محاكمة "العدالة" الإسرائيلية تلفزيونياً- قيس قاسم
يحاكم البرنامج التلفزيوني «القانون في هذه الأجزاء» النظام القانوني الإسرائيلي الخاص الذي وضعه حقوقيون عسكريون ليطبقوه على سكان الضفة الغربية وقطاع غزة بعد احتلالهما عام 1967، وظل سارياً حتى اللحظة، وبموجب فقراته، التي كُتبت بما يتوافق مع مصالح السياسة الإسرائيلية، وجد قادة الجيش فيها كل ما يحتاجونه من مسوغات قانونية تبرر لهم ممارستهم العدوانية ضد الفلسطينيين.
البرنامج الذي عرضه التلفزيون السويدي ضمن سلسلة وثائقيات «دوكس» أقام محاكمة «صحافية» لعدد من واضعي القوانين الأوائل، وطرح عليهم أسئلة تتعلق بأسباب كتابتها والطريقة التي نفذت بها وما إذا كانت هناك مبررات عملية دفعتهم لوضعها، غير تكريس الاحتلال والتغطية على ممارساته العدوانية، وأيضاً لتبيّض وجه إسرائيل وظهورها أمام العالم كدولة ديموقراطية تراعي القوانين والمعاهدات الدولية الخاصة بحقوق الإنسان. وسألهم عما إذا كان بإمكان المُحتَل، حقاً، تحقيق العدالة لشعب قام هو بالاستحواذ على أرضه بالقوة وخطط للبقاء فيها إلى الأبد؟
قوانين معدة للاحتلال مسبقاً
قوانين غريبة، كتبها حقوقيون تابعون للوحدة القانونية في الجيش الإسرائيلي. ظلوا متخفين في الظل يكتبون الأوامر والقوانين خلف الكواليس ولم يعرف عنهم الكثير لأن عملهم لم يوثق في تسجيلات بصرية أو سمعية، عدا ما دوّن منه على الورق وقد حصل عليها البرنامج واعتمد في «محاكمته» لهم عليها.
أخطر ما كشفه الوثائقي أن اللوائح القانونية التي طبقت في الضفة والقطاع كانت كتبت قبل دخول إسرائيل إليها، وإنها كانت محفوظة من دون كتابة تاريخ معين عليها داخل الخزانة السرية التابعة للوحدة القانونية في الجيش وإن كتّابها دخلوا دورات خاصة ودرسوا القوانين الدولية والمعاهدات الخاصة بالاحتلال، خصوصاً معاهدة جنيف. ووضع القانوني مير شافعار، كما قال، كراساً فيه كل التعاليم والإجراءات القانونية التي يحتاجها الجيش إذا ما احتل منطقة من مناطق الدول المجاورة في أي وقت كــــان. المنشورات التي كتبوها منذ دخول الجيش إلى مناطـــــق الـ67 كانت تتضمن فكرة أساسية تقول: «أيها الفلسطيني من اليوم فصاعداً يجب أن تعرف أن حياتـــك قد تغــــيرت وستسير وفق تعليماتنا وإن خرجت عنـــها ستعاقب وتقــــدم للمحاكم العسكرية!». لـــقد أخضعت القوانين الجديدة أكثر من مليون فلسطيني لإرادة القائد العسكري واكتسب بفضل الصياغات القانونية المجــــحفة والتي تتعارض مع القوانين الدولية في جوهــرها كل كلمة من كلماته صفة القانون الملزم.
أتاحت القوانين المعمول بها في المناطق المحتلة معاملة كل المقاومين الفلسطينيين وبخاصة أعضاء منظمة التحرير الذين وقعوا في الأسر كإرهابيين وليسوا كأسرى حرب، وكل مساعدة لهم تضع صاحبها تحت طائلة القانون.
سجل البرنامج، الذي كان يعرض كخلفية للـ «محكمة» لقطات من أرشيف تلفزيوني لامرأة فلسطينية حكم عليها بالسجن لأنها قدمت الطعام لفدائي جائع دخل قريتها.
"الأرض الميتة"
خرقت القوانين الإسرائيلية في شكل فاضح الفقرة 49 من معاهدة جنيف التي تمنع المحتل من إسكان مواطنيه المناطق التي يحتلها، وطبق قادة اسرائيل سياسة استيطان ممنهجة، اعتمدت على طرد الفلسطينيين من قراهم وجرف مزارعهم وإقامة مستوطنات فوقها استناداً إلى حجة قانونية مفتعلة أطلقت عام 1979 تحت اسم «الأرض الميتة» وتعود إلى نص في القانون العثماني كتب في عام 1800 ويعطي للدولة الحق في السيطرة على الأراضي الخاصة إذا لم تزرع خلال ثلاث سنوات. على هذا النص أقام وحتى اللحظة نصف مليون مستوطن إسرائيلي فوق أراضي 67.
أجبرت «الانتفاضة» عام 1987، الجيل الجديد من القانونيين الإسرائيليين على إعادة النظر في بعض القوانين القديمة، كمحاولة منهم للتلاؤم مع الواقع الجديد الذي فرضه المنتفضون، ولإدراكهم الإشكال الحقيقي الذي وضعوا فيه. فهُم من جهة يمثلون مؤسسة الجيش، ويريدون كما يدعون تحقيق العدالة لكنهم في نظر الطرف الثاني ليسوا سوى أدوات خطيرة في يد العدو.
ويعترف الكثير منهم بصحة الشكاوى المقدمة ضدهم خلال أدائهم عملهم وأنهم تحت ضغط العمل كانوا يطلقون أحكاماً مخالفة لحقوق الإنسان، لكثرة عدد المتهمين أمامها، فعرض أكثر من مئتي منتفض يوماً أمامهم جعلهم يتسرعون ولا يراجعون الشروط المتبعة في أي محاكمة عادلة.
أكبر الإحراجات التي واجهت الحقوقيين العسكريين في البرنامج جاءت بعد كشف صمتهم إزاء ممارسات الأجهزة الأمنية ضد المعتقلين وتعرض كثير منهم للتعذيب من أجل انتزاع اعترافاتهم بالقوة، وكيف مارست تلك السلطات دوراً كبيراً في توفير قناعات عندهم بجرم المقدمين لمحاكمهم بناءً على ما وفروه لهم من «أدلة» كان القضاة يأخذون بها من دون مناقشة أو اعتراض. في النهاية يلخص حديث أحد المسجونين الفلسطينيين عام 2011 حال «العدالة» الإسرائيلية اليوم في تسجيل مصور يقول فيه: «سأؤمن بديموقراطية دولة إسرائيل بالكامل إذا برأتني محاكمها من التهم الموجهة إلي وكلها باطلة".