انتخابات الكنيست . . ملاحظات وظواهر لافتة- مأمون الحسيني
أثارت انتخابات الكنيست “الإسرائيلية” ال 19 ضجيجاً وصخباً واسعين في وسائل الإعلام المرئية والمسموعة العبرية والعربية والعالمية، وأسالت حبراً كثيراً على صفحات الصحافة المكتوبة في مختلف دول العالم، والتي ركّز معظمها على مقاربة السيناريوهات المعقّدة للتشكيلة الحكومية المقبلة تحت ظلال التوازنات الجديدة التي خالفت كل التوقعات السابقة، وأعطت معسكر اليمين الصهيوني والديني أغلبية مقعد واحد أو اثنين، وحوّلت “فقاعة” النجم الإعلامي يائير ليبيد (هناك مستقبل) إلى “بيضة قبّان” في الحلبة السياسية . ومردّ هذا الاهتمام هو أن وضع “إسرائيل” الراهن بات معقداً وينوء بأحمال داخلية ثقيلة، على صُعُد السياسة والمسائل الاجتماعية الاقتصادية، وغامض المستقبل وإشكالياً وخطراً، على المستوى الخارجي، نتيجة انسداد أفق الحلول السياسية مع الفلسطينيين، وانفتاح الخريطة السياسية الإقليمية على مختلف الخيارات، ومراوحة النزاع المتوتر مع إيران في المربع القابل للانفجار ذاته، وارتفاع منسوب العزلة التي تطوّق عنق الدولة العبرية .
ومع أن التوازنات المستجدة ضيّقت خيارات بنيامين نتنياهو الذي بدأ مشاوراته لبلورة ائتلاف حكومي بعد أن أعلنت اللجنة الانتخابية المركزية فوزه بحسب النتائج النهائية للتصويت، ووضعته أمام مهمة شاقة لن تفضي، في كل الأحوال، إلا إلى صياغة تشكيلة حكومية هشّة وغير مستقرة، سواء أكانت من اليمين الصهيوني والديني، وهو خيار بات بعيد المنال، أم مما يسمى اليسار والوسط، إضافة إلى الحريديم، وهو خيار ضعيف الاحتمال أيضاً، أم حكومة ائتلافية واسعة من اليمين ومعسكر الوسط، وهو خيار قابل للتحقق، سواء مع الحريديم أو من دونهم، إلا أن الأهم هو تلك الملاحظات والظواهر المفعمة بالدلالات التي ظهّرتها الانتخابات التي خرج منها قطاع المستوطنين بأرباح صافية، بعد أن انحازت إليه وباتت تمثل مصالحه أغلبية وازنة من “الليكود” بزعامة موشي فاغلين، و”إسرائيل بيتنا”، إضافة إلى كل من “البيت اليهودي” بزعامة نفتالي بينيت الذي تشكل من ائتلاف بقايا “المفدال” التاريخي، وبقايا حزب “هاتحياه” الذي تحول إلى “تيكوما” أي “البعث” الصهيوني الذي يدعو إلى تدمير مسجد قبة الصخرة لإقامة الهيكل المزعوم مكانه، وحركة “شاس” الممثلة الرئيسة لليهود الشرقيين .
الأبرز في الملاحظات، وبخلاف الزعم أن الانتخابات أعادت “إسرائيل” إلى الوسط، هو أن الأغلبية مازالت بيد اليمين، وأن النواب في الكنيست الجديدة لن يكونوا أقل تطرفاً من سابقيهم . وليس من قبيل المصادفة أن يبدأ نتنياهو تصريحاته السياسية بالحديث عن مواجهة الخطر النووي الإيراني، الذي يعد بمرتبة المغناطيس الذي يجذب الأحزاب إلى الائتلاف . أما الملاحظة الثانية فهي سعي رئيس الوزراء المخضرم إلى تشكيل ائتلاف واسع، انطلاقاً من الاعتقاد أن هذا يساعده على الساحة الدولية، ويجعل حكومته أقوى وأكثر قدرة على مواجهة الضغوط، فيما تتصل الملاحظة الثالثة بالناخب العربي الذي كان بإمكانه زيادة عدد مقاعد القوائم العربية، لكنه لم يفعل وبقيت الأمور على ما كانت عليه، رغم الارتفاع الطفيف والمهم في نسبة التصويت .
وتبقى الظواهر التي أضاءت عليها الانتخابات، ويمكن تكثيفها بالتالي: غياب موضوع التسوية و”السلام” الذي ظل لنحو عقدين محور النقاش العام في “إسرائيل”، عن الخطاب الانتخابي بشكل شبه كامل؛ وتهرّب الأحزاب اليهودية كافة، باستثناء “ميريتس”، من وصمها بالصبغة اليسارية . وهذا لا يسري فقط على حزبي “الحركة” بزعامة تسيبي ليفني، و”هناك مستقبل” اللذين حرصا على تثبيت هويتهما الوسطية القريبة من اليمين، بل أيضاً على حزب العمل المصنّف في خانة ما يسمى “اليسار”، سواء على صعيد موقفه من التسوية السياسية، أو بحمله بعض الآراء الاشتراكية الطوباوية، على الصعيدين الاجتماعي والاقتصادي، والتي لم تترجم قط على أرض الواقع . أما الأهم، في هذه الظواهر، فهو صعود نجم “المتدينين القوميين” من أصحاب القلنسوات المطرّزة، وتنامي حضورهم السياسي والشعبي، بعد تسللهم إلى أكثر من مؤسسة كانت تعد من قلاع العلمانيين، مثل محكمة العدل العليا، ورئاستي الشاباك ومجلس الأمن القومي، وسلك القيادة في الجيش، فضلاً عن السلك الأكاديمي .
ومهما يكن من أمر الخريطة المعقدة للكنيست ال 19 واحتمالات تشكيل الحكومة، فإن المرجح هو بقاء العملية السياسية مع الفلسطينيين في حالة موت سريري، وتواصل عمليات الاستيطان الذي يمكن أن يقود إلى انتفاضة جديدة، أكدت إمكان اندلاعها مختلف الأجهزة الأمنية “الإسرائيلية” . أما في المحيط الإقليمي، فستواجه الحكومة المقبلة تحديات غير مسبوقة، سواء على مستوى الوضع السوري، أو على مستوى التطورات الأردنية التي تثير علامات استفهام متعددة، وصولاً إلى مصر التي تبدو بعيدة عن الاستقرار السياسي والاقتصادي والأمني، فضلاً عن المأزق مع إيران التي رحّل نتنياهو التعامل مع ملفها النووي حتى الصيف المقبل .