كريم مروة في سيَر المثقفين الفلسطينيين وأعمالهم- أحمد جابر
فلسطين وقضية الحرية، في سير المثقفين الفلسطينيين وإبداعاتهم، كتاب كريم مروة الجديد، أو مدخله الإضافي إلى عرض «سيرته الذاتية»، وهو يستعرض سير الآخرين. من البداية، كاتبنا ليس محايداً، هو الجنوبي الذي جاور فلسطين، فأحبها جارة قريبة من القلب، ثم حملها قضية تثقل على العقل والقلب، ولأنه كذلك، انحاز إلى المنحازين في كتابتهم، لأنه -على رأي إدوارد سعيد- لا وجود لمثقف محايد.
من بندلي الجوزي إلى ناجي العلي، ثمة خيط جامع، خيط متين على شفافيته، وجارح على رهافته، وصارخ على هدوئه وسكينته، هو خيط القضية الفلسطينية، التي سال دمها منذ مطالع القرن العشرين، فكانت لها مواقعها، وكانت لها أيامها الغاضبة والدامية.
جيل «الذاكرة»، الذي أتى به كريم مروة، معظمه عاصر ثورة 1936، وعاش نكبة 1948، وتذوق مرارة الهزيمة الإضافية عام 1967، وتسلح بالأمل المتجدد بعد انطلاقة الكفاح المسلح عام 1965، وتجرع مرارة الشتات الجديد بعد الاجتياح الإسرائيلي عام 1982، وتنقل بين الواقعية والتمسك بالحلم «العذري» الثوري، كما هو بعد كل التطورات التي عرفتها القضية الفلسطينية بعد هذا التاريخ.
الجيل نفسه، كان جيلاً حزبياً في معظم أفراده، وحزبيته الغالبة كانت ماركسية، وانخراطه في الحياة السياسية كان من خلال الأحزاب الشـيوعية في فلـسطين أو في الأردن، البعض بدأ ماركسياً، والبـعض الآخر جاء إلى الماركسية من حركة القـومييـن الـعرب، ووحـده كمال ناصر جاء من حزب البعث، لكن الجميع أتوا من «ملهم» واحد: الدفاع عن القضية الفلسطينية، منذ أن وضعت الحرب العالمية الأولى أوزارها، وبات الشعب الفلسطيني، وأرضه، في مرمى التناهب الدولي، الذي كان اتفاق سايكس – بيكو عنوانَه المشؤوم، ووعد بلفور نصلَه القاتل، الذي غُرز في صدر المنطقة العربية.
طبيعة الانتماء الحزبي، بمرجعيته الفكرية ، كانت من بنات العصر، ولم تكن غريبة عنه، أو دخيلة عليه، لأن كريم مروة أراد أن يقول تلميحاً إن «الفكر الاشتراكي» كان حاضنة لكل تحرر، وإن «الاشتراكية» ستظل حلماً ممكناً، وطريقاً لا بد منه لكل من يطرق باب التقدم والحرية والاستقلال. نلحظ ذلك في نمط الكتابة التي تناولت جذور القضايا ولم تتوقف عند يومياتها التي طفت على السطوح، تلك هي حال بندلي الجوزي، الذي تناول تاريخ الحركات الفكرية في الإسلام، وإميل توما الذي تناول تاريخ مسيرة الشعوب العربية وجذور القضية الفلسطينية، وغسان كنفاني الذي ركز على دور المثقف ومفهوم النقد، الذي يجب ألا يبطله الدور السياسي، وإحسان عباس الذي جعل من المعرفة حزباً يتطور بقدر ما يتعمق، ويستمر في الحياة طالما أنه يصل إلى الجمهور، ومحمود درويش الذي رفع الشعر إلى مرتبة الهوية الوطنية والإنسانية، فجعل وطنه وطناً عابراً للحدود، أي صار أكبر من قصيدة وأعمق من حرف، وبات معادلاً للمفهوم الذي تجدده القوافي، ويجددها في الوقت ذاته.
ومن اللافت في «تذكر» كريم مروة، إعادة موضعة «أبطال» ذاكرته، في السياق الاجتماعي والسياسي الذي واكب تجاربهم، وشكّل إطاراً عاماً لها. لقد صعد شعر الذين استدعوا إلى الحضور على هام الحراك الاجتماعي، ومع الشعر صعد النقد والقصة والسياسة والتاريخ، وحضرت المبادرة السياسية والثقافية، والانخراط العملي في كافة الميادين، فتوفيق زياد مثلاً، كان في «يوم الأرض»، ودافع عن حرمة «بلديته»، عندما رفض دخول الشرطة إلى اجتماعاتها، وتقدم الصفوف في تحركات 1982 رفضاً للاجتياح الإسرائيلي لبيروت، ورفع صوت شعبه داخل أروقة الكنيست الإسرائيلي، عندما انتخبه شعبه لتمثيله في هذه المهمة. غسان كنفاني هو الآخر، ناضل بقلمه وموقفه، حتى قتلته كلمته، وفدوى طوقان رفضت التقاليد الاجتماعية التي قضت ببقائها في الأسر، وتابعت عنادها حتى تمكنت من تحطيم قيود «أنثويتها» وشاعريتها. ناجي العلي، لم يقصر في هذا الميدان، جاء بـ «حنظلة»، وبـ «مفرداته»، وبعناده حتى دفع حياته ثمناً في سبيل ما آمن به، وما تشبث بالوقوف عنده حتى آخر قطرة حبر. تلك الحركية العالية كانت لها منابرها ووسائل تعبيرها. في هذا المجال يستعرض كريم مروة أسماء صحف كان لها الدور الريادي في نقل الموقف والكلمة، ومعه نتعرف على جريدة «الغد» و«الاتحاد» و«الحرية» و«الرأي»، و«المهماز» و«المقتطف» و«الهلال»، و«الأمالي» و«النفائس» المصرية، و«الدرب» و«الجيل الجديد»... ومع الصحف تحضر أسماء روابط وتشكيلات، نقابية وطلابية وثقافية وسياسية، كانت بمثابة تعبير حي عما عصف بالبلد الفلسطيني وبالبلاد العربية في واقع تلك الأيام.
لم يفت كريم مروه أن يعرض لمواقف إشكالية سياسية وثقافية، ميزت سيرة بعض المثقفين الفلسطينيين، لاسيما الذين أقاموا في الداخل، وعمدوا إلى تدوير الزوايا قليلاً، في سبيل إدامة هذه الإقامة. إميل حبيبي كان المثال الأبرز على تلك الإشكالية، وإن لم يكن الوحيد في مربعها الصعب. عناصر الإشكالية الأساسية كانت الموقف من إسرائيل كوجود، ومن حق اليهود فيها، وحقوق العرب المستباحة داخلها. لقد ساجل الكاتب مع تلك المواقف، لكنه فهمها بحدودها، و «عذرها» برحابة لايقينية، طالما أن اللايقين بات يحيط بكل شيء بعد التجربة الاشتراكية والقومية المديدة، وما آلت إليه في خواتيمها.
يطيب للقارئ، أن يشارك كريم مروة عبارة محمود درويش: على هذه الأرض ما يستحق الحياة، ويعجبه، أي القارئ، ما قاله ناجي العلي، أن واجب المثقف الالتصاق بالناس، فلا يكون ذا ضمير رخو، ولا يتحول إلى أداة، من قبل الذين يمضون في قهر الناس... لذلك ولأسباب أخرى، كتب كريم مروة، لأن في المستقبل ما يستحق الحياة، ولأن أبناء الحياة يذودون عن السعادة فيها حتى آخر قطرة حزن في عيونهم.