في الحب. ولم يكن الشاعر الراحل يؤرخ قصائده، لكننا نقدر - حسب عمره القصير - ان كل نتاجه هو من شعر الشباب، اما بنت الدلال التي تخاطبها قصيدته تلك، فقد لا تكون فتاة حقيقية اذ كان من الشائع ان يكتب الشعراء الشباب غزلا في حبيبة من الخيال، ومع ذلك فاحتمال ان تكون ثمة ملهمة لمطلق عبد الخالق هو احتمال ممكن، مع ان القصيدة المكتوبة على نظام البيت الشعري شأن بقية اشعاره لا تعبر عن تجربة خاصة، بل تصدع بمشاعر شاب مشوق الى فتاة الاحلام:
بنت الدلال: اما كفاك دلالا؟
اقلقت مني البال والبلبالا
بنت الدلال عبثت بي وجعلتني
من حيرتي ادعو اليمين شمالا
فليس الا الدلال والصدود من جهة الحبيبة المرجوة، والحيرة واللهفة من جهة الحبيب الشاعر، واذا كانت في هذه السياق مجرد بنت دلال لا اسم لها، فإنه في قصائد لاحقة يدعوها ليلى، ونحن نعرف وقع هذا الاسم التراثي في معجم العشاق، حتى ان شاعرا ظل يحن الى ليلى حتى اشفق عليه الامير فقال ادركوه قبل ان يموت عشقا بليلى، واذا بالشاعر يخبر الامير ان حبيبته ليلى تلك ليست الا القوس التي يطلق من خلالها سهامه، فقالت العرب:
كل يغني على ليلاه متخذا
ليلى من الانس او ليلى من الخشب
اما حبيبة مطلق المتخيلة في قصيدته «انا اهواك يا ليلى» فإنها مصدر الحيرة واللوعة:
انا حيران ملتاع اداري القلب في حبك
اثور عليك مهتاجا فيدنيني الى قربك
وقد يفيض به الشوق الى المرأة فلا يكتفي بواحدة، بل يغازل «غانيات طبريا» ولنا ان نتخيل غانيات الشاعر وهن يسبحن في البحيرة الشهيرة، ومن نافلة القول ان التقاليد لا تسمح له برؤيتهن هناك فيكتفي باسباغ صفة الغانيات عليهن، وحسبه ان يقول فليس على الكلام جمرك..
على اننا اذا كنا نفترض قصائد الغرام، لدى مطلق وشعراء جيله، من وحي الخيال، فلسوف نرى الامر في منتهى الواقعية عندما يتعلق الامر بالوطن والسياسة..
الوطن الكليم
في الذهاب الى سؤال الوطن عند مطلق عبد الخالق، يلزمنا ان نتزود بخلفية حذرة، فقد قضى هذا الشاعر، كما اسلفنا، قبل وقوع النكبة، بمعنى ان شعره يخلو من التفجع والحنين، وان كان يختلج بالخوف على التراب والمصير، فمطلق الذي عاش حتى عام 1937، عاصر اطماع الاستعمار، ومأساة وعد بلفور، والتشرذم السياسي الناجم عن خلافات محلية بين الزعماء. فمن الطبيعي والحال هكذا، ان نقرأ له قصيدة بعنوان «دمعة على الوطن» لكنه لا يذرف الدمعة على بلاد ضائعة، بل على وطن محتل مهدد:
وطني اقوت مرابعه وعرته هزة الوهن
غاله من صحبه فئة اعجبتها خضرة الدمن
خرست لا صوت تسمعه غير صوت القيد والرسن
وننتبه في هذا السياق الى مرجعية «خضراء الدمن» التي حذر منها الحديث النبوي مستنكرا الاغترار بالمظاهر التي قد يكون وراءها خراب وفساد، بل ان الشاعر يحذر شعبه من القيد والرسن معا، حيث ينطوي الاول على معنى القهر، وينطوي الثاني - الرسن على الانقياد لمطالب الطغاة، ويلفتنا في هذه القصيدة انها مكتوبة على البحر المديد الاقل شيوعا بين الشعراء الخطابيين، فهو لا يجلجل ويصرخ بل يهمس وفي صوته حشرجة. اما قصيدته «الضحايا» فتشير الى ان الابطال الذين نخسرهم في دفاعنا عن الوطن، ليسوا مجرد ضحايا، بل هم في جوهر الامر شهداء الوطن:
الضحايا معناهم الشهداء
الالى بعد موتهم احياء
سئموا الارض موطنا ومقاما
فغدت تنتمي اليهم سماء
وهو يميز مفهوم الشقي والشقاء، مؤكدا ان الشقي هو العدو المحتل لانه الى زوال:
والشقي الشقي من يظلم الناس،
فيشقى بظلمه الضعفاء
والسعيد السعيد من اسلم الروح،
وفي قلبه يشع الضياء
والشهيد انما هو سعيد برسالته في سبيل الوطن، وفي هذا تأكيد لمعنى الشهادة في ثقافته الوطنية الموشحة بشعور ديني:
هم ضحايا اوطانهم، واسود
لفظتها من جوفها صحراء
وارتقوا في مراتب الروح افقا
طافه قبل موتهم انبياء
واذا كان هذا نشيدا لتكريم الشهداء من حيث المبدأ، فإن الشاعر لا يلبث ان يحيي شهداء بعينهم شهد على نضالهم وعاصر مصرعهم مثل الشهيد السوري الحموي سعيد العاص والامير فيصل بن الحسين مفجر الثورة العربية الكبرى والشهيد الكبير عز الدين القسام.
والمتأمل في ثنايا «الرحيل» يجد ان نسبة غير قليلة من قصائد هذا الديوان مكرسة للشأن العام: الوطن، نبذ الخلافات، تمجيد الشهداء، نشيد العمال وان كان العمال حسب وعيه البكر كانوا موضوعا للتعاطف والشفقة لا لمواكبة النضال.. ومما سبق نخلص الى ان هذا الشاعر قد محض وطنه والشأن العام كثيرا من اهتمامه الانساني والفني من غير ابتعاد عن التأملات الوجدانية التي هي جوهر مشروعه الشعري.
افكار واحوال
ما ان نطالع القصيدة الاولى من مجموعة الرحيل، حتى يأخذنا عنوانها الدال «على ربوة المناجاة» وهي ارجوزة في شطر وسبعة وثلاثين بيتا، فاذا تذكرنا ان كل شطر فيها، وليس كل بيت ينتهي بقافية موحدة هي الباء المكسورة المرسلة بعد الواو او الياء، وجدنا انها قصيدة بخمسة واربعين شطرا مقفى، تدور كما يقول عنوانها في فضاء مناجاة الله، فهي نص متهجد يطلب الرحمة من العلي القدير للصفح عن ذنوب جمة «تعددت يا خالقي ذنوبي» وذنوبه شبيهة بنساء شعره من حيث انها خيالات وافكار ذهنية، وهو نمط من التذلل الى الله شائع لدى شعراء الصوفية. فإذا وصلت الى القصيدة الثانية وجدتها خطابا حماسيا في تكريم الشهداء والرد على افتراءات الخصوم والاعداء:
زعموا انا وحوش، كذبوا
وادعوا افكاً وزورا وافتراء
ان هذا الزعم لا نعبا به
نحن نوليه ازورارا وازدراء
وينهي بالعودة الى تكريم ابطال الامة وشهدائها، شأن الخطاب القومي الذي كان سائدا في مطلع القرن الماضي يا يد الاقدار ظلي سجلي
من بني العرب ضحايا شهداء
فمن المناجاة الروحية الى الفخار القومي الوطني، تمتد رحلة شاعر شاب لا ينسى وطنه فلسطين:
فلسطين الشهيدة لن تضيعا
ألم نصبغ مرابعها نجيعا؟
ولعل هذه الصرخة انطلقت اثر وعد بلفور الجائر او اي اجراء ظالم للمستعمر البريطاني، ولسوف نرى بعد هذه الابعاد الايمانية والوطنية، روحا قلقة متأملة تخاطب المال:
والعيش في نظري حديث خرافة
ولانت حلوى والانام ذباب
ولن ننسى ان هذا الشاعر كان مؤمنا بدعاوة المشعوذ الفلسطيني التلحمي سليم العشي الذي كان مشهورا باسم الدكتور داهش، وهو خليط من مدعي فلسفة وثائر على المظاهر، يقول مطلق في رثائه:
بشراك داهش اذ حقرت حياتنا
لك جنة المأوى الطريق.. وطوبى
وقد اشتهر بين شركاء مطلق في الدعوة الداهشية شاعر لبناني هو حليم دموس، لكن هذه الدعوة قوبلت باستخفاف وتعامل المثقفون المطلعون معها بوصفها نوعا من الترهات، وان كانت قد حظيت على ما يبدو بمريدين ومعجبين لم يلبثوا ان اختفوا بعد وفاة داهش الذي كاد يدعي النبوة.
على ان ما ظل في شعر مطلق من تلك الدعوة، تلك النزعة التأملية التي يشترك في التزامها الصوفيون والمتفلسفون:
نموت ولكننا يا اخي
نحب الحياة، ولا نعتبر
ومن حق هذا الشاعر ان نحسب له تلك الخصوصية في محتوى خطابه الشعري، فقد ظل منسجما مع نفسه، قد تدعوه المناسبة الى الكتابة في موضوعات مختلفة. لكن فكرة الحياة والموت والعمل في المسافة بينهما ظلت، واذا كان قد افتتح ديوانه بالمناجاة الروحية، فانه يختمه بقصيدة عنوانها «هوان الحياة» ويختمها قائلا:
بني الناس.. دنياكمو جيفة
وليس على ارضكم ما يسرّ
وما تعاليه على الارض الا صبوة الى القيم والمثل العليا فالرحيل ليس جسديا وحسب، بل هو ذهاب الى المعاني المثالية التي شكلت خطابه الروحي والشعري.
ضجعة الموت
ولمطلق عبد الخالق كتاب شعري فريد في نسيجه، هو ضجعة الموت، ولهذا الكتاب عنوان شارح آخر، هو بين احضان الابدية، وهذا الكتاب عبارة عن قصيدة مطولة بأناشيد متعددة تلتزم بحرا شعريا واحدا هو الخفيف.
والطريف حقا ان فكرة الكتاب او افكاره، ليس لمطلق، بل هي كما يشير غلاف الديوان من تأليف الدكتور داهش، استاذ مطلق ومرشده وقد اسندت افكار الاستاذ الى التلميذ فنظمها شعرا حتى بات من الحرج ان ننسب ديوان ضجعة الموت الى مطلق عبد الخالق مع الاعتراف له بنظم هذه القصيدة الفلسفية.
لقد تم توزيع بدايات الكتاب على ستة اقسام، ثم لم يلبث ان انتقل الى سبع انشودات، وعاد الى قسم سابع لتتلوه أناشيد لاحقة، ولو سألته عن سر هذا التوزيع المرهق لما ظفرت بجواب، فتلك طريقة الدكتور داهش الذي كان يتعمد ان يبهر قراءه واتباعه بغرابته وغرائبه.
اما المسار العام لضجعة الموت، فهو رصد للموت الذي يتربص بنا، حيث لا خلاص على الارض الا بالايمان والابداع، فالعطاء رد اكيد على الموت، واذا كان البناء في الاصل سرديا فان مهارة الشاعر نجمت في التخفيف من وطأة السرد ذات الوقع النثري، لان الكتاب يظل شعرا خالصا لا في بنيته وحسب، بل في فكرته المتشابكة مع افكار الصوفيين والاستغراق في فهم الوجود.
واذا اتيح لاحد افراد الاسرة ان يجمع ديوانه الرحيل، فإن فردا آخر قام بتقديم ضجعة الموت، فقد كان الاول كما اشرنا هو صبحي عبد الخالق، وكان الثاني الذي قدم ضجعة الموت هو نمر يزبك رئيس منتدى مطلق عبد الخالق الثقافي الناصرة، وقد قام بتعريف ضجعة الموت بوصفه كتابا من تأليف الدكتور داهش ونظم مطلق عبد الخالق، الا انه ركز على ان افكار ضجعة الموت هي فلسفة مطلق الذي ظل داهشيا ولم يحد عن هذا الخط.
لم يترك مطلق عبد الخالق نتاجا واسعا، لكن القليل الذي قدمه كان دليلا عليه بوصفه احد الشعراء الفلسطينيين الرواد في النصف الاول من القرن العشرين.