بكداش في نابلس
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
جميل ضبابات
قبل نحو حوالي 117 سنة، خاض شاب دمشقي يدعى محمد حمدي بكداش، تجربة تحويل عصير الليمون البارد، إلى مادة متطورة عن العصائر عبر إضافة عصارة نبات ينمو في الجبال المرتفعة بشمال سوريا يدعى «السحلبة» وهو نبات معروف يمكن إضافته للحليب لتتشكل منه مادة البوظة العربية.
بعد ذلك بنحو قرن، ذهب الفلسطيني علي ياسين إلى سوق الحميدية الشهير في العاصمة السورية دمشق، ليتعلم سر صناعة البوظة الدمشقية، فاحضر عاملتين من محل بكداش المزدحم بالزبائن، وبدأ بصناعة البوظة في العاصمة الأردنية عمان.
لكن تفكيره كان يتجه إلى نابلس، عاصمة فلسطين الاقتصادية، ليفتح محلا لما أصبح يعرف عالميا: بوظة بكداش. وفي يوم شتوي بارد كان ثمة 13 شخصا من العاصمة الكورية الجنوبية بيونغ يانغ يتناولون واقفين أمام محل يطلق عليه ملك البوظة في شارع الشويتره بالمدينة.
ليس غريبا أن ينجح ياسين الذي علم أبناءه الأربعة سر بوظة بكداش منذ اليوم الأول، فلكل مهنة سر. لنابلس ذاتها سر حلاوتها وزلابيتها.
كان الجو باردا وثمة زوار يواصلون التحديق في نحو 15 صنفا من البوظة التي انتهى شادي وهو واحد من أبناء علي الأربعة من دقها قبل قليل.
قال الشاب "طلبوا المسكة مع الفستق العربي". وشادي يتقن هو وبقية أشقائه صناعة البوظة من الألف إلى الياء كما يقول.
والبوظة التي تصنع بشكل كامل من مواد طبيعية وحليب طازج واحدة من الصناعات القادمة من سوريا إلى نابلس، لذلك اعتمد ياسين على إحضار كل ما يتعلق بهذه الصناعة من سوق الحميدية. قال الرجل الذي يبدو فخورا بلقب "ملك البوظة" الذي حمله كما يقول منذ أربعة عقود، أن الناس لا يعرفونه باسمه بل بلقبه.
إنها البوظة العربية الدمشقية التركية، فهي تركيبة من عواصم احتضنت ابتكارها إلى عواصم طورتها، وعواصم استوردت سر صناعتها. لكن البوظة العربية التي تدق في أوان من النحاس الأبيض معروفة في معظم أصقاع المعمورة التي وصل إليها الدمشقيون.
وحري بنابلس، أن تكون حاضنة لبوظة قادمة من دمشق، فالمدينة طالما دعيت بدمشق الصغرى.
وقال شادي فيما كان يملأ صحنا زجاجيا ببوظة المسك "أصبحت البوظة العربية غريبة. غريبة لكنهم يحبونها. إنهم يأتون إلى هنا من أقصى فلسطين إلى أقصاها".
ويقضي الشاب نهاره في دق المادة التي تشبه العجين المتماسك عند حملها، قبل أن يفرغها من الثلج تحت وقع الدق.
"هذا هو واحد من أسرار البوظة. الدق يخرج الثلج" قال شادي.
كان السياح وبعض المشترين الذي تناولوا البوظة أمام المحل قد ابدوا سعادة غامرة. وقال الأب "استطيع أن احكم فيما إذا كان الناس يرغبون بالبوظة العربية أم لا (...) استطيع أن أرى تلك الرغبة في الصحون الفارغة تماما".
في الضفة الغربية، هناك عدة مصانع أوتوماتيكية للبوظة، وقد يستورد التجار من إسرائيل وتركيا. وقد يوردون صناعات محلية مثلجة إلى دول مجاورة.
لكن قد يكون هناك معمل واحد للبوظة العربية، ومعامل متفرقة أخرى لا تتجاوز أصابع اليد الواحد.
ويعرض ملك البوظة صناعته في عبوات بلاستيكية بعد دقها، لكنه عندما يحملها من الماعون النحاسي لنقلها إلى براد العرض تظهر مثل خيوط متشابكة قبل أن تسقط في عبوات العرض كتلة واحدة.
"هذه فانيلا. هذه مسك. انظر(....) أنها جميلة ولذيذة". قال شادي فيما أشار إلى صور لسيدتين تدقان البوظة في محل بالعاصمة الأردنية، ذاتهما تعلمتا الدق في محل بكداش بسوق الحميدية.
وتظهر البوظة لا علاقة لها بما يجري في سوريا من اقتتال، لذلك يقول ياسين إن بكداش ما زال يعمل حتى اليوم، فيما تصل بعض مكونات الصناعة إلى نابلس من وسط دمشق ذاتها.
لكن الفرق الوحيد، أن بكداش ما زال يقدمها في أوان معدنية فيما تقدم بنابلس في علب من مادة الفلين والبسكويت.
وتظهر صفوف من كؤوس البسكويت الهرمية فوق طاولة أمام المحل. وبعد أن ينهي شادي تعبئة الكأس يقول مبتسما: جاء الآن دور الفستق قبل أن يدخل إلى المحل ويرش كمية من الفستق على وجه البوظة... وثلاث حبات كرز.إنها البوظة القادمة من التاريخ إلى المستقبل. أو أنه التاريخ الذي صنعه رجل واحد: حمدي بكداش.