ابنة ”لوبيا“ التي حققت حلم العودة- محمد سليمان
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
حملتها أمّها على عَجل وراحت تركض وزوجها نحو المجهول بعد سماع خبر سقوط مدينة الناصرة بأيدي العصابات الصهيونية، الناصرة كانت آخر المدن التي يعتمد عليها سكان المنطقة بعد طبرية-التي سقطت من قبل. بدأت مسيرة النازحين نحو الجهة الشمالية من فلسطين، وهم يحملون أطفالهم على أياديهم، بطانية فوق رؤوسهم ومفتاح العودة الذي يترنح يمنة ويسرة على خاصرة الفلسطيني الذي لم يفهم سر ترنح المفتاح إلا بعدما فات الأوان.
ظن هؤلاء أنهم لن يلبثوا إلا أيام معدودة في قرية مجاورة التي لفظتهم أكثر وأكثر شمالا بعد تأزم الاحوال داخل فلسطين، حتى وصلوا سوريا ولبنان. وهنالك أقاموا مخيمات على أمل العودة بعد أيام وفي اسوأ الاحوال بعد شهر أو اثنين.
هكذا بدأت حكاية من عشرات آلاف حكايات النكبة، حكاية طفلةكانت تبلغ من العمر آنذاك سنتين، فلسطينية من سكان قرية لوبية قضاء مدينة طبريا. كطفلة ربما لم تفطم بعد، لعلها بعد رشدها في المخيمات لم تذكر من فلسطين إلا حاجتها للرضاعة من أمها، ولو أدركت هذا لكانت تشبثت في الأرض ونظرت في كل زوايا المكان لتبقي شيئاً من فلسطين في ذاكرتها. وعلى ما يبدو فإنها لم تخسر كل شيء، فكفاها ما رضعته من جرعات في أرضها لكي ترسخ فيها حق العودة الذي انتزعته فيما بعد، ولعل كل لاجئ فلسطيني تمنى لو أنه كان هي.
جالسنا العائدة لأرضها وفتحنا كتب التاربخ بداية لنطلع على موقع القرية جغرافيا، ماضيها وقصة تهجيرها، فحدثنا كتاب ”كي لا ننسى“ كثيرا، وهذه خلاصة الغوص بين صفحاته والاستماع لقصصه. بل لم نكتفِ هنا وكانت لنا زيارة ميدانية للقرية المهجرة برفقة ابن العائدة، ورصدنا أهم المعالم الباقية وأراضيها وزرنا عين الماء هناك.
قرية لوبية غربي مدينة طبريا، يقدر عدد سكانها في منتصف سنوات الأربعين بألفين شخص تقريبا. عدد المنازل يزيد عن ال، 400 منزلاً، وجلّ أراضيها كانت مستثمرة في مجال الزراعة. ويعود سبب تسميتها إلى اسم أبو بكر اللوبياني، العالم الديني الذي عاش في القرن الخامس عشر ميلادي. ولعل القرية لم تتوقف عن انجاب الفلذات، ودلالة على ذلك فإن الشيخ محمود الصمادي المؤرخ وجامع الاحاديث ومرتبها في تفسير الجلالين-طبعة المكتبة الحديثة-دمشق، هو نفسه ابن قرية لوبية، وهو والدة سميحة الصمادي تلك الطفلة التي ولدت في فلسطين وترعرعت في جنبات مخيم اليرموك ومن ثم هي التي عادت إلا أرضها.
قصة احتلال القرية وتهجير سكانها
ما وثق حسب الصحف الفلسطينية أن العصابات الصهيونية بدأت مهاجمة القرية بداية من تاريخ 20 كانون الثاني سنة 1948، حتى تهجير أهلها بتاريخ 16 تموز من نفس السنة. وشهدت هذه الفترة عديد الاقتحامات، والغارات على القرية، وقصفها بالمدفعية. من أشهر الفرق التي ساهمت في تهجير أهل القرية وتدمير حجرها، هي فرقة الهاغاناه.
في تاريخ 16 تموز من سنة 1948، وبعد سماع أخبار تفيد بسقوط مدينة الناصرة، وخوفا من تكرار مذبحة-مجزرة أخرى تكون بحقهم هذه المرة، غادر سكان القرية للقرى المجاورة شمالا وتدرجوا حتى وصل قسم منهم سوريا والقسم الآخر لبنان، وبقي في القرية ثلة من المرابطين المجاهدين الذين أيقنوا بأنفهم لن يستطيعوا على مقاومة العصابات الصهيونية وتركوا القرية خلفهم ولحقوا الركب. وحسب شهود عيان فإن القرية قصفت من قبل العصابات قبل دخولها.
حتى أنهم قالوا بأن لوبية سقطت من دون قتال، كغيرها الكثير من القرى، التي كان بإمكان أهلها الصمود والرباط، وربما كان سيكون غير ما كان، إلا أنه حدث ما حدث.
عودة الحاجة ”سميحة الصمادي“ لقريتها
كبرت الطفلة التي حملها والداها بين يديهم نازحين من عصابات الاحتلال الصهيوني، ترعرعت في مخيم اليرموك-سوريا. لم تكن تفكر أبدا في العودة إلا بتحرير الأراضي المحتلة، وراودها شعور اليأس كأقرانها الفلسطينيين، في ظل تخاذل عربي اسلامي تجاه القضية، ومن ناحية أخرى فإن دولة الاحتلال تزيد من نفوذها وقوتها العسكرية ومع مرور الوقت تحشد داعمين أكثر لكيانهم من قِبل الرأي العام العالمي وأصحاب النفوذ الدولية.
إلا أن القدر كان يخبىء لها مفاجئة أكبر مما تتصور هي وأهلها وجميع اللاجئين. حيث جاء فارس أحلامها ليعيدها لأرضها، وهذه قصته. لاذ بضع شباب من الداخل الفلسطيني إلى سوريا نهاية سنوات الخمسينات، لاذوا فرارا من الحكم العسكري والتضييقات عليهم تحت حكم الاحتلال.
فور وصولهم لسوريا قرروا العودة لفلسطين على اثر اعتقالهم كمشتبهين. وتزامن ذلك مع تسلم البعث زمام السلطة في سوريا، وما كان منهم إلا الفرار من سوريا التي كانوا يأملون بأن تكون الحضن الدافئ لهم.
بطريقة أو بأخرى تعرف والد الفتاة على أحد الشباب الذي هو من قرية مجاورة، وتطورت العلاقة حتى تزوج الشاب إبنة الشيخ محمود الصمادي.
تقسمت رحلة العودة على مراحل، في البداية سكن الزوج الشاب في سوريا، ومن ثم تحولوا للأردن حتى يكونا على مقربة أكثر من الداخل الفلسطيني، وفق آلية ”لم الشمل“ استطاع هذا الشاب تحصيل حق العودة من حلق المؤسسة الاسرائيلية، وبقاء عائلته شفعت له للعودة ومعه عائدة جديدة.
قصة إبنة لوبية من أغرب القصص الفلسطينية التي سمعنا عنها، فقريتها هجرت بالكامل، قصفت بالمدفعية وطمست معالمها عن بكرة أبيها. لكن الفتاة عادت وإن عادت لقرية مجاورة تعيش مع زوجها.
عادت وقطفت من زيتون أبيها، واعترضها اليهودي الذي آستولى على الارض، لكنها قالت لزوجها ليخبره بلغته بأن هذه أرض أبيها ولها الحق الكامل فيها ولن يمنعها من أن تقطف الزيتون. فرضخ المحتل عند هذا الموقف مجبرا.
رضعت حق العودة، فكانت العودة من نصيبها، داعية المولى على أن يعيد أهل الأرض جميعا، لتحكل عينيها بعودة أهلها وجميع اللاجئين.
عن قدس الاخبارية