عاصمة دائمة للثقافة العربية- احمد دحبور
أذكر أني قبل اربع سنوات، كنت لا أزال وكيل وزارة الثقافة الفلسطينية، حين تقدمت من د. عطا الله ابي السبح، رجل حماس الفاضل، ووزير الثقافة يومذاك، بسؤال الفخور المنتشي: ما دمنا قد نجحنا في تجربة القدس عاصمة للثقافة العربية، فلماذا لا نتقدم الى وزراء الثقافة العرب، باقتراح يقضي باعتبار المدينة المقدسة عاصمة دائمة للثقافة العربية؟
وتحمس د. ابو السبح للفكرة، وسرعان ما حولها الى طلب رسمي فلباه الوزراء العرب دونما استثناء.. ومن يومها، منذ عام 2009 اصبحت القدس تحتل هذا الموقع.
لا ادعي اننا صاحب الفكرة الوحيد، فقد كان كثيرون من الفلسطينيين وأهلهم العرب يفكرون في ذلك، بدليل النجاح الفوري للاقتراح بالاجماع، وأرجو الا يلمس بعض الصيادين في الماء العكر، نوعا من التبجح المبرقع بالتواضع في تأكيدي هذا.. فقد سبق لي ان سمعت غير مرة، من مثقفين ومربين وذوي رأي، هذا السؤال المشفوع بالأمل: ألا تستحق القدس موقع المركز الدائم للثقافة العربية؟
والآن يرتقي هذا الطموح الثقافي الوطني، الى منصب الحقيقة، وقد احتفل الفلسطينيون في الثاني من هذا الشهر الربيعي بسيدة المدن، وموئل المهد والمعراج، عاصمة دائمة للثقافة العربية، معنى وضع الصحيح في مكانه، ولم يبق الا اختبار الصحيح من حيث جدارته بهذا الموقع المعنوي الرفيع..
فكما قال استاذنا الراحل الكبير جبرا ابراهيم جبرا: القدس ليست مكانا فقط، انها زمان ايضا. وكان من حق أهل هذا الزمان وواجبهم، ان يوفوا بالعهد للمدينة التي هي، كما قال جبرا ايضا: في الارض لنا ارض. وفي السماء حصتنا من السماء.
ولعل ابن بيت لحم هذا، رحمه الله، كان يواصل في ذلك القول، حوارا مع مدينة تنطق حجارتها بلهجة التاريخ، لا فخرا ولا شكوى، بل هو الاقرار بالواقع حين قال فيها: ما احب البشر مدينة كما احبوا القدس، وبحبهم هذا ما تعذبت مدينة عذابها، لكأنها الحبيبة المتمنعة، لا ينالها الطامعون فلا تنجو من الأذى..
وقد يرد معلق على كلام ابي سدير، بأن الطامعين قد نالوا هذه المدينة واغتصبوها، فلم تصدق الرؤيا، لأن جبرا كتب هذا الكلام عام 1965، وبعد عامين فقط وقعت القدس تحت الاحتلال الصهيوني، ولا تزال ترزح الى يوم الناس هذا..
وأشهد انني سمعت ذلك التلحمي، عاشق القدس، يرد على تلك الدعاوى بأن العدو قد احتل القدس فعلا، لكنه بالمعنى الوجودي الحضاري لم يتمكن من ان ينالها، ولا تزال اسرارها واسوارها عصية على المطامع، وهذا معنى انها ليست مكانا فقط، اذ هي زمان ايضا.
كان هذا الشريط من الذكرى يحتاج قلبي ومخيلتي حين كنت في عداد المحتفلين بالقدس عاصمة دائمة للثقافة العربية، ثم ارتقى شاعرنا الكبير سميح القاسم منصة الخطاب، فقال ما هو اكثر من القصيدة، اذ اخذ ينشد والجمهور يصغي الى وجيب قلبه، وهو ينتقل من الشعر الى الهتاف الذي سرعان ما ردده وراءه الجميع: بالروح، بالدم نفدي عاصمتنا الابدية، نفذي القدس..
وكانت تلك من المرات النادرة التي تشعر فيها ان القاعة قد تحولت الى رئة شاسعة للشاعر، فاذا هي رئة للمدينة المقدسة، ونحن بعض انفاسها العنيدة..
لا انكر ما في قولي هذا من انفعال، ولكن الذين استمعوا الى المتكلمين في حفل القدس عاصمة ابدية، قد سعدوا بالمنطق المعزز بالتواريخ والشواهد تتلوه السيدة سهام البرغوثي وزيرة الثقافة، والأخ ابو العبد، الطيب عبد الرحيم امين عام الرئاسة، والأخ ابو عبد الله عثمان ابو غربية القيم على هذه المناسبة، فضلا عما توسع فيه سادن القدس واحد ضمائرها الحارسة عدنان الحسيني الذي نبه الى المخاطر التي تهدد المدينة المقدسة.
ولا تفوتني الاشارة الى الصوت الشعري اليانع، رولا سامي سرحان، اضافة الى الهدية الجليلية من غناء سناء موسى واداء الفرقة المصاحبة لها، وقد شرفت باسهام متواضع في ذلك الحفل، حيث تضافر الجميع على تأكيد المؤكد، المدعوم بالمعلومات والاشارات، وما يفتح الآفاق امام افكار جديدة للحفاوة بالقدس.
ولقد اسعدتني سناء موسى حين غنت يمه مويل الهوى وهي لا تدري انني مؤلف كلمات تلك الأغنية.. فقد خرجت الأغنية من خصوصية النص الى عمومية الانشاد.
الا نحتفل بالقدس، ونقدم الى هذه الارض السماوية بعضا مما تستحق، والا فكيف عاصمة دائمة للثقافة العربية؟