الرحلة البيضاء الأخيرة
عميد شحادة
لم يمت أحد.. هذا أول ما يتبادر إلى ذهنك لو دخلت ملعب بلدية جنين، المكان الذي تم اختياره لاستقبال خمسة عشر شهيدا وشهيدة من محافظة جنين قضوا في حادث سير بالأردن أمس الأول أثناء عودتهم من السعودية حيث كانوا يعتمرون.
الأجواء في الملعب عادية، حضور كثيف، انتظار، ثرثرة، لا شيء يلمع على الوجوه عدا حبات مطر آذار الخفيفة، ذاته أحمد قدسية بن الشهيدة آمال قدسية لم يبك، كما أنه لم يأت أصلا لًيُشيع والدته وجدته، بل جاء يتأكد 'هل ماتت أمي حقا؟'.
تتابعت الأحداث بسرعة، سيارة نقل الموتى السوداء أخذت تدور حول الملعب ببطء مرعب، وما أن تلا قارئٌ في مكبرات الصوت 'اعلموا أنما الحياة الدنيا لعب ولهو'، حتى هجمت سيارات الإسعاف بصوتها مفجرة شحنات الحزن في وجه أحمد قبل أن يقرأ اسم والدته داخل إكليل ورد مثبت في مقدمة سيارة إسعاف.
يقول أحمد قدسية 'حدثتها قبل الحادث بنصف ساعة، قالت اطمئنوا، نصف ساعة ونصل جسر الكرامة، لا أصدق أنها ماتت، لكنني رأيتها في الملعب.. أمي ماتت'. وأخذ يبكي فخرجت الكلمات من حنجرته كأنها ممزقة وهو يردد 'قالت اطمئنوا نصف ساعة ونصل الجسر'.
سافرت آمال قدسية أربعة عشر مرة لأداء العمرة برفقة والدتها الحجة وصفية التي لقيت هي الأخرى مصرعها في حادث السير 'كنا ننتظر لحظة بلحظة لاستقبالهن، حضرنا لهن الأكل، كانتا عند كل عودة من مكة يُحضرن الهدايا من مسابح وعطور وملابس لأطفالنا، قالوا لنا هناك حادث سير وإصابات، ثم ماتت الحجة وصفية، بعدها رحمة الله على آمال'. هذا ما قاله محمود مقبل بن الحجة وصفية وشقيق آمال قدسية.
عادل حنايشة بن الشهيدة ربحية حنايشة من بلدة قباطية قال: 'لا أستطيع الكلام الآن'.
كان أخو أحمد قدسية قد أوصى والدته بهاتف جوال، أحمد قال لها 'روحي وارجعي بالسلامة'.
سادت لحظات صمت كسرتها أصوات أطفال متقوقعين في أحضان أمهاتهم، وفوق العشب الأخضر المبلول بدموع السماء، صلى الناسُ صلاة الجنازة على خمسة عشر جسدا مُعطرا، فيما لوَحَ من لم يستطع النزول إلى الملعب بأيديهم مودعين المسافرين في الأبيض إلى رحلتهم الأخيرة.