كيف ترسم مخيماً للاجئين؟- يوسف أبو لوز
لا تبدأ برسم صبرا وشاتيلا . لا ترسم مخيم جنين والأمعري والبقعة والوحدات .
لا تبدأ برسم تل الزعتر، ابدأ بالزعتري، خذ الرسم من آخره، واقترح ألواناً للمخيمات التي تولد من مخيمات، سلالة من الرياح وفي وجه الرياح . تُنصب خيمة اللاجئ عادة في مكان بعيد عن المدينة . أحياناً في الصحراء . الزعتري، مثلاً في الصحراء، وهذا ما يعطيه نوعاً من الإيحاء الشعري، خصوصاً عندما يتساقط الثلج بغزارة على شعب يعيش في الريح وفي المطر .
الثلج يتساقط، وفيروز تغني “تلج ثلج الدنيا بتشتي ثلج والنجمات حيرانه”، والأطفال الذين ولدوا بعد فيروز بسنوات طويلة لا يعرفون “المعنى الفني” في الأغنية . أغنيتهم بيضاء هذه المرة ولكنها غارقة في الطين . طين اللاجئ الذي يخرج من بلاده بالقليل من المتاع، مثلاً القليل من الذكريات التي تساعده على فكرة العودة إلى بلاده إذا أصبحت أقل ثلجاً من نوع آخر .
ثلج على تل الزعتر .
ثلج على الزعتري .
ثلج على رؤوس أطفال لاجئين مع أمهاتهم اللاجئات .
بعضهن أمهات شابات أنجبن جيلاً من الشعراء . ثلج أيضاً على رؤوس أطفال آخرين في مخيمات لجوء أخرى قد ولدوا من أمهات أخريات . ثلج على المخيم القديم، وثلج على المخيم الجديد، مخيمات على التخوم دائماً . هناك بعيداً عن الأوطان، بالقرب من المدن القديمة العريقة . . بيروت وعمان وبغداد وأسطنبول . مخيمات بسرعة . مخيمات على الخبر العاجل . الكوليرا لم تأت بعد، كأن الجوع والبرد يقضيان على المرض، وإذا مرض اللاجئ ودهمت رأسه الحمى . . يهذي . . زعتر، زعتري، زعتر زعتري . هذيان شعري بامتياز . زعتر “فاعلن”، زعتري “فاعلن”، ولا هذا زعتري ولا هو زعترك . محمود درويش أول من أطلق رائحة الزعتر في الشعر، ولكنه لم يكن يهذي، لم تضربه الحمى التي ضربت المتنبي:
وزائرتي كأن بها حياءً فليس تزور إلا في الظلام
حمى اللاجئ وزيارته وظلامه وثلجه وماؤه واستغاثاته وقوته وضعفه وبطولته واسمه ولونه وصوته ووجهه . . كل ذلك ألوان الرسام .
كيف ترسم مخيماً للاجئين؟
اهدأ أولاً . .
شد القماش على اللوحة، وارسم بالماء كل هذه الشفافية وكل هذه الشعرية اللاجئة، وبهدوء مرّر فرشاة الرسم على وجوه البشر، لا تجرح هذه الوجوه، وارسم وأنت بكامل وعيك الفني، ولا تهذ أبداً، كي لا تخرج اللوحة مريضة بالحمى .