جميلة صيدم: مواجهة مبكرة للزوج مع السرطان - ح 4
الف- غيب الموت في رام الله، السبت (30 تموز 2011) جميلة صيدم أم صبري (64 سنة) بعد سنوات حافلة بالكفاح الوطني والمنفى القسري حتى عودتها عقب توقيع اتفاقية أوسلو العام 1993. طاقم شؤون المرأة وَثَق تجربتها وأصدرها في كتاب "رائدات من بلدي" العام 2006 . ننشر نص البروفايل الخاص بالراحلة وفق شهادتها التي تتناول يوميات حياتها، ينشر النص على عدة حلقات:
4
صمتت "أم صبري" برهة: "كان نشاطه وعمله في تلك الفترة على حساب صحته الأمر الذي أدى إلى تطور المرض، أصبح جسده ضعيفاً نحيفاً فاضطر لمراجعة مستشفى في لبنان وهناك قرر الأطباء إبقاءه في المستشفى ، فانتقلت إلى جانبه برفقة نسرين وابني صبري الذي كان عمره ثمانية أيام فقط، عشت مع الطفلين بمنزل مفروش في بيروت قرب المستشفى، رفض أبو صبري قرار اللجنة المركزية للحركة نقله للعلاج في الخارج حرصاً منه على عدم تحميل فتح نفقات إضافية، وقال أنه مؤمن بإرادة الله وفرجه،وعندما كان أبو صبري يتلقى علاجه في المستشفى اللبناني تزايدت الأوضاع تدهوراً على الساحة الأردنية وواصل رغم مرضه الاطمئنان على المقاتلين، ومع خروج المقاومة من عمان تدهورت صحته بشكل كبير وطلب الأطباء نقله إلى المنزل بعد فشلهم في تقديم أي علاج له، لم أصدق تشخيص الأطباء وبقيت مؤمنة بقدرته على مواجهة المرض".
وبصوت تخنقه العبرات : "جفت الدموع في عيني وسألت نفسي هل يعقل أن أفقد الزوج الغالي أبو صبري، كان يحاول طمأنتي كلما يفيق من غيبوبته بتكراره أنا بخير لا تخافي يا جميلة أنا بصحة جيدة، لكن وضعه تدهور بشكل سريع ودخل في حالة هذيان بمجرد سماعه خبر استشهاد رفيقه القائد العسكري البارز "أبوعلي إياد" في أحراش جرش الاردنية ، كان يفتح عينيه قائلا: أبو علي شجاع أبو علي بطل، نقلناه مجددا للطوارئ وحينها أبلغت إدارة المستشفى أبو عمار والقيادة الفلسطينية أن رفيق كفاحهم في لحظاته الأخيرة لرحيله الأبدي، بدأت الحركة استعدادها لاستقبال أبو صبري شهيداً، في الطريق من المستشفى إلى سوريا كنت أجلس معه داخل سيارة الإسعاف، كان يحاول جاهدا بث الطمأنينة في نفسي، قال لي سأسمع كلامك يا جميلة وأهتم بصحتي وعندما أرتاح من المرض أعدك بالسفر وأخذ قسط من الراحة في الخارج، لم يتحقق وعده وقبل ساعات من استشهاده زاره أعضاء القيادة على رأسهم أبو عمار وأبو جهاد أخبرهم بصوت ضعيف واهن: خذوا بالكم من أنفسكم وابقوا أيديكم على الزناد، ثم أسلم الروح بهدوء وكنت حتى آخر لحظة على يقين أنه لن يموت بهذه السرعة".
لم تبك لكنها تابعت بصوت يقطر حزناً: " كان يتوقع الاستشهاد في كل لحظة ، نصبوا له الكمائن لكنه لم يستشهد، وخاض معارك عديدة وكثيرة لكن السرطان تمكن منه وخطفه منا، ومازلت حتى الآن أشعر بكل تلك الدقائق والثواني التي عشت فيها مع الإنسان المقاتل الوطني الغيور، لم نعش سوى ثلاث سنوات أنعم الله علينا بأبني نسرين وصبري وهما الآن كل حياتي" .
بدت متعبة لكنها متماسكة وهي تستعيد ذكريات سنوات عاصفة في حياتها: "بعد استشهاد زوجي كانت حركة فتح تصرف بعض المساعدات والاشتراكات لأرامل الشهداء من عناصرها تحت بند تجهيز عسكري، وكانت المساعدات توزع حسب الحاجة، عشنا على راتب صغير لم يكن كافياً، لكنني تأقلمت معه خاصة وأن طفلاي كانا صغيرين، لم تتجاوز نسرين عاما ونصف وصبري الأربعة أشهر، بعد استشهاد والدهما عاهدت نفسي على غرس مبادئه وأحلامه فيهما، كنت أسرد عليهما ما سمعته منه طوال الفترة التي عشناها سوياً ، لكنني حقيقة واجهت متاعب ومشاق كبيرة، وبدأت أشعر بثقل فقدان رب الأسرة، أخذ الصغيران يكبران وتتسع أسئلتهما عن سر غياب والدهما الطويل، في البداية أخبرتهما أنه مسافر وأنه سيعود، لكن المفاجأة كانت عندما كشفا السر متسائلين: كيف يسافر ونحن نزور قبره ؟ إضطررت لاعلان الحقيقة وقلت لهما أن كل شهيد يسافر إلى الجنة لأنه حي لا يموت ، لا أعرف إن كانا قد تفهما معنى كلماتي في ذلك الوقت إلا أن علاقة حميمة جداً ربطت بيننا وظهر لديهما إحساس مبكر بالمسؤولية، واجهت لحظات قاسية صعبة تمنيت فيها لو كان أبو صبري معنا وكنت أحياناً أغرق في نوبة بكاء عندما أراقب نسرين وصبري يكبران في المنفى بعيداً عن الأهل والوطن، إجتهدت بتسجيلهما في مدارس رفيعة المستوى وبدأت أرتب احتياجاتهما وفقاً لأوضاعنا المالية، وبدءا يتفهمان معنى أن يكونا من ذوي الشهداء، نمت مداركهما ووعيهما مبكراً الأمر الذي سهل عليّ نشاطي السياسي والتنظيمي أثناء الاجتياحات التي كانت تنفذها قوات الاحتلال للأراضي اللبنانية في محاولة يائسة للقضاء على الثورة الفلسطينية".
واصلت عملها التنظيمي وأصبحت عضو إقليم ونالت حضوراً واحتراماً بين رفيقاتها في الساحات الأخرى، إلا أن صعوبة وضعها المالي كان هماً رغم أن الحركة وفّرت لها مساعدة مالية لتغطية مصاريف تنقلاتها وعملها في الساحات المختلفة، ومع قيام قوات الاحتلال الاسرائيلي بغزو لبنان عام 1982، تحملت أعباء جديدة في الساحة السورية تقتضي مساعدة الأسر التي هاجرت من لبنان هرباً تحت القصف الاسرائيلي المتواصل :" شكلنا لجانا متخصصة لمواجهة تبعات العدوان وبدأنا ترتيب أمور الأسر التي وصلت سوريا ووفّرنا للأفراد مأوى في البيوت والمنازل الفارغة أو لدى العائلات التي تبرعت باستقبال أسر مهّجرة، وفي أحيان كثيرة أقمنا خياماً لاستيعاب المزيد من النازحين" .
كانت فخورة وهي تصف صمود الثورة في بيروت التي قاوم فيها المقاتلون الفلسطينيون واللبنانيون رغم حصارها لمدة تزيد عن الثمانين يوماً، لكن صوتها بدأ يكتسي بنبرة حزن عندما تحدثت عن الانشقاق الكبير الذي عصف بحركة فتح في أيار عام 1983 وتزايد مصاعبها بعد اعلان سوريا تأييدها الفريق المنشق: "واصلت البقاء في سوريا رغم كل الضغوط التي تعرضت لها وساعدني في ذلك علاقتي الجيدة بفصائل العمل الوطني حتى بدأت الاستعدادات لعقد الدورة السابعة عشرة للمجلس الوطني في عمان عام 1984، طلب مني الأخ الرئيس أبو عمار الرحيل من سوريا بداعي إدراج إسمي على اللائحة السوداء للشخصيات الفتحاوية التي بقيت داخل الساحة السورية، حاولت إقناعه البقاء في الشام حتى ينهي نسرين وصبري تعليمهما الثانوي، لكنه أصر على قراره، تقرر سفري الى تونس للمشاركة في الاعداد لاجتماع الاتحاد العام للمرأة الفلسطينية الذي كان سيعقد استعداداً للمجلس الوطني، عندما صعدت الطائرة المتجهة إلى تونس وصل الأمن السوري وأخرجني منها وحظر سفري، عدت إلى منزلي ثم كررت فيما بعد محاولة السفر مرة أخرى، حزمت أمتعتي سراً ولم أبلغ أحداً بالقرار إلا صباح يوم المغادرة، وطمأنت ابناي أنني سأعود بعد يومين وتركتهما لدى أمي التي قدمت من الأراضي المحتلة لزيارتي، سافرت إلى تونس ومنها إلى عمان وشاركت في المجلس الوطني، وأثناء وجودي في الاردن أصدرت الحكومة السورية قراراً بحظر عودة المشاركين بدورة المجلس الوطني إلى سوريا، غادرت إلى تونس وبقيت نسرين وشقيقها صبري في الشام، تدخل الأخ أبو عمار ثانية وعرض علّي أن يتابع ولداي تعليمهما باحدى المدارس اللبنانية في لندن استعداداً للجامعة وهذا ما تم فعلا ، إلتحقا في المدرسة اللبنانية وأثبتا كفاءتهما وحصلا على علامات عالية أهّلتهما لدخول جامعة مميزة في بريطانيا، حاول البعض إقناعي بأن دراستهما هناك تفسد أخلاقهما وتضيع مستقبلهما لكني رفضت هذا المنطق، وقلت لهما إذهبا للدراسة في لندن وارفعا قامتكما عالياً وحافظا على اسم والدكما، وهذا بالفعل ما كان والحمد لله نجحا، عندما كان صبري ونسرين يتقدمان بالدراسة كنت أتذكر والدهما وأتمنى من كل قلبي لو كان حياً ليشهد تفوقهما" .
أفاضت كثيراً عن زوجها الراحل اكثر مما تحدثت عن نفسها وحين سألنا كشفت السر : " كان وما زال كل شيء في حياتي، وبعد استشهاده لم أفكر بالزواج رغم العروض العديدة، عاهدت نفسي أن لا أتزوج أحداً وتركيز إهتمامي فقط بمتابعة شؤون نسرين وصبري اللذين كبرا معي وأصبحا قطعة من روحي وكياني" .
من كتاب "رائدات من بلدي". إصدار طاقم شؤون المرأة. تحرير بسام الكعبي. أجرى المقابلة الصحفية في غزة حسن جبر.