على ضفاف المرج
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
عميد شحادة
كانوا عشرة أطفال، يركضون من بعيد وقد سبقتهم أصواتهم حين صاحوا بكلمات غير مفهومة، وقبيل وصولهم إلى السهل المحاذي لقرية صانور في جنين والمسمى "مرج صانور"؛ توحدت حناجرهم مرددين "بحر.. بحر.. بحر."، حتى أنهم خلعوا ملابسهم قبل بلوغ التلة المطلة على السهل، وقفوا برهة فوقها، ثم غطسوا سابحين في وحل سبعة آلاف وخمسمئة دونم غمرتها مياه أمطار المنخفض القطبي الأخير وحولتها الى ما يشبه حقا البحيرة.
واحدٌ فقط من الأطفال العشرة خلع ملابسه ولم يسبح، ظل واقفا كالغريب على شاطيء المرج، كان عارياً، صامتاً، خجولا وشارد الذهن.
على يمين الطفل الغريب، يجلس شاردَ الذهن أيضاً الفلاحُ صلاح العيسى من قرية صانور، ورغم تحديقه المتواصل في السهل الغارق، إلا أنه كان واضحا عدم مجيئه لاحتساء مشهد جميل بغرابته، فهو جاء ليتحسر، بعد أن غرقت أربعة وتسعون دونما من أرضه، ويقول "أنا والمزارعون لا أصعب علينا من رؤية أراضينا مدفونة بالمياه، ضاع الموسم".
عادة يرفع المزارعون أيديهم راجين السماء ماءً، حتى أنهم يشتمون المذيع حين يصف المطر الغزير بـ"أحوال جوية سيئة"، عشرات السنين مرت ولم يكن المطر فيها نهرا متقطعا ولا بـ"نبع نزّاز"، الأرض في جنين حقا عطشى، تنجب خيرا مشوها، لطالما سرق الاحتلال مياهها وبخلت السماء في ريّها.
اشتدت دموع السماء مؤخرا، وهذا مرج صانور المحاط بسلسلة جبيلة والشبيه بطبق عميق، لم يرتو، بل اختنق غرقاً.
يقول المهندس منذر صلاح نائب مدير مديرية زراعة جنين: "مساحة المرج 12 ألف دونم، والآن 7442 دونما تحت حالة الغرق التي قد تستمر إلى فصل الصيف. كان هناك عدة توصيات لتفادي الغرق، كحفر آبار ارتوازية لتغذية المياه الجوفية هناك، أو تجميع المياه في برك داخل السهل، أو فتح قناة لتصريف المياه، لكن هذه الحلول لم تُنفذ، لأنها مكلفة بالدرجة الأولى. المزارع ينتظر قدره لا أكثر".
قدر المزارعين يصنعه أحيانا المزارعون بأيديهم، فلديك مثلا هذا المزارع الذي عَرف عن نفسه بـ "صاحب مزرعة في الواد"، كان متحمسا لسرد مأساته للصحافة. هو أحد الذين نفقت أغنامهم بفعل غزارة الأمطار، ولكي يقطع شكنا باليقين، سار بنا في الوادي حتى وصل مجرى المياه القريب من مزرعته، وأشار بسبابته إلى حيث تكدست جثث وأغلقت مجرى الوادي المخصص لتصريف المياه، وقال: "انظروا .. تلك هي أغنامي".
المهندس إبراهيم دواس مسؤول قسم الإنتاج الحيواني في مديرية زراعة جنين، يتحدث عن نفوق 340 رأس غنم، و40 عجلا وبقرة واحدة، فضلا عن الخسائر التي لحقت المنشئات والأعلاف.
قرى فلسطينية ومدن لها طابع الانخفاض؛ ليس عجيبا غرقها ما دامت تتسابق في الامتداد إلى الحفر، في حين تعربد المستوطنات فوق قمم الجبال. قد يعتبر الناس من هذه الفكرة، كيف يعتبرون؟ ذاته المزارع الذي ماتت أغنامه غرقا بكاها ثم ألقاها في مجرى المياه القريب من مزرعته.
الطفل الغريب ما زال واقفا على شواطيء مرج صانور، فيما رفاقه يسبحون. استدارت الشمس في وسط السماء، وبدأت العائلات بالتوافد من القرى المجاورة إلى المرج للاستجمام. عابروا سبيل أوقفوا سياراتهم ونزلوا لالتقاط صور تذكارية على ضفاف السهل الغارق.
حزم الطفل الغريب سترته ومضى تاركا رفاقه في الوحل، ربما كان خائفا أو سرت برودة الجو إلى جسده، وإلا لماذا مضى إذاً؟.
كان أصغر من أن يسخر أو يحزن، لأن للناس كان يوما بحرٌ أبيضُ متوسط، يتكئ عليه الوطن.