أبو الصادق.. شاعرنا الشعبي الظريف- احمد دحبور
تزخر الذاكرة الفلسطينية، بأسماء شعراء شعبيين انجبتهم ثوراتنا وانتفاضاتنا المتتالية، واذا كان الشاعر نوح ابراهيم احد رموز هبة القسام، فإن ابا سعيد الحطيني، مصطفى البدوي، والشيخ فرحان سلام كانا رمزين في مرحلة 1936، بل ان الحطيني عاش حتى شهد النكبة وكتب فيها قصيدة أليمة ذاع صيتها فترة طويلة، وقد ظهر بيننا ابو عرب، ابراهيم الصالح بحدائه الجميل وصوته الرخيم.. امد الله في عمره..
في هذا السياق يبرز اسم المرحوم صلاح الحسيني، وشهرته ابو الصادق، فقد واكب الثورة المعاصرة منذ انطلاقة فتح، وبقي حاديا فيها معبرا عن الحس الشعبي الوطني حتى وافاه الاجل، رحمه الله، منذ سنوات قليلة.
وقد اشتهر ابو الصادق برباعياته المكتوبة بالعامية، وقد اطلق عليها اسم «ثوريات» بل انه اصدر مجموعة شعرية بهذا العنوان، ضمت اشهر ما كتب في مسيرة الثورة الفلسطينية. وقد كنا نحن الذين نكتب في ظل الثورة، نشهد بعض الغلاسة والمزايدة من انصاف المثقفين الذين كانوا يستكثرون على الشاعر او القاص ان يوقع قصيدته باسمه، وبالفعل.. شهدت صحيفة «فتح» الناطقة باسم المقاومة في بداياتها، حالات نشر قصائد بلا توقيع!!! وكان ابو الصادق، رحمه الله، يضيق ذرعا بهذه المزايدة الجوفاء ويتحداها بوضع اسمه الى جانب اشعاره، حسب الشهرة والكنية، فكنت ترى قصيدته مذيلة باسم صلاح الدين الحسيني، ثم انه لا يكتفي بذلك، بل يضيف: ابو الصادق.. لكنه بعد ان ذاعت شهرته صار ابو الصادق اسما كافيا للتعريف به..
ذات يوم، كان يزورنا الاخ ابو عمار في مقر صحيفة فتح، وشاءت المناكفة ان يكون بيننا احد الغلظاء المعصومين عن الموهبة واللمحة الذكية، فراح يخطب وعينه على القائد العام قائلا: ان كل ما نكتبه ليس لنا فضل فيه، بل هو للثورة بوصفه من نتائجها ونتاجها، واذا اراد احدنا ان يوقع قصيدته او قصته او مقالته، فليكتف باسم «ابو عمار» باعتبار ان ابا عمار هو رمز الثورة من رأسها الى اساسها..
والتفتنا الى ابي الصادق، المشهور بخفة دمه وسرعة بديهته، فتنحنح وقام بحركات كاريكاتورية ساخرة، ثم خرق الصمت بالمبادرة غير المتوقعة التالية: قال ان عدم توقيع قصائدنا بالكامل ليس عدلا، ولكنني اقر الاخ صاحب الاقتراح بأن نشرك الاخ ابا عمار في التوقيع..
ضحك ابو عمار مدركا ان ابا الصادق يخبئ طرفة من طرائفه، فقال على الفور: انا شخصيا اوافق على ما يقوله ابو الصادق، وسنعمل به فورا من غير اي نقاش.. وابتسم ابو الصادق الذي ينتظر هذه اللحظة، فقال:
انا قلت اننا نقتسم توقيع اسمائنا مع الاخ ابي عمار، وابدأ بي.. فأقول: بما ان الاخ القائد العام مقدم علينا جميعا، والعين لا تعلو على الواجب، فلنبدأ بالنصف الاول من اسمه، فهو «ابو» وبما انني واحد على باب الله، فانه لا يطلع لي الا القسم الاخير من اسمي، وهو «الصادق» وعندها نجمع النصفين ويصبح الاسم كاملا، هو «ابو الصادق»..
اذكر ان الاخ ابا عمار قهقه لهذه التخريجة المباغتة، وراح يردد: اشهد الله ان هذا كلام صحيح.. ولكن من اين اتيت بهذه التحشيشة يا ابا الصادق؟ انها تعبر عن دهاء مصري خالص.. وكان في كلام القائد العام، اشارة مداعبة، الى بعض اللكنة المصرية في لهجة ابي الصادق الغزاوي الذي اجاب على الفور، وكأن الكلام على رأس لسانه:
هذا من بعض ما عندكم يا سيدي، مش انت بتحكي مصري برضه؟
والتفت ابو عمار الى المزايد الذي اسقط في يده بعد ان اكل ابو الصادق الجو، فقال:
انت لا تلقى غلوة من نار ابو الصادق.. فقد أكلك..
ومن يومها، اصبحنا ننشر قصائدنا وكتاباتنا موقعة بأسمائنا..
ذلكم ابو الصادق، شاعر الثورة، سريع البديهة، خفيف الدم.. رحمه الله.. اما من حيث التأريخ للتجربة شعريا، فما لا شك فيه انه قام بدور نوح ابراهيم في ثورتنا المعاصرة، ودليل ذلك ان الكثير الكثير من اغاني الثورة الفلسطينية واناشيدها، هي من شعر ابي الصادق، مثل طل سلاحي من جراحي، وباسم الله باسم الفتح، واعطيني جعبة وبارودة وغيرها وغيرها وهو بهذا الحداء الجميل ظل بيننا الى يوم الناس هذا..