"جدتي" وحكاياتها في النكبة- مجد أبو سلامة
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
جدتي وحكاياتها الكثيرة التي تنطق بها تجاعيد وجهها لا تنتهي ولا تُمَل، وإن كانت في آخر الليل، تارةً تسْرد لي قصصاً، وهي تُلاعِب ظفائري المجدولة ،عن حالهم قبل نكبة 1948، وكيف كانوا يمْلكون أراضيهم، ويهتمون بها ، وبرغم التعب والإرهاق الواضح في عيونهم، وقطرات العرق التي تتصبب كشلالٍ علي وجوههم من الحرث والزرع، إلا أنهم كانوا فرحين بهذه الإنجازات، مستمتعين بالتعاون الذي كان يجمع كل أبناء القرية، وأصوات دندناتهم تتعالي طرباً خاصة عندما تدق ساعة القِطاف، وقتها ييقنون أن تعبهم لم يذهب هدراً، وتارةً حين تحدثني عن بلدهم بيت جرجا، وكيف كانت، ومن كان يسكنها ؟، كنت أستغرب أن جدتي بهزل جسمها تحفظ في ذاكرتها اسم كل فرد يسكن قريتهم، ومن كان يجاورها في القري الفلسطينية الأخري، حتي أنني كنت ما ألبث أن أسألها عن فلان من بيت كذا ، فترد قائلة هذا من دير سنيد وهكذا ، وتعود لتكمل عن بساطة معيشتهم ،وكيف أنهم كانوا يضعون اللقمة علي اللقمة لكي تكفي للجميع وكما قالت جدتي "أكلة هنية بتكفي مية ".
مرّت الأيام، وجدتي تعد أصابعها حلماً ببيت جرجا، كيف ستكبر، وستكون أجمل بأشجارهم الخضراء المثمرة ، ولكن لمْ يكتمل حلم جدتي، إلا جاء كابوس الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، الذي هجّرهم من أراضيهم قسراً بقوة السلاح، ودمَر قراهم التي أصبحت رماداً، فأخذوا ما استطاعوا معهم من حاجات أساسية تسْند ظهرهم، وتسُدّ جوعهم " سُرّة " ، وركضوا لمُجرد رؤيتهم جيرانهم في القري المجاورة يشردون صوبهم مذعورين، وهم لا يعرفون أن الاحتلال الاسرائيلي حلّ علي أرض فلسطين، كأنهم قرأوا ذلك وفهموه من ملامح الخوف في وجوه جيرانهم ، لكنهم ظنوا أنها أيام وسيعودون لأراضيهم، ولم يأتِ ببالهم ولو للحظة أنّها ستمتد لشهور وسنين، ورغم تركهم الكثير من أغراضهم فارّين بأجسامهم، والاضطراب الذي نابهم في تلك اللحظة العشوائية، إلا أنهم لم ينْسوا مفاتيح بيوتهم، وأوارقهم التي تثبت ملكية الأرض لهم، لا بل هي أول ما تذّكروه.
مشت جدتي مسافات طويلة تتعكّز علي رجليها، وتحمل علي كتفها ابنها الصغير الذي كان يبلغ عدة شهور ، يبكي وهي تناغي له، وتطمئنه بأنهم سيرجعون خلال أيّام ، لكنه اسْتمر بالبكاء كأنه شعر بأن موعد العودة بعيد المنال ، ومضوا سائرين حتي وصلوا قطاع غزة، واستقروا هناك ومنهم من هاجر إلي الأردن، ومصر، ولبنان، وسوريا.
بدأت الهجرة اليهودية من كل أنحاء العالم إلي فلسطين ،مقنعين أنفسهم بأن أرض فلسطين هي ملكهم، وأن الفلسطينيين لا أرض لهم، عملاً بوعد بلفور1917 " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض " ، زادت أعداد اليهود في فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولم يبقَ لنا سوى القليل لنعيش عليه.
إن تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لا يتمثل فقط في رصد أحداث العدوان الإسرائيلي، والمعاناة الفلسطينية، ولكنه تاريخ الأيديولوجيا التي قام عليها هذا الاحتلال، وتاريخ الأفكار والقصص التي قام المجتمع الإسرائيلي بفبركتها لتبرير مشروعه الاستعماري "كما قال الكاتب الإسرائيلي ران هاكوهين".
لم تكن جدتي ختيارة علي الإطلاق، ولكن من كثر ما مرّ عليها شابَ شعر رأسها، كانت بمثابة مؤرخة ترْوي تاريخنا بأسلوبٍ قصصي بسيط "حكواتي" مع أنها أميّة، ولا تجيد استخدام أساليب اللغة العربية ، وأنا كنتُ طفلة، لكنها كانت تُحاول أن تعيّشني في جوٍ مثْقل بقصص الأبطال، والمعارك، والشهداء، والأسري، ومفتاح العودة ، كانت تجرّعني إياه بالملعقة رشفة رشفة من كثرة تعقيداته لكي أستوعبه، وأكْبر عليه، ولا أصْدَم بواقعنا الذي لا يشبه شئ، خاصة لأنني صغيرة والاحتمال الكبير الذي كان يعشش في رأس جدتي بأن لا أعيش كما يعيشون أطفال العالم في سلام وأمان.
وانقلبت الآية رأسا على عقب ، فلم يعُد ما كنّا نملكه ملكنا ، ولم تعد عادة القري والعيلة عادتنا، ولم يعُد الفطور البلدي المعتبر من زيتٍ، وزعتر، وجبنة بيضاء نابلسية، وحلاوة طحينية يجمع شمْلنا، وأصبح الفرح مؤجل، لأن الحزن والخوف بدأ يضرب بالأرض لينبت أعمدة من خشب، ولم تعد أسْقف بيوتنا البسيطة تأوينا بل الأشجار غطيناها بخيش، أو أكياس طحين( الوحيدة التي ظلت متبقية وليست بالشيء الثمين الذي يلفت الأنظار ويكون عرضة ليقتلعه الاحتلال منا) فيصبح خيم ننام فيها، والأوجاع تضاعفت من إبن يؤسر من قبل قوات الإحتلال الإسرائيلي أو يقتل أو يجرح، وأرض تسلب أو تجرّف، وفلسطينيون يشرّدون في بقاع الأرض .
لم تبكي جدتي دمّاً علي ما تركته سوي علي أرضها بيت جرجا التي هُجّرت منها، وولّت ، وأضحت ذكري، أرضها التي كانت أمّاً تحتضنها عندما يكون مزاجها معكّراً فتذهب لها، وتجلس علي كرسي القش تحت شجرة الجميزة، وتوقد الكانون لتشرب القهوة وتغني (يما مويل الهوا يما مويليا ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا) ، فيهب بلسم نسمات الهواء العليلة فيشفي قلب جدتي ويبعث فيها الراحة والسعادة ، وإن كانت جدتي فرحة تتمايل معها الأشجار رقصاً تشاركها حالها ، ولكن أرض جدتي الآن ليست معها ولا تستطيع أن تصل إليها، فإن اشتاقت وهمّت بذلك إما أن تجد جنود الاحتلال الاسرائيلي يدفشونها بقوة لكي لا تتقدم خطوة نحوها ، وإما أن تصتدم بالجدار الفاصل الذي لا تستطيع اجتيازه وبالتالي ينقسم روحها نصفين نصفا معلقاً بأرضها ونصفاً يحاكيها ، وإن استطاعت ووصلت إليها قد تموت حسرة علي أولادها (الأشجار) الذين قد اقتلعوا أو أرضها التي قد جُرّفت.
كلمة ثورة تدور وتدور مثل الساعة ، مثل العقرب في حياة جدتي لا تتوقف ، فتبدأ من فوق ثم تنزل ، وتعود ثانية إلي أعلي ، إلي رقم 12 ، ولا تهدأ ، كأنها في مسابقة مع الزمن ، فلم تلبث أن ذهبت النكبة ، مع أن آلامها لم تضمد بعد، إلا جاءت مذبحة قلقيلية، ومذبحة كفر قاسم، وخانيونس التي قامت بها القوات الاسرائيلية ما بين عامي 1953- 1956 ونزفت دماء الكثيرين خلالها، وتقول جدتي لم يكتفوا بذلك بل كرروها مرة ثانية علي خانيونس ليستلذوا في رؤية الدماء تسيل ، وزاد الطين بلّة النكسة عام 1967 التي حلّت بالضفة الغربية وقطاع غزة وأرض سيناء والجولان حيث سيطروا عليها، وبذلك خابت آمال شعبنا الفلسطيني وتحطمت أحلام جدتي ، وبدأ الصهيونيون بعمليات منظمة لتهجير المهجرين أصلا، طامحين بذلك مسح الهوية الفلسطينية من عقولهم .
وفي عام 1968 كان لا بد من رد شيء من كرامتنا التي سلبت ، فقامت الكرامة حرباً سمي باسمها ، واستمرت سلسلة المذابح في الانفراط واحدة تلو الأخري كأن الأجسام تعودت عليها، وأصبحت تنتظرها فحدثت مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان عام 1982 ، وعين الحلوه 1983 ضد مخيمات اللجوء الفلسطينية .
وتستطرد جدتي قائلة عن استهداف القيادات الفلسطينيه في تونس والخارج وعمليات الاغتيال المنظمة التي كان يمارسها في حقهم الموساد الاسرائيلي .
وتحدثني جدتي عن كمْ من انتفاضة انتفضنا لنعيد أرضنا، وما سلب من حقوقنا البسيطة المشروعة، وكنا لا نملك أسلحة ولا يوجد في ميزان قوتنا شيء نراهن عليه، سوي أحجار القرى التي فاضت من كثر ما تكسرت علي أيدي الاحتلال الاسرائيلي، فنقابل بالبارود والنار والقتل بدمٍ بارد، ليغسلوا المدينة بدمائنا الطاهرة التي توزع حكاياتنا علي زواياها الحاضنة لنا ،لتكتبنا رمزاً للشموخ .
وتروي لي كيف أن الشعب الفلسطيني رغم ما مرّ علي رأسه من خيبات أمل وصدمات، إلا أنه كان صامدًا وقويًا، صاحب عزيمة لا تنكسر أمام جبروت المحتل، وتقول إنهم استمروا في انتفاضتهم حتى سنة 1993 حيث قيل إن هناك اتفاق للسلام، وأن هناك عوده ودولة وسلطة وحكم فلسسطيني لفلسطين، وكيف أنها كانت سعيدة جدا لأنها كانت تظن أنها سترجع إلى بيت جرجا، وتقول:" بدأت بتوضيب أغراضي كي أكون جاهزة متي قالوا هيا لنعود إلى بيت جرجا" وصمتت جدتي وقد امتلئت عيونها بالدموع، وقالت: لكننا لم نعُد بعد .
كمْ مرّ علي أرضنا أجيال ، ومرّ احتلال وعواصف وزلزال صدّع أزقّتها، وجعل بلدنا مقلوبة ،وحولها دمار وأحجار كثيرة، وشظايا أسلحة، وغبار كثيف، وأقمشة ممزقة، وبقايا أهل، هَجَروها وغابوا عنها، رحلوا ، همدوا ، ماتوا ، باتوا ذكري في زمن عتيق ، وشعب متنقل عبر مراحل، محطات، هجرات، مذابح، نكبات، نكسات، حروب، كم تركت لي جدتي التي كانت هنا منذ التاريخ ، أقصد سنوات جرارة ، ستون وأكثر علي الهجرة من وثائق وصور ورسائل ومفاتيح ، وكم وجدتُ في كل ركن وزاوية قصة تُحْكى، وصورة تَنْطق ، وبقايا معلّقة، وقصائد زجل مخطوطة لم تُنْشر .. هذا ما ورثت من جدتي قصص وقصائد منسية ودار وذاكرة مهجورة .
zaجدتي وحكاياتها الكثيرة التي تنطق بها تجاعيد وجهها لا تنتهي ولا تُمَل، وإن كانت في آخر الليل، تارةً تسْرد لي قصصاً، وهي تُلاعِب ظفائري المجدولة ،عن حالهم قبل نكبة 1948، وكيف كانوا يمْلكون أراضيهم، ويهتمون بها ، وبرغم التعب والإرهاق الواضح في عيونهم، وقطرات العرق التي تتصبب كشلالٍ علي وجوههم من الحرث والزرع، إلا أنهم كانوا فرحين بهذه الإنجازات، مستمتعين بالتعاون الذي كان يجمع كل أبناء القرية، وأصوات دندناتهم تتعالي طرباً خاصة عندما تدق ساعة القِطاف، وقتها ييقنون أن تعبهم لم يذهب هدراً، وتارةً حين تحدثني عن بلدهم بيت جرجا، وكيف كانت، ومن كان يسكنها ؟، كنت أستغرب أن جدتي بهزل جسمها تحفظ في ذاكرتها اسم كل فرد يسكن قريتهم، ومن كان يجاورها في القري الفلسطينية الأخري، حتي أنني كنت ما ألبث أن أسألها عن فلان من بيت كذا ، فترد قائلة هذا من دير سنيد وهكذا ، وتعود لتكمل عن بساطة معيشتهم ،وكيف أنهم كانوا يضعون اللقمة علي اللقمة لكي تكفي للجميع وكما قالت جدتي "أكلة هنية بتكفي مية ".
مرّت الأيام، وجدتي تعد أصابعها حلماً ببيت جرجا، كيف ستكبر، وستكون أجمل بأشجارهم الخضراء المثمرة ، ولكن لمْ يكتمل حلم جدتي، إلا جاء كابوس الاحتلال الإسرائيلي عام 1948، الذي هجّرهم من أراضيهم قسراً بقوة السلاح، ودمَر قراهم التي أصبحت رماداً، فأخذوا ما استطاعوا معهم من حاجات أساسية تسْند ظهرهم، وتسُدّ جوعهم " سُرّة " ، وركضوا لمُجرد رؤيتهم جيرانهم في القري المجاورة يشردون صوبهم مذعورين، وهم لا يعرفون أن الاحتلال الاسرائيلي حلّ علي أرض فلسطين، كأنهم قرأوا ذلك وفهموه من ملامح الخوف في وجوه جيرانهم ، لكنهم ظنوا أنها أيام وسيعودون لأراضيهم، ولم يأتِ ببالهم ولو للحظة أنّها ستمتد لشهور وسنين، ورغم تركهم الكثير من أغراضهم فارّين بأجسامهم، والاضطراب الذي نابهم في تلك اللحظة العشوائية، إلا أنهم لم ينْسوا مفاتيح بيوتهم، وأوارقهم التي تثبت ملكية الأرض لهم، لا بل هي أول ما تذّكروه.
مشت جدتي مسافات طويلة تتعكّز علي رجليها، وتحمل علي كتفها ابنها الصغير الذي كان يبلغ عدة شهور ، يبكي وهي تناغي له، وتطمئنه بأنهم سيرجعون خلال أيّام ، لكنه اسْتمر بالبكاء كأنه شعر بأن موعد العودة بعيد المنال ، ومضوا سائرين حتي وصلوا قطاع غزة، واستقروا هناك ومنهم من هاجر إلي الأردن، ومصر، ولبنان، وسوريا.
بدأت الهجرة اليهودية من كل أنحاء العالم إلي فلسطين ،مقنعين أنفسهم بأن أرض فلسطين هي ملكهم، وأن الفلسطينيين لا أرض لهم، عملاً بوعد بلفور1917 " أرض بلا شعب لشعب بلا أرض " ، زادت أعداد اليهود في فلسطين بعد الحرب العالمية الثانية وبعد انهيار الاتحاد السوفييتي، ولم يبقَ لنا سوى القليل لنعيش عليه.
إن تاريخ الاحتلال الإسرائيلي لا يتمثل فقط في رصد أحداث العدوان الإسرائيلي، والمعاناة الفلسطينية، ولكنه تاريخ الأيديولوجيا التي قام عليها هذا الاحتلال، وتاريخ الأفكار والقصص التي قام المجتمع الإسرائيلي بفبركتها لتبرير مشروعه الاستعماري "كما قال الكاتب الإسرائيلي ران هاكوهين".
لم تكن جدتي ختيارة علي الإطلاق، ولكن من كثر ما مرّ عليها شابَ شعر رأسها، كانت بمثابة مؤرخة ترْوي تاريخنا بأسلوبٍ قصصي بسيط "حكواتي" مع أنها أميّة، ولا تجيد استخدام أساليب اللغة العربية ، وأنا كنتُ طفلة، لكنها كانت تُحاول أن تعيّشني في جوٍ مثْقل بقصص الأبطال، والمعارك، والشهداء، والأسري، ومفتاح العودة ، كانت تجرّعني إياه بالملعقة رشفة رشفة من كثرة تعقيداته لكي أستوعبه، وأكْبر عليه، ولا أصْدَم بواقعنا الذي لا يشبه شئ، خاصة لأنني صغيرة والاحتمال الكبير الذي كان يعشش في رأس جدتي بأن لا أعيش كما يعيشون أطفال العالم في سلام وأمان.
وانقلبت الآية رأسا على عقب ، فلم يعُد ما كنّا نملكه ملكنا ، ولم تعد عادة القري والعيلة عادتنا، ولم يعُد الفطور البلدي المعتبر من زيتٍ، وزعتر، وجبنة بيضاء نابلسية، وحلاوة طحينية يجمع شمْلنا، وأصبح الفرح مؤجل، لأن الحزن والخوف بدأ يضرب بالأرض لينبت أعمدة من خشب، ولم تعد أسْقف بيوتنا البسيطة تأوينا بل الأشجار غطيناها بخيش، أو أكياس طحين( الوحيدة التي ظلت متبقية وليست بالشيء الثمين الذي يلفت الأنظار ويكون عرضة ليقتلعه الاحتلال منا) فيصبح خيم ننام فيها، والأوجاع تضاعفت من إبن يؤسر من قبل قوات الإحتلال الإسرائيلي أو يقتل أو يجرح، وأرض تسلب أو تجرّف، وفلسطينيون يشرّدون في بقاع الأرض .
لم تبكي جدتي دمّاً علي ما تركته سوي علي أرضها بيت جرجا التي هُجّرت منها، وولّت ، وأضحت ذكري، أرضها التي كانت أمّاً تحتضنها عندما يكون مزاجها معكّراً فتذهب لها، وتجلس علي كرسي القش تحت شجرة الجميزة، وتوقد الكانون لتشرب القهوة وتغني (يما مويل الهوا يما مويليا ضرب الخناجر ولا حكم النذل فيا) ، فيهب بلسم نسمات الهواء العليلة فيشفي قلب جدتي ويبعث فيها الراحة والسعادة ، وإن كانت جدتي فرحة تتمايل معها الأشجار رقصاً تشاركها حالها ، ولكن أرض جدتي الآن ليست معها ولا تستطيع أن تصل إليها، فإن اشتاقت وهمّت بذلك إما أن تجد جنود الاحتلال الاسرائيلي يدفشونها بقوة لكي لا تتقدم خطوة نحوها ، وإما أن تصتدم بالجدار الفاصل الذي لا تستطيع اجتيازه وبالتالي ينقسم روحها نصفين نصفا معلقاً بأرضها ونصفاً يحاكيها ، وإن استطاعت ووصلت إليها قد تموت حسرة علي أولادها (الأشجار) الذين قد اقتلعوا أو أرضها التي قد جُرّفت.
كلمة ثورة تدور وتدور مثل الساعة ، مثل العقرب في حياة جدتي لا تتوقف ، فتبدأ من فوق ثم تنزل ، وتعود ثانية إلي أعلي ، إلي رقم 12 ، ولا تهدأ ، كأنها في مسابقة مع الزمن ، فلم تلبث أن ذهبت النكبة ، مع أن آلامها لم تضمد بعد، إلا جاءت مذبحة قلقيلية، ومذبحة كفر قاسم، وخانيونس التي قامت بها القوات الاسرائيلية ما بين عامي 1953- 1956 ونزفت دماء الكثيرين خلالها، وتقول جدتي لم يكتفوا بذلك بل كرروها مرة ثانية علي خانيونس ليستلذوا في رؤية الدماء تسيل ، وزاد الطين بلّة النكسة عام 1967 التي حلّت بالضفة الغربية وقطاع غزة وأرض سيناء والجولان حيث سيطروا عليها، وبذلك خابت آمال شعبنا الفلسطيني وتحطمت أحلام جدتي ، وبدأ الصهيونيون بعمليات منظمة لتهجير المهجرين أصلا، طامحين بذلك مسح الهوية الفلسطينية من عقولهم .
وفي عام 1968 كان لا بد من رد شيء من كرامتنا التي سلبت ، فقامت الكرامة حرباً سمي باسمها ، واستمرت سلسلة المذابح في الانفراط واحدة تلو الأخري كأن الأجسام تعودت عليها، وأصبحت تنتظرها فحدثت مجزرة صبرا وشاتيلا في لبنان عام 1982 ، وعين الحلوه 1983 ضد مخيمات اللجوء الفلسطينية .
وتستطرد جدتي قائلة عن استهداف القيادات الفلسطينيه في تونس والخارج وعمليات الاغتيال المنظمة التي كان يمارسها في حقهم الموساد الاسرائيلي .
وتحدثني جدتي عن كمْ من انتفاضة انتفضنا لنعيد أرضنا، وما سلب من حقوقنا البسيطة المشروعة، وكنا لا نملك أسلحة ولا يوجد في ميزان قوتنا شيء نراهن عليه، سوي أحجار القرى التي فاضت من كثر ما تكسرت علي أيدي الاحتلال الاسرائيلي، فنقابل بالبارود والنار والقتل بدمٍ بارد، ليغسلوا المدينة بدمائنا الطاهرة التي توزع حكاياتنا علي زواياها الحاضنة لنا ،لتكتبنا رمزاً للشموخ .
وتروي لي كيف أن الشعب الفلسطيني رغم ما مرّ علي رأسه من خيبات أمل وصدمات، إلا أنه كان صامدًا وقويًا، صاحب عزيمة لا تنكسر أمام جبروت المحتل، وتقول إنهم استمروا في انتفاضتهم حتى سنة 1993 حيث قيل إن هناك اتفاق للسلام، وأن هناك عوده ودولة وسلطة وحكم فلسسطيني لفلسطين، وكيف أنها كانت سعيدة جدا لأنها كانت تظن أنها سترجع إلى بيت جرجا، وتقول:" بدأت بتوضيب أغراضي كي أكون جاهزة متي قالوا هيا لنعود إلى بيت جرجا" وصمتت جدتي وقد امتلئت عيونها بالدموع، وقالت: لكننا لم نعُد بعد .
كمْ مرّ علي أرضنا أجيال ، ومرّ احتلال وعواصف وزلزال صدّع أزقّتها، وجعل بلدنا مقلوبة ،وحولها دمار وأحجار كثيرة، وشظايا أسلحة، وغبار كثيف، وأقمشة ممزقة، وبقايا أهل، هَجَروها وغابوا عنها، رحلوا ، همدوا ، ماتوا ، باتوا ذكري في زمن عتيق ، وشعب متنقل عبر مراحل، محطات، هجرات، مذابح، نكبات، نكسات، حروب، كم تركت لي جدتي التي كانت هنا منذ التاريخ ، أقصد سنوات جرارة ، ستون وأكثر علي الهجرة من وثائق وصور ورسائل ومفاتيح ، وكم وجدتُ في كل ركن وزاوية قصة تُحْكى، وصورة تَنْطق ، وبقايا معلّقة، وقصائد زجل مخطوطة لم تُنْشر .. هذا ما ورثت من جدتي قصص وقصائد منسية ودار وذاكرة مهجورة .