محمد الحشحوش.. حارس بوابير نابلس
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
بشار دراغمة- أكوام نحاس متراكمة بعفوية منذ نصف قرن، و"بوابير" سويدية أصلية معلقة بعشوائية لم تمسها يد بشر منذ زمن، إلا صديقها محمد محرم الحشحوش الذي يتفقدها يوميا داخل محله الصغير في شارع النصر المتوغل في أحد أحياء نابلس القديمة.
يحاول الحشحوش (55 عاما) بأدوات بسيطة الحفاظ على "كنز" ورثه من والده. لقد مثل دخول البابور إلى بلادنا ثورة في المطبخ، وأخذ الناس يستعملونه في تسخين الماء وغلي الأجبان والاستحمام وحتى التدفئة. وبات اليوم مجرد قطعة تراثية لا تجد من يهتم بها سوى من اشتاق لصوت البابور الهادر، وربما آخر يريد أن يعلقه كتحفة مثل غيرها من القطع النادرة.
ويعلن الحشحوش نفسه "آخر الأشخاص المعتمدين لمهنة البوابرجي في نابلس" رغم إقراره بوجود محلين آخرين للمهنة ذاتها في المدينة، لكنه متمسك بعبارته "نحن المعتمدون. كثير من الناس ما بعرفوا غيرنا".
أمسك السمكري المتمرس الذي بدأ مهنته في عام 1973 بابورا أثرت عليه عوامل الزمن، ولونه النحاسي الناصع تغير حتى اقترب من الخضرة، قائلا:" هذا بتنظف بسهولة وبأدوات بسيطة برجع جديد وملح الليمون فائدته عظيمة". لقد ورث تلك النصائح من والده الذي بدأ المهنة في الستينيات.
وضع الحشحوش "محقانا" داخل فتحة البابور استعدادا لإشعاله، منفذا مراحل مختلفة قبل الحصول على نار زرقاء حامية، فالمطلوب التأكد من وضعية الجلدة، وبعدها "الدك" لضغط الكاز للأعلى. ثم حرك مفتاح البابور لتنفيسه وأشعله حاصلا على نار حمراء ليست هي المطلوبة، فاستخدم إبرة "النكش" على رأس البابور، وفجأة يتغير اللون ويلفح اللهب الأزرق وجهه الغارق بعرقه.
وللحشحوش فرضياته العلمية، ونار البابور بالنسبة له أحمى من مثيلتها المنبعثة من غاز الطهي، لهذا ما زالت قلة تبحث عنه اليوم لسلق الجبن بسرعة، لكن ارتفاع سعر الكاز دفع السمكري للقول "هو أحمى بس مش أرخص".
مصنع البوابير الشهير في السويد أغلق أبوابه من زمن، ومن يطمح للحصول على بابور جديد وأصلي فإنه سيتعب كثيرا قبل الوصول لغايته وربما لا ينجح، ويكون البديل بوابير مصنوعة في مصر وسوريا، لكنها من وجهة نظر الحشحوش "سيئة وكثيرة الخراب".
البوابير في بداية وصولها إلى فلسطين كانت للأغنياء فقط، ولم يكن سهلا على كل شخص امتلاكها، حتى إن البعض كان ينظر بعين الحسد لمن لديه هذا الكنز، وفي مرحلة لاحقة توفرت للغالبية، بينما الأغنياء انتقلوا إلى البوتوغازات الحديثة.
التفت "البوابرجي المعتمد" إلى صورة أخيه سمير المعلقة، ترحم عليه، فقد توفي العام الماضي، وكان يعمل معه في نفس المحل، في مهنة ورثاها عن والدهما، مستذكرا خروجه الاضطراري من المدرسة لمساعدة والده قائلا "أبي كان مش ملحق شغل، وتركنا المدرسة لحتى نساعده، الله يرحم أيام زمان".
مهنة السمكري اليوم غير مجدية اقتصاديا، لكن الحشحوش يرفض الاستغناء عنها، ولا يتخيل نفسه عاملا عند أحد بأجر، بعدما ظل لسنوات "ملك نفسه". قائلا: "من هالمراح ما في رواح، ومستورة والحمدلله".
وفي محاولة منه لتعويض ضعف الإقبال على صيانة البوابير ولتحسين الوضع المادي، أدخل محمد الحشحوش أعمالا إضافية لمهنته الأساسية فأصبح يصلح الأرجيلة، وطنجرة الضغط وصوبات الغاز والكاز، وهي منثورة في كل مكان داخل محله.
وبينما كان يتحدث عن الأشياء التي يمكنه إصلاحها دخلت سيدة ثلاثينية حاملة نظارتها الطبية المكسورة، مستفسرة عن إمكانية صيانتها، أجاب الحشحوش بـ "اه يا أختي، حطيها وارجعيلها بعد نص ساعة"، مؤكدا لها أن التكلفة لن تتجاوز ثلاثة شواقل.
أطفأ الحشحوش بابوره مترحما على أجيال مضت، ومتمنيا التوفيق لجيل "المايكرويف".
zaبشار دراغمة- أكوام نحاس متراكمة بعفوية منذ نصف قرن، و"بوابير" سويدية أصلية معلقة بعشوائية لم تمسها يد بشر منذ زمن، إلا صديقها محمد محرم الحشحوش الذي يتفقدها يوميا داخل محله الصغير في شارع النصر المتوغل في أحد أحياء نابلس القديمة.
يحاول الحشحوش (55 عاما) بأدوات بسيطة الحفاظ على "كنز" ورثه من والده. لقد مثل دخول البابور إلى بلادنا ثورة في المطبخ، وأخذ الناس يستعملونه في تسخين الماء وغلي الأجبان والاستحمام وحتى التدفئة. وبات اليوم مجرد قطعة تراثية لا تجد من يهتم بها سوى من اشتاق لصوت البابور الهادر، وربما آخر يريد أن يعلقه كتحفة مثل غيرها من القطع النادرة.
ويعلن الحشحوش نفسه "آخر الأشخاص المعتمدين لمهنة البوابرجي في نابلس" رغم إقراره بوجود محلين آخرين للمهنة ذاتها في المدينة، لكنه متمسك بعبارته "نحن المعتمدون. كثير من الناس ما بعرفوا غيرنا".
أمسك السمكري المتمرس الذي بدأ مهنته في عام 1973 بابورا أثرت عليه عوامل الزمن، ولونه النحاسي الناصع تغير حتى اقترب من الخضرة، قائلا:" هذا بتنظف بسهولة وبأدوات بسيطة برجع جديد وملح الليمون فائدته عظيمة". لقد ورث تلك النصائح من والده الذي بدأ المهنة في الستينيات.
وضع الحشحوش "محقانا" داخل فتحة البابور استعدادا لإشعاله، منفذا مراحل مختلفة قبل الحصول على نار زرقاء حامية، فالمطلوب التأكد من وضعية الجلدة، وبعدها "الدك" لضغط الكاز للأعلى. ثم حرك مفتاح البابور لتنفيسه وأشعله حاصلا على نار حمراء ليست هي المطلوبة، فاستخدم إبرة "النكش" على رأس البابور، وفجأة يتغير اللون ويلفح اللهب الأزرق وجهه الغارق بعرقه.
وللحشحوش فرضياته العلمية، ونار البابور بالنسبة له أحمى من مثيلتها المنبعثة من غاز الطهي، لهذا ما زالت قلة تبحث عنه اليوم لسلق الجبن بسرعة، لكن ارتفاع سعر الكاز دفع السمكري للقول "هو أحمى بس مش أرخص".
مصنع البوابير الشهير في السويد أغلق أبوابه من زمن، ومن يطمح للحصول على بابور جديد وأصلي فإنه سيتعب كثيرا قبل الوصول لغايته وربما لا ينجح، ويكون البديل بوابير مصنوعة في مصر وسوريا، لكنها من وجهة نظر الحشحوش "سيئة وكثيرة الخراب".
البوابير في بداية وصولها إلى فلسطين كانت للأغنياء فقط، ولم يكن سهلا على كل شخص امتلاكها، حتى إن البعض كان ينظر بعين الحسد لمن لديه هذا الكنز، وفي مرحلة لاحقة توفرت للغالبية، بينما الأغنياء انتقلوا إلى البوتوغازات الحديثة.
التفت "البوابرجي المعتمد" إلى صورة أخيه سمير المعلقة، ترحم عليه، فقد توفي العام الماضي، وكان يعمل معه في نفس المحل، في مهنة ورثاها عن والدهما، مستذكرا خروجه الاضطراري من المدرسة لمساعدة والده قائلا "أبي كان مش ملحق شغل، وتركنا المدرسة لحتى نساعده، الله يرحم أيام زمان".
مهنة السمكري اليوم غير مجدية اقتصاديا، لكن الحشحوش يرفض الاستغناء عنها، ولا يتخيل نفسه عاملا عند أحد بأجر، بعدما ظل لسنوات "ملك نفسه". قائلا: "من هالمراح ما في رواح، ومستورة والحمدلله".
وفي محاولة منه لتعويض ضعف الإقبال على صيانة البوابير ولتحسين الوضع المادي، أدخل محمد الحشحوش أعمالا إضافية لمهنته الأساسية فأصبح يصلح الأرجيلة، وطنجرة الضغط وصوبات الغاز والكاز، وهي منثورة في كل مكان داخل محله.
وبينما كان يتحدث عن الأشياء التي يمكنه إصلاحها دخلت سيدة ثلاثينية حاملة نظارتها الطبية المكسورة، مستفسرة عن إمكانية صيانتها، أجاب الحشحوش بـ "اه يا أختي، حطيها وارجعيلها بعد نص ساعة"، مؤكدا لها أن التكلفة لن تتجاوز ثلاثة شواقل.
أطفأ الحشحوش بابوره مترحما على أجيال مضت، ومتمنيا التوفيق لجيل "المايكرويف".