فرقة ترشيحا.. فرح فني وابداع- احمد دحبور
من الجليل الذي لا جليل سواه على هذه الارض، بزغت فرقة ترشيحا في رام الله، فكانت معجزة للسطوع في المساء، ذلك ان امسية هذه الفرقة قد ابهجت مساء رام الله يوم السبت الفائت حين اطلقت في قصر الثقافة عصافير الفرح والبهجة..
وبقدر تحصيلي المتواضع من الثقافة الموسيقية، سعدت بهذه الفرقة الجليلية التي صفت على المنصة اربعة وعشرين بين عازف ومغنّ، مسلحين بترسانة من الآلات الموسيقية تضم الشيلو والاكورديون والقانون والعود والشبابة، من غير ان تنسى الدف والايقاع، مدعومة بالحناجر الذهبية المرتوية بماء الجليل وشمسه الرؤوم..
وقد اعطى هؤلاء المبدعون اسما دالا على فعاليتهم، فهي «هنا القدس».. واذا قال كافافي شاعر اليونان ان اثينا تكون حيث اكون، فان هؤلاء الشبان قد حملوا القدس معهم حيث يكونون، ولا مسافة بطبيعة الحال بين ترشيحا ورام الله والقدس.. اما الجمهور السعيد فهو حامل تراث فلسطين، واسماء مدنها وقراها موزعة في جيناته وخلاياه..
تألقت المقامات والأدوار، من مصرية الى عراقية، الى رائحة التراث العربي العابقة باسرار هذه الارض، وانطلقت الفرقة بايقاعاتها الشرقية على مبدأ الكريشندو حيث كان الزخم الموسيقي يتصاعد حتى الذروة، فيملأ على الفلسطينيين روحهم بالسعادة.
على ان البطل الاول لأمسية فرقة ترشيحا يوم السبت، كان هذا الجمهور البديع الذي كشف عن رقيّ في الاصغاء، حيث صمت عندما كانت الموسيقى تأمر بالخشوع الجمالي، وصفق حتى ألهب الأكف عند كل وقفة تستدعي التصفيق.. حتى لتشعر بالزهو انك في حضرة جمهور متمرس باحترام الغناء المتفوق..
شجاعة هذا العمل النوعي، تجلت في مستويات متعاقبة من التعبير والأداء، كان ابرز ما سحرني في الحفل، تلك المقطوعات الموسيقية المجردة، حيث لم يتدخل الصوت البشري لشرح الفكرة. حتى اذا دخل الغناء على الخط، تكشف عن ذوق كلاسيكي رفيع في الاختيار، وكان الصوت الجمعي يدعم الكلمات احيانا، فلا تصل الى الجمهور الا ايحاء، وهذا غير قليل..
وقد اشار المايسترو الأنيق، الى ان اعمال الموسيقار الفلسطيني الراحل روحي خماش، التي هي مادة هذه السهرة، هي اعمال صعبة حتى على العازفين.. بمعنى ان السهرة لم تكن تمالىء الذوق المبسط والأذن المسطحة، لكن الأداء البديع من عزف منوع وصوتين قويين، تمكن من ايصال اسرار العمل الموسيقي المركب، يشهد على ذلك اهتمام الجمهور وتصفيقه الحار بعد كل وقفة، وسيطرة المايسترو نسيم دكور على المشهد كما يليق بقائد موسيقي خبير..
في اوروبا، حيث اتيح لي ان احضر قليلا من الحفلات، هناك تقليد جميل، يقضي بأن يقوم العازفون او المغنون او الشعراء - حسب الحالة - باضافة قطعة جديدة من عملهم، اذا بالغ الجمهور في التصفيق.. وقد حدث هذا الأمر في حفلة هنا القدس، فبعد التحية المدوية التي قدمها الجمهور تصفيقا واعجابا، وجد فنانونا انفسهم يعيدون الاغنية التي افتتحوا بها الحفل، وهي «وطني» من اعمال فيروز. ويقيني ان الجمهور كان سيبقى حتى لو استمرت الحفلة ساعة مضافة الى زمنها المقرر..
يطرح هذا النجاح العفوي سؤالا حول جدوى الفن النبيل، فمن المعروف اننا شعب ذو ثقافة مقروءة مسموعة، بمعنى ان للكلمة دورا في بناء ذوق مستمعينا، اما الموسيقى المجردة فان الجمهور العادي يطرب لها ما دامت تساير ذوقه او تستعيد بعض مسموعاته الموروثة او المشهورة، لكن حفلة «هنا القدس» قالت شيئا آخر.
إذ ان الموسيقى المجردة كانت قادرة على الوصول والتأثير واحداث الفرح الفني، بل ان الأمر، كما اشرت، قد تعدى ذلك الى ان الغناء الجمعي كان يتم التعامل معه وكأنه موسيقى خالصة، من حيث الايحاء وبعث الاحساس الغامض المفرح في النفوس..
لقد نجحت فرقة ترشيحا مرتين، الاولى في ادائها الساحر المتقن، والثانية في الصعود بذوق الجمهور الى حد ان اصبح شريكا وليس متلقيا وحسب.. وهذا الأمر ينسحب على الفنون الراقية دائما، حتى ان الشاعر العظيم بابلو نيرودا قد سئل مرة اذا كان الجمهور البسيط غير المتعلم يفهم اشعاره في احدى اماسيه، فقال: ما يعنيني من الأمر ان الوتر لم يكن مقطوعا مع الناس، فمن فهم اسرار الشعر كان من حقه ان يفهم. اما من لم تصل اليه المعاني، فحسبي ان الجو العام كان يحيطه باحساس ان هذا الشعر مكتوب له، وبالتالي فقد عثرت على الحبل السري الذي يربطني بالناس، ووصل المعنى بشكل او آخر..
هنيئا لفرقة ترشيحا، هذا الحبل السري الذي ربطنا بها، اضافة الى مساحة الوضوح التي اسعدتنا جميعا.. انها حقا من ليالي رام الله التي سنذكرها طويلا.. وستبقى ماثلة في الروح.