أخرِجوا قصائدكم الضاحكة من الأدراج- شوقي بزيع
قليلة هي القصائد والنصوص الإبداعية التي تعكس فرح الإنسان وسعادته واحتفاءه بالحياة، وبخاصة إذا ما قيس حجم هذه النصوص بأطنان القصائد التي انبثقت عن الألم والحزن ومرارة العيش . على أن الأمر ليس مستغرباً بأي حال لأن الفن في جوهره هو محاولة يائسة لتضليل اليأس ومراوغة الموت، وللتعويض الرمزي كما تُلحقه الحياة بأصحابها من آلام وعثرات .
تبدو الكتابة في هذه الحال نوعاً من العزاء الذي يجترحه الإنسان لنفسه فوق أرض مثلومة بالفقدان . سواء تعلق الأمر بفقدان الوطن أو الحبيبة أو الشباب أو الطمأنينة . لهذا يندر أن يلجأ الإنسان السعيد والمطمئن والمترع بالفرح إلى الكتابة، لأنه مكتفٍ بما يملكه ومتصالح مع نفسه ومع العالم، ولأنه يحتاج إلى العصب المتوتر والجيشان الداخلي الذي يقف وراء كل كتابة حية وخلاقة . على أننا رغم ذلك لم نعدم وجود شعراء كبار استطاعوا على مدى العصور أن يحولوا الحياة، كما الشعر، إلى كرنفال حقيقي من الرغبات واللذائذ الدنيوية، وأن يهبوا أجسادهم للفرح والمتعة كما فعل عمر بن أبي ربيعة وأبو نواس ونزار قباني وكثيرون غيرهم .
على أن نوعاً آخر من الأدب والشعر عرفه العرب منذ عصورهم الأولى هو أدب المنادمة والظرف وجلسات السمر التي يعقدها الشعراء في ما بينهم، ويتراشقون خلالها بالمدائح أو الأهاجي، كما بالنكات اللمّاحة والتعليقات الذكية والساخرة . ولا أقصد في هذا المقام الأهاجي السوداء والمرة التي تنسب للحطيئة أو الثلاثي الأموي أو بعض هجائيات بشار وابن الرومي، بل أشير إلى دعابات الأصدقاء في مجالس الشراب، أو قصائد “الإخوانيات” التي تنضح بالمودة والحب حول كؤوس الشاي، كما إلى القصائد والمقطوعات التي تتناول الأوضاع السياسية والاجتماعية المتردية بالنقد اللاذع والعبارات الساخرة والتصوير الكاريكاتيوري .
من بين هذه النصوص أتذكر بيتين اثنين لشاعر عباسي متأخر يدعى أبا سعيد الجزار . وأبو سعيد هذا كان شاعراً معروفاً في عصره، ولكنه كان يعاني الفقر المدقع بسبب ابتعاده عن مديح الحكام وكساد الشعر في عصره . لذلك فقد ترك الشعر واتجه إلى مهنة الجزارة أو القصابة، عسى أن يرد عن نفسه وعن عائلته غائلة العوز والجوع .
وحين عوتب أبو سعيد على فعلته قال ساخراً: “كيف لا أتبع القصابة ما عشت/ حياتي، وأهجر الآدابا/ وبها صارت الكلاب ترجّيني/ وبالشعر كنت أرجو الكلابا” .
يذهب الشعر في هذه الحال إلى المكان النقيض لمأساة الإنسان الوجودية، ويحوّله الشعراء إلى مادة للظرف والفكاهة والترويح عن النفس، مستفيدين من موهبتهم العالية وذكائهم اللماح وقدرتهم على التصوير الكاريكاتيوري الساخر . وقد شاع هذا النوع من الشعر في الكثير من بلدان العالم العربي، متوسلاً اللغة الفصحى حيناً، واللهجة المحكية حيناً آخر . وفي لبنان، وبخاصة في جنوبه، ترك لنا الشعراء إرثاً غير قليل من شعر “الإخوانيات” الذي كان يُنظم في جلسات الشراب والأنس، وحول “السماور” الذي تحوّل بدوره إلى مادة للارتجال والتغزل والمناقشة الضاحكة . ومن أبرز الشعراء الذين برعوا في هذا المجال محمد علي الحوماني ومحمد كامل شعيب وموسى الزين شرارة وعبد الحسين عبدالله وعديدون غيرهم . ومن طرائف الشاعر شرارة المقطوعة التي نظمها في صديقه حليم دموس، بعد أن حصد هذا الأخير معظم الجوائز التي كانت تمنحها الدولة والهيئات الثقافية للشعراء . وقد جاء فيها: “أحليمُ لم يجر السباق بحلْبةٍ / وبه إلى السبَّاق بعض نقودِ/ إلا وكنت مجلياً فيها فهل/ شيطان شعرك يا حلم يهودي؟!” .
ولم يكن هذا النوع من الشعر حكراً على شعراء العمود الخليلي وحدهم، بل إن رواد الحداثة أنفسهم عمدوا إلى نظمه في مجالس أنسهم الخاصة، ضاربين عرض الحائط بمغامرتهم الإبداعية والتجريبية على مستوى الشعر التفعيلي وقصيدة النثر .
وقد أسمعني أدونيس في مناسبات مختلفة بعضاً من تلك النماذج التي نظمها بنفسه، ومعه بدر شاكر السياب وفؤاد رفقة ويوسف الخال وشوقي أبي شقرا . وإذا كان الشاعر اللبناني عبد الغني طليس قد نشر في كتاب أخير له بعض المقطوعات الإخوانية التي كان يتراشق بها الأخوان رحباني وجورج جرداق، فإن نصوصاً كثيرة لهؤلاء مازالت محفوظة في الأدراج وننتظر مَنْ يفرج عنها .
صحيح أن بعض شعراء الفكاهة والسمر قد أصدروا منظوماتهم في كتب منشورة، كما هو حال ناجي بيضون في “انتحار عنتر” وغيره من الكتب، وطارق ناصر الدين في ديوانه “قصائد ضاحكة” الذي يتضمن أهاجي ودعابات ساخرة لمعظم شعراء جيله، ولكن قصائد ونتاجات لشعراء كبار ومكرسين ينبغي أن تخرج، في رأيي، إلى الضوء . ليس فقط لكونها شبيهة بالوثائق الاجتماعية والشخصية المهمة، بل لأنها تكشف بالمقابل عن جماليات الكتابة الساخرة، وعن ذكاء أصحابها وبديهيتهم السريعة .