سلام من صبا بردى- يحيى يخلف
منذ أيام اتصلت بالشاعر سميح القاسم لكي أطمئن على صحته، وحالما رفع سماعة الهاتف، بادرته بالقول: سلامٌ من صبا.. فأكمل بصوت مرح: سلام من صبا بردى أرقُّ، ودمع لا يكفكف يا دمشق، وأضاف: كأن هذه القصيدة التي كتبها أمير الشعراء أحمد شوقي قد كتبت اليوم لا قبل سبعين عاماً أو يزيد.
وسميح مثلنا يحب سوريا، ويحب دمشق، يحب جامعها الأموي، وبيوتها التقليدية العتيقة، وقصائد فتاها نزار قباني، ورائحة ياسمينها، ويحب نهرها (بردى)، وغوطتها المثمرة بثمر الجوز، والاسكدنيا، والمشمش، والاجاص، والكبّاد، والتوت. ويحب أسواقها، وخصوصاً سوق الحميدية التاريخي الشهير الذي يجاور قلقها، ويحب جبل قاسيون الذي يقصده الناس للترويح عن النفس في مقاهيها، ومتنزهاتها، ويحب السبع بحرات، ومخيم اليرموك، وساحة المرجة، ومقهى الحجاز، ووادي بردى، ومطعم ابو شفيق، والوادي الاخضر، ومطعم العجلوني الذي كان يرتاده في الماضي غسان كنفاني والحكيم جورج حبش.
ويحب مقهى البرازيل الذي تجتمع به النخب المثقفة، والمسرح القومي في شارع الصالحية، ومطعم ابو كمال، ومطاعم الفول وفتة المقادم في البرامكة.
كانت مكالمة حزينة، ونحن نتذكر- أنا وسميح القاسم- ماضي دمشق الساحر وما وصلت اليه الآن من واقع أليم.
وكاتب هذه السطور، عاش في دمشق أزهى وأجمل أيام عمره، منذ ان كان شاباً يقبل على الحياة بقوة، ويندمج في أجوائها الثقافية، ويعقد صداقات مع شعرائها وأدبائها ومفكريها، وشخصياتها المرموقة.
مكالمتي مع سميح القاسم، فتحت جروحاً، وأعادت شريطاً من الذكريات، منذ ان انتقلت الى دمشق بعد احداث أيلول 70، حيث تفتح وعيي الوطني والثقافي تحت شمس الثورة الفلسطينية، وكانت دمشق آنذاك ساحة ابداع أدبي وفني، برزت فيها أصوات جديدة منها سعد الله ونوس، ممدوح عدوان، علي الجندي، شوقي بغدادي، هاني الراهب، ميشيل كيلو، نزيه ابو عفش، الفت ادلبي، قمر كيلاني، زكريا تامر، وعشرات غيرهم..
وظهرت أعمال ابداعية في مجالات الآداب والفنون، وخاصة في مجال المسرح حيث تألق نجم الكاتب المسرحي سعد الله ونوس وذاع صيته من خلال مسرحيته الرائعة التي شاهدتها (حفلة سمر من اجل 5 حزيران)، وامتازت هذه المسرحية بالجرأة، وأبرزت عيوب النظام العربي في نكسة حزيران 67.
كما تميز بالابداع والجرأة ممدوح عدوان، ونزيه ابو عفش، وشوقي بغدادي، ويبدو ان نظام حافظ الاسد في ذلك الوقت ترك مساحة ما للكتّاب، لاحتواء المعارضين.
دخلت تلك الاجواء الثقافية وانتميت لاتحاد الكتّاب السوريين الذي اطلق على نفسه اسم (اتحاد الكتّاب العرب)، واصبحت أنا وزميلي أحمد دحبور، ورشاد ابو شاور جزءاً من نسيج ثقافة الشباب في سوريا. كنا ثلاثتنا نسكن في مخيم اليرموك، وكان الكتاب السوريون يحتفون بنا، ويدعوننا للمشاركة في الامسيات الثقافية، وفي اللقاءات والصالونات الادبية، ثم انضم الينا الفنان التشكيلي الفلسطيني مصطفى الحلاج.
لا تتسع مساحة هذه التغريدة لسرد حكايا وقصص ونوادر وجمال وسحر تلك الأيام التي عشنا بها في سوريا، وفي دمشق بالتحديد، وآمل ان يتسع المجال في تغريدات قادمة، لكتابة ملامح من حياة عشناها تكتسي بالسحر والاسطورة.
وعودة الى مكالمتي مع سميح القاسم، ومطلع قصيدة أحمد شوقي:
سلام من صبا بردى أرقُّ ودمع لا يكفكف يا دمشق، قصيدة كتبها شوقي عندما كانت سوريا وعاصمتها دمشق تتعرض لاجتياح المستعمر الفرنسي، والشعب السوري يقاوم، ويقدم الضحايا ويسطر قادته الوطنيون، وفي المقدمة يوسف العظمة، بطل ملحمة معركة ميسلون، يسطرون صفحات مشرقة من تاريخ سوريا.
كان ذلك عندما كانت كل البنادق تتجه وتصوب نحو المستعمرين الفرنسيين أما الآن، فالوضع مختلف، لأن البنادق، بل والصواريخ ونيران الطائرات والدبابات تصب حممها على رؤوس المدنيين.
وبغض النظر عن مواقفنا مما يحدث في سوريا، فان الموقف الموحد الذي يجمع عليه كل من يمتلك قلباً عربياً أو ضميراً انسانياً هو الانحياز الى قضية الانسان، الى البسطاء والفقراء وأبناء البلد الذين سقطوا تحت الردم، أو أولئك الذين يعيشون حياة على ذمة الموت في المدن والأرياف ومخيمات اللاجئين.
فسلام من صبا بردى الى المظلومين، والمغلوبين، والذين يسكن قلبهم الرعب وقلق الانتظار.