أحفاد النكبة.. -موفق مطر
ما بين تل الزعتر.. وصبرا وشاتيلا وجباليا المعسكر.. مجازر وإنسان يتحدى الغزاة على أرضه بالذاكرة، بالإرادة، بالصبر والبصيرة والبصر.
النكبة هي النكبة.. والمأساة صور بصرية وقلمية تذوب الصقيع، تحرر الضمائر الانسانية من التجمد والتوحد.
لم اعش ايام النكبة لكني عشت اياما من مأساة ونزيف عروق أحفادها ,, وهذه صورة
أم.... تهرول باكية.. تمسك بغطاء رأسها... تتفادى رصاص الغزاة المنفجر على جدران بيوت واكواخ يكاد صفيح سقوفها لا يقوى على التصدي لحبات المطر !!.
تتقدم بخطى متعثرة بأثقال الحزن والرعب الممهور بخاتم الغزاة المرعبين الباطشين بإنسان..إذا سئل ما ذنبك ؟ قال: “ أنا فلسطيني “ !.
كهل قابض على ساعد طفله بيمينه، ويساعد حفيدة “ بنت النكبة “ على تخطي أكوام الركام مما تبقى من روضة تل الزعتر، دموعها تسبق رغبتها في التعبير عن مصابها.. فقد شوه الغزاة محيا صباها بالألم الذي زرعوه حزنا ورعبا في قلبها ومحياها.
تأخذ نفسا عميقا, يتقاطع صوتها المتهدج مع أزيز الرصاص الخارق لسكون تل الزعتر وآمال ومستقبل الصبية المفجوعين.. هي لم تصرخ ولا نفشت شعرها.. ولا مزقت ثوبها, وانما لها صبر وألم عميق يمزق جلاميد الصخور.
بتماسك روت مصابها : قتلوا أبوي.. كان يطل من البلكونة، فطخوه برأسه.. ايش ذنبه أبوي!؟ ما عملهم شي.. الله يرحمك يابا.. حسبنا الله ونعم الوكيل.. أبوي أصم ما بيحكي وما بيسمع.!! عرفتو الحقيقة يا ناس؟.
لا تدرك ابنة الشهيد أن الغزاة أطلقوا النار على صورة القابضين على سدة النظام في حكومات ناطقة بالضاد.
كان والد “ حفيدة النكبة “ يعرف ويدرك أن الغزاة يشنون الحرب على أهله وبني شعبه فرفض أن يبقى أصم فأراد أن يتحدى ولو بالبصر..بالنظر إلى أرضه وبيوت احبائه ومن حل حولها وما حل فيها.. ليشهد كيف جعل المحتلون الغزاة عاليها أسفلها، فقتلوه لأنهم لا يريدون رؤية فلسطيني يحن إلى أرضه ويخاف عليها كما أبنائه!!.
شاهد العالم دموع ابنة الشهيد تحكي رواية الإنسان المبتلى بالشر المندفع عبر الحدود إلى قلب بيوتنا، أوطاننا الصغيرة وصدورها الآمنة.
صغار حفاة.. بقطعتين من اللباس، وبطون جائعة.. يتهافتون على قارورة الماء.. فالجيرة تقضي ان نعيد النبض الطبيعي لشرايين الأطفال المرتعبين، فقع وجوههم اصفرار الخوف الهاجم عليهم كزخات رصاص المحتلين.
بيد تشد رضيعها إلى صدرها تدير ظهرها إلى مصدر الرصاص. والثانية، والثالثة تحمل كل منهما طفلين.. تلاحقهما طلقات الجنود المهووسين.. تحتمي النساء وأطفالهن بجدار.. يغامرن بالمرور من درب مكشوف.. أم الرضيع المرتجف عبرت به درب الموت المسلط عليها وعلى ذريتها.. فكم موسى في اساطيرنا يا ترى ؟! يتعالى صراخ المتجمعين، يشيرون للرجل وعائلته الى ممر الأمان...
كالحملان الصغيرة يتراكضون الواحد تلو الآخر يدفعهم الفزع.. يحنون ظهورهم، يتلفتون بحذر تكاد عيونهم تسبقهم إلى حيث يتجمع أهلهم الهاربون من وحش مرعب متعدد الرؤوس والسبطانات .
ثلاثة أطفال.. يتبعهم اثنان أما أبوهم فيحمل اصغر اثنين والأم تضم رضيعا تحميه بجسدها القوي المشبع من خير الأرض المثمرة زيتونا وبرتقالا وعسلا من مناحلهم وبيضا من مزارع دواجنهم الحديثة..
جرف الغزاة المحتلون بيارات وشجر نخيل سيزرعها عندما يعود الغزاة عن جبروتهم واستكبارهم ويدركون أن الشعب الفلسطيني موجود واللاجئ الذي سيعود، شعب محب للسلام.
تزيدهم المحنة حكمة ولا تلوي المصائب أعناقهم. ولا تنكسر لهم إرادة. هكذا قال ابو الأولاد : الحل ليس عسكريا الحل نراه سياسيا، لقد أبدينا استعدادنا للسلام.
تنتصب في شوارع المخيم بيوت الشرف، فهنا يبغضون نعت الاستشهاد بالموت، فحرب الأيام الخمسة في معسكر جباليا وتل الزعتر قد نشرت في سماء الوطن رياحين الزهور البرية العطرية التواقة للحرية أبدا.
أطفال.. فتيان أجبرهم العدوان على مغادرة مقاعد الدراسة ولو مؤقتا.. فيتعلمون بمنهج قسري فرض عليهم دروس الحرب.. فملأوا أكياس الطحين الفارغة الموشومة برسم الاونروا والعلم الامريكي بالرمل وحولوها إلى متاريس في الأزقة الضيقة !!!
ربما يتمتع بعضهم اللامبالي بلعبة الحرب على خلفية الرصاص والانفجارات البعيدة، فيحول احدهم قطعة خشبية أطول من جسده الصغير المشبع بصور الجريمة وإرهاب الدولة وجيش الاحتلال ينبشون في أكوام الركام ويعبثون، يعطشون فيهرعون إلى أنبوب مكسور يتدفق منه الماء الحلال فيروون عروقهم ويرشون على شجرة برتقال صغيرة واحدة بقيت وحيدة من مئات في ببارة دمرها الغزاة وطحنوا جذوعها. وهشمه الركام.
تحمل الفلسطينية قوتا للأفواه الجائعة.. وترمي طفلة الفضلات في حاوية تنذر بالاسم المكتوب.
عليها وما حولها من أوساخ بوباء، يتسبب بفيروسه أولئك الغزاة دعاة النظافة، فإذ أيديهم القاتلة وحربهم الدقيقة تطال كل حي!!.