صناعة الزجاج في الخليل: بين ناري الإبداع والضياع
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
عبد الرحمن يونس - قبل حوالي أربعمئة عام، أدخل العثمانيون صناعة الزجاج والخزف إلى الخليل، تلك الصناعة التي يتجلى فيها الإبداع كلّما نفخ الصانع على ناره مشكّلا مما بين يديه أواني وتحفا تسرُّ الناظرين.
وعلى مدار تلك المدة كلّها حافظت هذه الصناعة على سرّ بقائها ورواجها، أما اليوم فتواجه تحديات، كغيرها من الصناعات، فهل ستظل معلمًا ثقافيا فارضا حضوره؟
في مصنع صغير على مدخل مدينة الخليل، يحترف توفيق النتشة (41 عاما) منذ 34 عاما الجلوس قرب فرن لصهر الزجاج تصل حرارته إلى أكثر من ألف درجة مئوية، متخذا من أنبوب معدني مثقوب من الوسط آلة للنفخ مشكلا من عجينة زجاجية ملتهبة كرات وأباريق وقوارير زجاجية رائعة.
ويرى توفيق أن "بين الأداء الجيد والرديء خيطا رفيعا، وبين العمل بالنار والاكتواء بلهيبها لحظات معدودة، وبين الإبداع الجمالي والعمل التقليدي تجربة كبيرة". فكل نفخة لها تأثيرها الواضح والمباشر على شكل ولون الزجاجة المراد تشكيلها وأي زيادة في ذلك أو نقصان قد يفسد العمل.
أما وليد توفيق النتشة (61 عاما) صاحب مصنع زجاج وخزف الخليل فيؤكد أن "هذه المهنة بحاجة إلى نفس نقي وعين ثاقبة وأهم شيء روح الإبداع، وكل ذلك خلال لحظات معدودة ويجب أن تأخذ كل مرحلة وقتها وشغلها الكافي وإلا سيذهب عملك هباء".
الناظر إلى ما تنتجه مصانع الزجاج من كؤوس وكرات وفوانيس وأباريق ومزهريات بأشكال وألوان مختلفة بعضها كتبت عليها آيات قرآنية وبعضها رسمت عليه أماكن دينية مثل الكعبة وقبة الصخرة المشرفة ومدن الخليل والقدس وبيت لحم والناصرة، يجد الإبداع جليا فيما شكلته نار الصانع بعناية، وهواية.
الشق الثاني لصناعة الزجاج هو الخزف كصناعة مكملة، لأن القوارير والاطباق التي لا يمكن صناعتها من الزجاج تصنع من الخزف، وهي مادة طينية خالية من أي مواد ضارة بجسم الإنسان ويتم استيرادها من بريطانيا وايطاليا واسبانيا.
وشجع إتقان هذه الصناعة وجمالياتها كثيرا من الشركات المحلية والعاليمة على اللجوء إلى مصانع الزجاج والخزف في الخليل لابتكار اشكال زجاجية وخزفية دعائية خاصة بالشركات مثل شركات الاتصالات الفلسطينية وشركات "فولكس فاجن" و"أودي" الألمانيتين و"فيات" الإيطالية.
لكن جمالية تلك الصناعات وورديتها سرعان ما يربك تقدمها وبقاءها عزوف كثير من الشباب عن تعلمها، وغياب كلي للمدارس والمعاهد التي تعلم هذه الصناعات التقليدية، ناهيك عن عدم اهتمام المؤسسات الرسمية والأهلية بهذه الصناعة.
أما صعوبة تسويق منتجات صناعة الزجاج والخزف دوليا بسبب العراقيل والمعيقات التي يضعها الاحتلال من ضرائب ورسوم جمركية كبيرة تتجاوز في كثير من الأحيان ضعف المادة المراد تصديرها، فيكاد يكون أكبر ما يرهق تلك الصناعات.
يقول محمد وليد النتشة (27 عاما) "الاحتلال لا يكتفي بحرمانا من تصدير منتجاتنا إلى الخارج بل إنه يصادر بعضها ويمنعنا من استيراد أي آلات ومعدات من شأنها ان تطور صناعة الخزف والزجاج".
ويبدى محمد النتشة تخوفه من انقراض هذه الصناعات التقليدية قائلا "قديما كان هناك أكثر من 100 شخص يعملون في صناعة الزجاج والخزف أما اليوم فهم أقل من 10 أشخاص، فإذا استمر هذا الوضع على ما هو عليه لمدة 10 سنوات ستصبح هذه الصناعة جزءا من الماضي".
وتشير مصادر محلية إلى وجود أكثر من 60 مصنعا ومعملا لصناعة الزجاج والخزف في مدينة الخليل قبل اندلاع انتفاضة الاقصى عام 2001، لكن اليوم لا يتجاوز عدد أصابع اليد بقدرة انتاجية محدودة جداً، ما يؤكد المصاعب الحقيقية التي تقف أمام تلك المهنة العريقة.
قبل أربعة قرون حازت إحدى الحارات في مدينة الخليل على لقب "حارة القزازين أو الزجاجين" لكثرة العائلات التي تعمل في المهنة، لكنها اليوم بدت فقيرة من صانعي الزجاج. من المرجح أن يبقى الاسم التاريخي حاضرا في المدينة، فهل سيدعم الاسم حضور فعّال لـ"القزازين" المبدعين؟