في مستشفيات فلسطين.. الضحك جرعة دواء لكل داء
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
عبد الرحمن يونس- "طفلة لم يتتجاوز ربيعها الرابع العشر، سكن مرض عضال جسدها النحيل وأقعدها على فراش العلاج في احدى المستشفيات الفلسطينية، وقفت أمها والطاقم الطبي عاجزين أمام رفضها عدم تناول الطعام، ولا التفوه بكلمة واحدة، طيلة سبعة أيام، وباءت بالفشل كل محاولات اطعامها أو اضحاكها".
"وفجأة يدخل طبيب بثيابه البيضاء، وعلى أنفه غطاء أحمر، جذب انتباه الصغيرة، التي ما لبثت تلاحق حركاته، وحديثه الشيق الطريف وكلماته الدعابة والنكت الضاحكة والألعاب البهلوانية، ولم يستمر لعب ذلك الطبيب سوى دقائق معدودة إلا انتفضت الطفلة بالضحك واللعب".
هذه ليست قصة خيالية، بل واحدة من عشرات القصص، والحالات الانسانية الصعبة، التي حدثت مع طارق زبون، وهو واحد من اعضاء طاقم يضم 12 "طبيبا مهرجا" يعملون، في المستشفيات الحكومية الفلسطينية، ضمن مشروع يتبع مؤسسة "الانوف الحمراء" وهو الاول من نوعه، في منطقة الشرق الاوسط.
وتتلخص مهمة ذوي "الانوف الحمراء" اعضاء فريق "الاطباء المهرجين" في المستشفيات الفلسطينية، بادخال البهجة الى نفوس الاطفال المرضى، كعنصر هام يضاف الى العقاقير والادوية التي تقدم للاطفال المرضى، وخاصة اولئك الذين يعانون من امراض مستعصية، او خطيرة، فضلا عن جعل تعاطي الاطفال المرضى مع الطواقم الطبية اكثر سلاسة وايجابية.
ويقول طارق زبون لـ"القدس دوت كوم": "للأسف الأجواء داخل المستشفيات غالبا ما تكون كئيبة ومحزنة، والغرف تعج باطفال بعمر الزهور، مرضى بأمراض مستعصية، وخطيرة، والأهل قلقلون جدا على أبنائهم، وحين ندخل إلى المستشفى، نبدأ بالضحك واللعب، ونقدم بعض الالعاب البلهوانية، فنرى الابتسامة والضحكة على شفاه الكبار قبل الصغار، وينتفض الاطفال باللعب والضحك، وتتحول الاجواء من حزن شديد إلى فرح عامر يثلج الصدور".
عمل "الطبيب المهرج" ليس سهلا، يوضح زبون، ويقول: "في البداية واجهتنا بعض المشاكل والصعوبات مع الجمهور في تقبل فكرة عمل الطبيب المهرج، داخل غرف الاطفال المرضى، خاصة وأن هذه الفكرة جديدة، وليست متدولة في فلسطين، ولا في الوطن العربي، كنا نرى الغرابة والاستهجان على وجوه الاهالي والاطفال، لكن مع الأيام اضحى هناك رضى وقبول، بل وترحيب كبير بنا".
ويرتكز عمل الطبيب المهرج على القيام بالاعمال البلهوانية، ورواية بعض القصص المسرحية والغنائية، والطرائف، وتقديم بعض المقالب الكوميدية والمضحكة، التي تدفع من يشاهدها إلى الضحك، والمشاركة في بعضها، ويكون ذلك في غرف الاطفال المرضى في المستشفى.
ويضيف " الهدف من عملنا هو رسم الابتسامة والفرحة على وجوه الاطفال المرضى داخل المستشفيات، نحاول كسر الروتين داخل المستشفى، واعطاء الطفل انطباعا بانه ليس في المستشفى، ومساعدتهم (الاطفال) في تجاوز حالاتهم المرضية، لكن هناك بعض الاطفال لا يتفاعلون معنا، وهذا يشكل لنا تحديا كبيرا، لذلك نستمر في تقديم العروض الكوميدية والقصص، والاغاني، حتى نجد المفتاح الذي يجعل الطفل يضحك، ويتفاعل معنا".
الاطباء وشفاء الاطفال..
وعلى ما يبدو فإن عمل الطبيب المهرج، لا يقتصر على مساعدة الاطفال المرضى فحسب، وإنما يمتد إلى الأهل، والطواقم الطبية داخل المستشفى، كما يرى إبراهيم عبد القادر، وهو طبيب مهرج ايضا حيث قال: "عندما ينتقل الطفل من حالة الحزن والألم إلى حالة الضحك والمرح، تلقائيا تتغير الحالة النفسية السيئة لدى الأهل".
وفي بعض الاحيان فان ذوي الاطفال المرضى يطلبون من ابراهيم عبد القادر، ان يقدم بعض العروض الكوميدية امام اطفالهم الذين امضوا عدة ايام دون بسمة او فرحة، وحين لا يستجيب الطفل للطبيب المهرج، فان عمل المهرج يذهب نحو الأهل ما يجعل الصغير يواكب الحركات والضحكات مع أهله، فيصبح بحالة شغف للعب والضحك، وهكذا يتحول الأهل الى حلقة تواصل مع الطبيب المهرج لاسعاد الطفل، أو يكون الطفل هو حلقة التواصل لاسعاد الاهل حين يتفاعل مع الطبيب المهرج.
ويتعدى الدور الايجابي للطبيب المهرج في المستشفى، الاطفال المرضى، الى الطواقم الطبية التي يواجه افرادها صعوبات في التعامل مع عناد، وخوف بعض الاطفال، من تناول الدواء أو الخضوع لبعض الفحوصات، كما يوضح المهرج ابراهيم بقوله:"بعض الاطباء لا يمتلكون المهارة الكافية في التعامل مع الاطفال، وربما قد يلجأون إلى العنف، لكن الطبيب المهرج، يتعامل مع الطفل بطريقة حرفية علمية، تدخل السكينة والطمأنينة إليه"
ويرتدي الطبيب المهرج ذات الثياب الخاصة بالاطباء، لكنه يتميز عنهم بوضع غطاء أحمر على أنفه، وعندما يتفاعل الطفل معنا تتلاشى الصورة النمطية المخيفة عن الطبيب، ما يجعل الاطفال يتعاملون معه بسلاسة حتى يتماثلوا للشفاء".
وليس عمل، وخبرة الطبيب المهرج، امرا سهلا، كما قد يتخيله البعض، ويقول ابراهيم عبد القادر: "نحن أطباء مهرجون محترفون، خضعنا إلى تدريبات ودروس مكثفة، لأكثر من سنة ونصف، في مؤسسات محلية، وأوروبية، متخصصة في هذا المجال، وتدربنا، وتعلمنا على يد متخصصين في الطب النفسي للاطفال، والألعاب البهلوانية، والخفة، والسحر البصري".
تحديات.
ومما سهل على عبد القادر، وزبون، وزملائهما في العمل، أنهم اصبحوا يحظون بثقة، وصداقة الاطفال المرضى، خاصة ذوي الأمراض المستعصية منهم، مثل مرضى السرطان، والكلى، والسكري، الذين يمكثون لفترة طويلة في المستشفيات. وفي هذا الاطار يقول ابراهيم وعيناه تمتلئان بالدموع:"من خلال عملنا المتواصل مع الاطفال المرضى تتكون بيننا علاقة صداقة قوية، وهذا ما حصل عندما تعرفت على طفلة في مستشفى الخليل، مصابة بالسرطان، وفي الزيارة الرابعة طلبت مني هدية، وحين احضرتها لم أجدها على السرير. بحثت عنها في المستشفى لكني لم اجدها، لقد رحلت إلى جوار ربها".
ولعل مثل هذه الحادثة والمشهد الذي قد يتكرر بصور مماثلة، من اشد ما قد يتعرض له الطبيب المهرج في عمله، كما يوضح سامر مخلوف، مدير مشروع "الطبيب المهرج" في فلسطين، التابع لمؤسسة "الأنوف الحمراء" العالمية في حديث خاص لـ "القدس دوت كوم" حيث قال: بالعادة نحن نتعامل مع فنانين أكْفَاء، ولديهم قدرة وحرفية كافية في صناعة المشاهد الدرامية، والمسرحية، والفكاهية، وتقمص شخصيات مضحكة، وتقديم عروض مسلية، ويتمتعون بالصبر والتحمل، وبعدها يتم اخضاعهم لبرنامج تدريبي معد جيدا، وخصيصا لبناء وتكوين قدرات ومهارات الطبيب المهرج.
لكن هذا البرنامج التدريبي، ليس له وقت محدد، وإنما هو برنامج ينتقل من مرحلة إلى اخرى، وتتم مراجعة هذا التدريبات والدروس بشكل دوري، لتطوير وتقوية قدرات ومهارات الاطباء المهرجين. ويقول مخلوف:"في بعض الاحيان يكون الطفل في غرفة العزل بسبب مرضه المعدي، لذلك نقوم بوضع اللوازم الطبية، والاقنعة اللازمة، والواقية، لمساعدة الطفل على تجاور مشكلته الصحية والنفسية".
ويضيف:"قبل الدخول إلى الاقسام، وغرف الاطفال المرضى، نحصل على كشف طبي من إدارة المستشفى عن طبيعة الاطفال المرضية، ونوعية المرض، وفي حال وجود حالات مستعصية، نحصل على الدعم والمساندة من الطاقم الطبي، ويحددون لنا الغرف التي يمكن دخولها، وتلك التي يجب عدم دخولها في بعض الاحيان، ويمنع لمس المريض أو الاقتراب منه".ويوضح انه وفي حال شعر الطبيب المهرج بان النتيجة لم تكن كما يتوقع فانه يغير اسلوبه، واذا لم يستجيب الطفل، ينسحب من المكان، مؤكدا ان "اكثر من 90 % من الاطفال، الذين زارهم الطبيب المهرج، جاءت بنتائج ايجابية جدا، ونجحنا في اسعاد الطفل وعائلته".
يشار إلى أن مؤسسة "الطبيب المهرج" الفلسطينية، هي أول مؤسسة في الشرق الاوسط، تعمل في معظم المستشفيات الحكومية بالضفة الغربية، ولا تستطيع التواصل مع مستشفيات قطاع غزة، غير أن سامر مخلوف، مدير المؤسسة أكد "وجود خطة جدية للذهاب إلى مستشفيات قطاع غزة، وهناك اتصالات حثيثة مع بعض المؤسسات الاهلية والحكومية، في القطاع، لإرسال مجموعة من الكادر الطبي، إلى مستشفيات القطاع، لكن الظروف السياسية والأمينة لا تسمح بذلك في الوقت الحاضر.
وبالرغم من كل التحديات فان مشروع "الطبيب المهرج" حقق نتائج مبهرة على الصعيد النفسي والصحي، للاطفال المرضى، خاصة ان المجتمع الفلسطيني يعاني من ضغوط وازمات نفسية وسياسية وامنية شديدة، فضلا عن وجود اطفال يعانون من امراض مزمنة وخطيرة ويزورون المستشفيات بشكل دوري او شبه يومي.
وتقول الدكتورة سلام القرنة، وهي طبيبة نفس، متخصصة في معالجة مرضى السرطان، في مستشفى بيت جالا الحكومي: "عمل الطبيب المهرج اضحى في هذه الايام مهم جدا، مثل جرعة الكيماوي ووجبة الطعام الصباحية، ومكونا رئيسيا لعلاج الاطفال المصابين بالسرطان
وتضيف:"يعيش الاطفال وخاصة مرضى السرطان يوما مختلفا، ومميزا، ورائعا، عندما يزورهم الطبيب المهرج، لأنه يرسم البسمة على وجوههم، ويعطيهم الأمل بمستقبل افضل، رغم الآلام والمعاناة التي يعيشونها. هي لحظة من اللحظات ينسوا فيها ال أنهم مصابين بمرض خطير، وأن هناك إبرة للتغذية مغروسة طوال ايام في ايديهم".
هكذا اصبح الطبيب المهرج، علاجا مكملا للعلاج التقليدي، لا يمكن الاستغناء عنه.