مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم    شهيد و3 جرحى في قصف الاحتلال وسط بيروت    أبو ردينة: نحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مجازر غزة وبيت لاهيا    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 43,846 والإصابات إلى 103,740 منذ بدء العدوان    الاحتلال يحكم بالسجن وغرامة مالية بحق الزميلة رشا حرز الله    اللجنة الاستشارية للأونروا تبدأ أعمالها غدا وسط تحذيرات دولية من مخاطر تشريعات الاحتلال    الاحتلال ينذر بإخلاء 15 بلدة في جنوب لبنان    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات  

شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات

الآن

من تجارب الثورة.... حسن الخطيب يروي ملحمة صمود عائلة فلسطينية

القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
ولد حسن عارف عبد الله الخطيب في قرية حزما قضاء القدس 24/4/1954 لعائلة فقيرة جداً ومنذ ولادته حمل هموم اسرته وعائلته وهو الاكبر بين اخوته الذكور السبعة... حاصل على شهادة الماجستير في العلوم السياسية من جامعة دلهي في الهند 1994 وشهادة الدكتوراه من جامعة القاهرة سنة 2007 .
وقد تم اعتقاله مع والده في المرة الاولى بتاريخ 17/9/1977 وحكم عشر سنوات، اما الوالد فقد افرج عنه بعد قضاء ما يقارب عشرة اشهر لعدم ثبوت أي تهمة عليه، لكن المحكمة حكمت عليه عشر سنوات مع وقف التنفيذ، ليعود الى الاعتقال مرة اخرى مع اثنين من ابنائه محمد وعبد السلام بعد خمسة اشهر من الافراج عنه، ويحكم محمد ثماني سنوات... وعبد السلام خمس سنوات ويبقى الوالد|( ا بو حسن ) تحت الحكم الاداري المتجدد ثلاث سنوات ... ويضاف اليهم محيي الدين فيما بعد ويحكم ثلاث سنوات .
وهنا يلتقى الاب والابناء الثلاثة في زنازين رام الله وتبدأ المعاناة الاكثر شدة وقسوة على الاسرة وخاصة ام حسن وما تبقى من ابنائها وبناتها الصغار.

اما البداية ...
لقد كانت الامنية بأن التحق باحدى الجامعات اسوة بأقاربي وابناء عمومتي لارى نفسي مودعاً ومستقبلاً حاملاً حقيبة سفر مع لباس جديد والاهم (ربطة عنق) ولا يهم ان توافقت او تلاءمت مع الالوان الاخرى .
توجهت الى العاصمة اللبنانية بيروت لمتابعة مشواري الدراسي ولكن ليس في بداية العام وانما في اواخره... على طريقة الانتساب لعدم القدرة على الالتحاق بالجامعة لظروفنا الصعبة .. وعدم وجود يد العون والمساعدة من اقارب الدرجة الاولى ( الاعمام) وقد كان باستطاعتهم ذلك حيث كان لي ثلاثة اعمام في الولايات المتحدة الامريكية ، الا ان العامل المساعد الأولي الذي كان لي في بيروت هو وجود ( عمتي ام مازن) وزوجها ابو مازن ( زكريا الحلو) الذي منحني الدفء والحنان في السكن معهم ومشاركتهم لقمة عيشهم، فهو من الفدائيين الاوائل الذين التحقوا بقواعد حركة فتح بالاغوار من دير علا حتى الكرامة.
ولانني اصبحت في اجواء الفدائيين ... اجواء غير مسبوقة بالنسبة لي ... فكانت مشاهدة الفدائي بلباسه المرقط وذقنه الطويل وشعره المجعد المغبر، امنية بالنسبة لي... فكنت اتمنى حمل السلاح ووضع الجعبة على وسطي و ملثماً بالكوفية ،، لاعطي نفسي صورة فدائي من طراز اخر...
فكانت البداية هي الدعوة لانتمائي لاحد الفصائل من احد الطلاب...  وكنت متشجعاً دون تمييز بين هذا الفصيل او ذاك.. ولا  تعني لي شيئاً اية تسميات لكافة التنظيمات.. وعندما عرضت الفكرة على زوج عمتي الذي اصبح كمرجعية معتمدة لي... فكان جوابه.. اذا كنت ترغب بالانتماء اضمن لك واكثر سرية ان تكون من خلالي، وسأوصلك باحلى الشباب في حركة فتح.
نعم وكانت البداية ... واللقاء الاول مع المرحوم ابو حسن قاسم ومن بعده مع الاخوة حمدي(باسم سلطان) ومنصور ابو علاء... والاخ مازن (سليمان) والدكتور راجي  وابو فارس مرعي والاخ محمود العالول و من المقاتلين الابطال امثال الشهيد ابو الراتب من الخضر  ولي قصة مع ابنه الوحيد الشهيد فايز في سجن نابلس. .. والاخ الشهيد الحاج حسن من طوباس ولا يمكن ان أنسى ابن قريتي الشهيد البطل عايش بدران والاخوة سعيد (ابو منيركراجه) وجيفارا وابو عمر(حنا ميخائيل)  الذي فقد وهو على قارب في البحر متوجهاً الى طرابلس والاخ عباس الاقاليم... وغيرهم من كوادر وقادة الحركة واخص بالذكر الشهيد المرحوم علي ابو طوق شهيد المخيمات في لبنان والشهيد سعد جرادات قائد الكتيبة الطلابية (الجرمق) والاخ معين وغيرهم.
تلقيت عدة دورات تدريبية في صناعة المتفجرات واطلاق النار على انواع مختلفة من الرشاشات ، وذلك في مخيمات تل الزعتر والبرج الشمالي في الجنوب وعين الحلوة وفي معسكر بالقرب من دمشق وفي التدريب الاول،تقابلنا انا ووالدي في مخيم تل الزعتر مع الاخ سفيان تيم(ابو رامي).
كنت قد ذهبت من بيروت صباحاً مع اخ يدعى ابو حسين من اتحاد الطلاب ليوصلني الى قاعدة بالقرب من مخيم البرج الشمالي في جنوب لبنان... وكنت اتضور جوعاً حين وصلنا للقاعدة مع الظهر وكان اثنان في القاعدة قد بدءا  في تناول الغداء من الدجاج المشوي (الفروج) ومقبلات اخرى وهو شيء لم أعهده من قبل ... وشاركهم زميلي ابو حسين .. وقالا لي تفضل مرة واحدة... ومن الخجل قلت لهم شكراً ، فهي المرة الاولى التي اتعرض فيها لمثل هذا الموقف وكنت خجولا جداً ولم تتكرر كلمة تفضل مرة اخرى  ... وبدأوا بنهش الفروج دون رحمة وانا انظر اليهم بحسرة الجوع والحسرة على ما وقع على الفروج بين ايديهم..
وكنت امل ان تتكرر دعوة اخرى لي بمشاركتهم الطعام ولكن دون جدوى ... وابت نفسي التنازل عن كبريائها للمشاركة بدون دعوة ... وبقيت في حسرة الجوع وآلامه حتى المساء.
وما ان تجشأ صديقي المدرب مرة واخرى واخرى  حتى طلب مني التهيؤ  للدخول الى غرفة صغيرة مجاورة ... وكان الصداع قد بدأ يأخذ مني مأخذه ... وحينها لم استطع ان استوعب شيئاً ولم استطع التركيز على شيء ... الا انني كنت انظر لما يقوم به وما يتبعثر بين يديه من مواد كيماوية زادتني صداعاً  وما كان مني الا ان اهز له رأسي بدون استيعاب وانا اقول لنفسي بعد العشاء سأفهم كل شيء  ... وسأطلب منه اعادة كل ما يقول... وسوف لن اخجل بعد الان من الاكل  أو غيره  ولكن متى سيأتي وقت العشاء... شكوت لمدربي من الصداع لعل وعسى يدرك مقصدي ولكن دون جدوى وكانت اجابته... ان كل من يأتي الى هنا يشعر هذا الشعور(بالصداع) بسبب المواد الكيماوية
وبقينا حتى المساء... وتجرأت لاساله ... متى سناكل ولاسفي انه قال ( بدري شوي) ظاناً انني تناولت طعام الغداء قبل مجيئي للقاعدة وقد تركني الاخ ابو حسين بعد تناول الغداء معهم عائداً الى بيروت...
لقد كان هذا درساً اولياً لي... على ان لا اخجل مرة اخرى في موضوع الطعام .. وان اكون جريئاً اكثر من الاخرين، وقد طلبت من الاخوة في القاعدة(بعد انتهاء التدريب) ان يتعاملوا مع الاخرين في المرات القادمة بطريقة اخرى خاصة مع الخجولين من امثالي... ولكنني علمت منهم انهم تعاملوا مع الموضوع على ان الطعام في القاعدة هو ملك للجميع وبامكان أي شخص ان ياكل متى يشاء...
على كل الاحوال استكملت التدريب ثلاثة ايام وعدت الى بيروت والى الجامعة  بشعور آخر تعدّى انني طالب صغير ،بل انتابني نوع من العظمة والفخار بأنني اصبحت اعرف ما لا يعرفه الاخرون .
كان من حسن حظي اطالة اشهر الدراسة في العام الاول ،فتأجيل الامتحانات بسبب ظروف استشهاد القادة الثلاثة ( كمال ناصر وكمال عدوان وابو يوسف النجار )في عملية  فردان وحصول بعض الاشتباكات بين الفدائيين والجيش اللبناني هنا وهناك.. اجل الامتحانات في الجامعة ،فسررت جداً لمكوثي في بيروت اربعة اشهر بدل من شهر واحد...
عدت الى الضفة مكلفاً بتنظيم اخرين وعمل ما استطيع عمله بما يسمى التخريب بالوسائل البدائية وقد وقع اختياري الاولي على تنظيم والدي، الذي كنت اعرف انه بحاجة ماسة الى من يرشده ويوصله الى (الشباب) ... وهو ايضاً سيساعدني كثيراً بخبرته وحنكته ومعرفته بالسلاح اياً كان نوعه.
وما ان طرحت الامر عليه حتى طار فرحاً وقال منذ زمن وانا انتظر من يرشدني الى هذا الطريق...
وفعلاً كان عند حسن ظني به... وعمل باخلاص، و عملنا سوياً في جوانب محددة وعملنا  متفرقين في اخرى.... وقد طرح المرحوم حمدي(باسم سلطان) سؤاله المكرر علي اكثر من مرة.. كيف نظمت والدك... وكيف قبل وكيف لم يزجرك،، او ينهاك عن عمل خطير عليك و على الاسرة جميعاً وكانت اجابتي ... ان والدي تربة خصبة للنضال وانا فقط كنت له بمثابة المفتاح لكلمة السر ..

انا ووالدي والقنابل ...
كان بحوزتنا اثنا عشر قنبلة يدوية من مخلفات الجيش الاردني ،وحين علم الاخوة حمدي وابو حسن قاسم بها،، قالا  لي حاول ان تفحصها... هل بها صواعق متفجره ام لا؟؟ وعندما ذهبت انا  ووالدي الى الخلاء على مخبئها .. قلت له ابتعد قليلاً لعلني افحصها... فنظر الى وقال يعني انت اشطر مني ابتعد انت وانا الذي سافحصها... وحاولت ابعاده لكن دون جدوى... وشعرت كم كانت عاطفة الابوة متأججة لديه حرصا منه على حياتي وفي النهاية ابعدني قصراً وهو الذي فحصها ... وكانت صالحة تماماً للاستعمال.
ومن جانب اخر قمت بتنظيم اخوين اخرين ابراهيم عبد العزيز ابو حلو المعروف(سامي) من العائلة واخ اخر اسمه احمد الخطيب كان معي طالباً في مدرسة بيت اكسا من الشباب اليافعين والمتنورين والذي اصبح فيما بعد نسيبي ( اخ زوجتي)....والاول سامي ،حكم اربعة عشر عاماً، والثاني احمد حكم عاماً ونصف.
لقد نفذت مجموعتنا اعمال مختلفة ونتيجة خطأ في تنفيذ احدى هذه العمليات انفجرت عبوة ناسفة مع الاخ سامي داخل سيارته وهو يعد لوضعها في رمات اشكول في منتصف الليل، فعندما وصل المكان المحدد وجد عدداً من الحراس المدنيين فيه،، الامر الذي اربكه وجعله متوتراَ في وضعها او التخلص منها.. فانفجرت معه في منتصف الليل على مدخل قرية العيسوية فتضررت سيارته كثيراً واصيب هو باصابات خفيفة بقدرة قادر ... واستطاع ان يعود في السيارة الى القرية .. دون ان يلاحظه احد... وبدأت المشكلة في كيفية اصلاح السيارة وكيفية  علاجه وقد طرح عليّ فوراً ان اهرب الى عمان وقلت كيف اخرج وانت بهذا الحال فهل انا افضل منك وقلت له اذا كان الامر محتاجاً لطبيب فسنذهب الى أي طبيب لعلاجك تحت تهديد السلاح... الا انه ابى وقال انا ساضمد جراحي ولكن المهم تصليح السيارة قبل ان يشاهدنا احد واتفقنا على ان يخرج بها الى منطقة البيرة الصناعية مع صلاة الفجر حتى لا يلاحظ احد زجاجها المحطم ومقعدها الامامي المحترق وتكون الطريق فارغة وبعيدة عن أعين الشرطة  .
لكن المشكلة الاصعب كانت في اننا لا نمتلك النقود وكان والدي في الاردن ونحن بحاجة على اقل تقدير الى مئة دينار.. و قبل طلوع الفجر او في الصباح لنشتري زجاجاً ونصلح الكراسي المحترقة... فكانت اصعب اللحظات.
ذهبت الى بعض الموسرين  منذ الصباح الباكر مدعياً انني بحاجة لمئة دينار لاسباب طارئة واعطيت مضموناً وطنياً في ذلك دون تفصيل.. لكنني فشلت ولم تقنعني مبرراتهم.
ولكنني ذهبت الى قريب  لم اكن اتوقع منه الاستجابه ودون ان اوضح له شيئاً .. الا انه فرج كربي واقرضني مائتي دولار... انه المرحوم عبد الفتاح حسين ابو حلو... ولم انس له ذلك الموقف طيلة العمر.
بعد سنوات اعتقالنا كشفت له  هذا السر  و اين ذهبت نقوده، اما الاخ سامي فقد تم علاجه من خلال مستوصف خارجي ولم يثر موضوعه انتباه احد.
علمت فيما بعد ان موضوع السيارة .. وكيفية نجاحنا في التخلص من اثار انفجار العبوة فيها وصل في تقرير مفصل  من الاخوة حمدي وابو حسن  للاخ المرحوم الشهيد ابوجهاد والذي عبر عن اعجابه بتجاوزنا هذا الخطأ وهذا الخطر الكبير.
استمر عملنا كخلية سرية ما يقارب اربع سنوات وفي ايلول سنة 1977 بعد عودتي من بيروت للقيام بمهمة عمل محددة وهي تسليم القنابل سالفة الذكر ومسدس كان بحوزتي لطرف اخر.. اتفق على ان يكون اللقاء حسب تعليمات الاخوة في بيروت في محطة باصات (باب العمود)في القدس دون ان اعرف من هو القادم الا ضمن اشارات محددة ومتفق عليها وكنت قد وضعت القنابل والمسدس في علب حلوى     ( ماكنتوش) كبيرة اتسعت لاثني عشر قنبلة ومسدس وذخيرة لا تقل عن سبعين رصاصه وقد تم لفها بورق الهدايا والخيطان المزركشة .
ولكن قبل تنفيذ المهمة في نفس اليوم الذي وصلت فيه الى قريتي حزما  ما يقارب الساعة الحادية عشر صباحاً قادما من عمان  .. أُبلغت بأن قوات الاحتلال قد اعتقلت الاخ سامي(هذه الليلة) وقد وقع  الخبر عليّ كالصاعقة  .. وفي داخلي شعرت بكارثة كبيرة .. وحاولت الاستفسار عن تفاصيل ما حصل دون اثارة أي شكوك.. ولم يعرف احد اسباب الاعتقال.. وكان اليوم التالي من وصولي هو يوم وقفة عرفة وبعده العيد الكبير والجسر مغلق فلا استطيع العودة او الذهاب للخارج.
انتظرت انتهاء ايام العيد الثلاثة .. لان تسليم ما كان لدي يفترض ان يكون في اليوم الرابع وكان يوم جمعة... لم اعرف شيئاً  عن اسباب اعتقال سامي وفي يوم  الجمعة صباحاً حملت علب الحلوى في باص القرية وصولاً الى محطة الباصات في القدس... وانتظرت اللحظة المحددة لقدوم  الاخ الآخر لاستلام ( الحلوى) ولكن الطامة الكبرى انه لم يأت .. وحينها لم استطع عمل أي شيء لانني لا اعلم شيئاً عمن هو القادم .. ورجعت بخفي حنين اجر ثياب الخيبة وفشل المهمة.
عدت الى بيتي بمعنويات لا توصف ووضعت العلب داخل الخزانة القديمة في البيت . وحينها وكنا ننام جميعاً في غرفة واحدة وهي غرفة النوم والاكل والاستقبال والدراسة وكل شيء... اذكر انني فرشت فرشتي ونمت منذ الساعة السابعة .. وفي الساعة العاشرة كان صوت والدي يقول ياحسن هل نبقي ما في الخزانة فيها ام ننقله ام ماذا ( علب الحلوى) وفعلاً وللحدس والحسّ الامني قلت ...لا ... لا تبقوها...وتم وضعها في حظيرة الاغنام في باب البيت  .. وكانت المفاجأة ... في تمام الساعة الثانية صباحاً في منتصف الليلة نفسها  كان صوت المختار المرحوم ابو العبد يقول: افتح يا ابو حسن ...معي جيش... واقتحم الجيش المنزل بطريقتهم البشعة ... والرشاشات مصوبة نحوي ونحو والدي وليصحوا الاطفال مندهشين من تلك الوحشية  دون ان يذعنوا لجنود الاحتلال بما امروا به... اجلس هنا... اقعد .. لا تتحرك... وتم الاعتقال ... نقلت انا بسيارة وقد تم الاعتداء علي قبل الوصول لها .. وضربت بعنف حتى نزفت الدماء من يداي... وبقيت اثار الدماء على ملابسي طيلة فترة التحقيق...
كان والدي بالسيارة الاخرى ... وعند وصولنا مكتب يسمى( اليومان) لتسليم ما لدينا وما يسمى " بالأمانات " مثل الحزام والساعة ورباط الحذاء وما كان لدينا من نقود مثل هذه الامور... لكن في  اليومين استطاع والدي ان يعطيني اشارات قوية من عينيه... تعني الصمود والثبات وعد م الاعتراف ... وبصراحة كانت معنوياتي عالية جداً بسبب عدم عثور قوات الاحتلال على أي شيء بالبيت من سلاح او غيره وخاصة علب الحلوى...
استمر التحقيق لاكثر من شهر وكنت اشاهد والدي وهو في الشبح ... وما اصعب ان يلتقي الاب مع ابنائه داخل زنازين الاعتقال.
في احدى المرات جمعتني المخابرات مع والدي في التحقيق للضغط علينا من نواحي نفسية ... وقد خاف الوالد من تأثير الموقف على نفسيتي فهو لم يذعن لهم ، وكانوا يضعون رأس عصا مدببة في حنجرته... وكان يستغل ذلك ليعطيني اشارات برفع رأسه وعينيه بمعنى  ان لا أتأثر ولا اعترف بأي شيء.
كانت المشكلة والصدمة الكبرى للاخ سامي الذي صعق عندما عرف انني معتقل وموجود مع والدي. . لانه على حد علمه انني موجود في عمان , فما كان قد تحدث به  كان على اعتبار اني في عمان وبالتالي وقع الامر عليه كالصاعقة خوفاً من تشعب الامور وفتح ابواب لا يمكن اغلاقها ... ولكنني انا شخصياً خرجت بأقل الخسائر والوالد لم يعترف باي شيء.. وبالتالي افرج عنه بعد ما يقارب ثمانية اشهر من الاعتقال.. بقي ان أقول أنه بعد اعتقالنا مباشرة ... خرج أخي حسين ( أبو بشار) وابن عمتي رضوان أبو حلو الى عمان خوفا من اي اذىً سيلحق بهما وقد كانا على اطلاع محدود في ما يخص عملنا التنظيمي .

دخول سجن رام الله
دخلنا سجن رام الله بعد تحقيق دام أكثر من ثلاثين يوما لاجد خيرة المناضلين أمامي وبمعنويات عالية ،وقد تم الاهتمام بنا كوني انا ووالدي اعتقلنا سويّا وخاصة من قبل أبو محمد صالح بدران الذي كان يقضي حكما اداريا ويعمل في مكتبة السجن ... وكان من بين الذين احتفوا بنا أيضا عصام الرفاعي وعبد الكريم صعايدة وأحمد فارس وحلمي عنقاوي وجاء من بعدنا لنحتفي بهم الاخوة علي مهنا وأحمد أبو غوش ومجموعتهم  ومجموعة كوبر عمر ونائل وفخري البرغوثي ومعهم رائد وفهد الحاج ومروان البرغوثي والاخوة حسين الشيخ والدكتور منذر الشريف ... وعملنا سويّا مع الاخرين في بناء التنظيم وتأطيره وخضنا اضرابا مفتوحا عن الزيارات طال أمده وكان دون جدوى او فائدة ...
وأثناء الاضراب وكوني كنت موجها عاما للمعتقل ،عاقبتني ادارة المعتقل بالشبح في زنازين التحقيق لمدة ثلاثة أيام داخل مرحاض الزنازين حيث كان يساومني الضابط ( ليفي ) على فك الاضراب ولكن دون جدوى ،وكانت ثلاثة أيام قاسية جدا أكثر قساوة من أيام التحقيق  مكبلا بيداي ورجلاي والكيس النتن على رأسي ... وعندما حاولت الجلوس في أحد المرات جاء الحارس وضربني بقوة وعلى غفلة من أمري بحذائه على قصبة رجلي فآلمني جدا وقال لي ... قوم ... وقف ... بلهجة بدوية ... وصرخت عليه وشتمته شتائم سوقية ،وحاولت أن أضرب رأسي بالحائط حتى أحمله مسؤولية ما يجري ... الا انه أمسك قميصي قبل أن يصل رأسي الحائط ومع ذلك  وصل رأسي ونزفت دماً وحينها جن جنونه ... وأتى بالضابط المسؤول ليهدأني ،وبقيت أكيل له سيلاً من الشتائم ... ولكن الضابط وافق على جلوسي على أرضية الحمام بدل الوقوف وكان هذا مأربي ... وقد شاهدني في هذا الموقف الاخ زياد الرجوب الذي كان شابا يافعا ... وفي مرة كان يتحدث للشباب في السجن عما شاهده من تعذيب في الزنازين لشاب كان يعتقد أنه كان أحد أبطال الدوريات من الخارج... وكم كانت مفاجأته عندما قلت له ... أنني أنا من كنت أتعذب في مرحاض الزنازين .

اعتقال والدي المرة الثانية..
في ليلة باردة من ليالي تشرين ثاني... وزمهرير الرياح تعصف بالاسلاك الشائكة من حولنا وتنبئ بما يعادل قساوة البرد والريح  أغلال السجن والسجان .. فكان صوت سماعة ( اليومان) يقول حسن الخطيب ( تجيع ليومان) بمعنى احضر للمكتب واذا بمفتاح الغرفه مع السجان الدرزي ابو زهير يصطك بالباب ويقودني حيث وضع الكيس على رأسي والاصفاد بيداي وقادني الى زنازين التحقيق... ليبدأ تحقيق من جديد حول سلاح وقنابل وذخائر وغير ذلك مرة  أخرى  . كان ذلك بعد اكثر من عام من الاعتقال وقبل صدور الحكم عليّ ... وبدأت معي جولة تحقيق جديده ... ولكن المحققين هذه المرة كانوا اكثر قساوة وشدة.
لوصولهم الى قناعة بانهم لم يفلحوا معي في المرة الاولى ولم يحصلوا على ما ارادوا بل تبين لهم ان اشياء كثيرة غير معروفة بالنسبة لهم قد تم اخفاؤها.. فاعتقل والدي وأخواي وبدأ معنا تحقيق من جديد .

الليلة الصعبة ولقاء الزنزانة
كنت في زنزانة رقم 1 وكان بينها وبين  الزنزانة المجاورة رقم 2 شباك صغير في أعلى الجدار ...و كنا نعلم ان هذا الشباك موضوع كمصيدة للمعتقلين , ولكن في منتصف الليل سمعت مفاتيح الشرطي تفتح الزنزانة المجاورة وتدفع باحد المعتقلين الى داخلها وبعد اغلاق الباب... سمعت انات كهل ممزوجة بحرقة الم وارتجاف صوت كان فيه صهيل حصان كأنه  يسابق الريح وكان في  بعض كلماته ارادة لا تلين ولا تهزم... فرفعت رأسي وانتصبت قائماً لاقف بجانب الجدار .. تحت الشباك الصغير ،وقلت دون مبالاه لاية مخاطر من هنا!! من انت !! ما شأنك ... وكان معروف لدينا نحن المعتقلين  دائماً ان المعتقل حذر في أي كلمة يقولها خوفاً من الجواسيس وسماع أي كلمة تساعد في حل أي لغز للجهات الامنية...
كررت كلماتي وشعرت ان من في الزنزانة الاخرى وقف بجانب الحائط وبدأ يهمس وقد بدا انه عرف صوتي وقال انت مين ... تأكدت انه والدي فقلت : يابا  انا حسن ... كيفك كيف امي .. كيف اخواني واخواتي ... قال لا تقلق  ... الجميع بخير ... وانا بخير....
كنت من خلال التحقيق قد عرفت ما هو مطلوب مني و من والدي وما هو مطلوب من اخواني فيما بعد ،فقلت له دون خوف او وجل حتى اطمأنه.. وانا على يقين ان كلامنا مسموع واننا تحت المراقبة ... وانهم اتوا بوالدي بقربي حتى تتسرب بعض الكلمات ... قلت له لا تقلق فالتحقيق معي على "مسدس عمي " وانت لا علاقة لك به بتاتاً ... وانهيت الحديث ولكنني شعرت انني طمأنته على محور التحقيق.. فكان قد تم اعتقال عمي أحمد مع مجموعة من القرية وقد اعترف عمي على أنه باعني مسدسا وهو الذي اصبح محور التحقيق وكان ذلك للأسف بعد أربعة عشر شهرا من اعتقالي , حيث لم آت على ذكره في التحقيق الأول .
وما هي الا لحظات حتى فتح باب الزنزانة ليخرج والدي ويشبح من الخارج على بوابة زنزانتي وما اصعبها من ليلة ... والدي مشبوح في الخارج في ظل البرد والريح وهو لا يقوى على الوقوف في الشبح مدة طويلة ... وانا في داخل الزنزانة ... املك حرامين حرام تحتي وحرام اغطي به نفسي على الرغم من نتانتها ورائحتها الكريهة  ... وكم عشت في صراع مع الذات في تلك اللحظة ... كيف اغطي نفسي ووالدي يقف في البرد ... ما اصعبها من لحظات ... لحظات قهر وعذاب وسادية لا نظير لها ,  نعاقب ونعذب بها ولكنني آثرت على نفسي البقاء دون غطاء كما هو  والدي على باب الزنزانة من الخارج  وانا من الداخل .. ولكن الامرأصبح مريحاً بالنسبة لي على الاقل من جانب نفسي ومن جانب تضامني ... وبقي الامر حتى الصباح ... ليدخل والدي غرف التحقيق ويبدأ مسلسل اخر ... مع مجيء اخوين اخرين لي هما محمد وعبد السلام في الليلة الثانية  بعد اعتقال  والدي ويبدأ مسلسل تحقيق معنا الاربعة في غرف التحقيق .. ويبقى الوالد صامداً ولم  يقر بما لديهم من معلومات  ولو بكلمة واحدة ... وليأتي موعد محاكمتي وانا في داخل الزنازين....

في المحكمة
خرجت الى المحكمة مكبل اليدين وبملابس لم تفارق جسدي لاكثر من اسبوعين ولجسد لم يبتل بالماء طيلة فترة التحقيق وشعري وذقني تتخللها بقايا اشياء من بطاطين بالية ومقرونة بروائح نتنة ....
هكذا كان المشهد ... في المحكمة ... ولاشاهد والدتي للمرة الاولى ... ولم اصدق نفسي ان اراها حيّة ترزق ... فاحتضنتني بقوة وكنت اسألها هل انت ما زلت على قيد الحياة.. هل انت بخير ماذا حلّ بكم بعد اعتقالنا... وبصراحة  لم استطع حبس دموعي ... لكنها زجرتني وكانت كلماتها تواسيني .. انها ام عظيمة ... زوجها وثلاثة من اولادها الان في زنازين الاعتقال... انتهى هذا المشهد ... بعد ان حكمت علي المحكمة  عشر سنوات وعدت الى الزنزانة ولم اعد للسجن .. وما هي الا لحظات حتى يتم استدعائي الى غرفة المحقق ابو غزاله مع اخواني ووالدي ليحاول ان يلعب على وتر نفسي رهيب ... ويقول من سيقف معكم الان؟ من يتكفل باسرتكم الان ... ؟كيف تركتم اخوانكم الصغار .؟.. كان ردي سريعاً :انكم انتم تريدون هذا .. الاحتلال يريد ذلك .... لكن والدي لم يصمت وتحدث بكلمات لم ترق للمحقق ابو غزاله... فقام بضربه بمتكة السجائر التي جرحت شفته العليا ... وبدأ الهرج والمرج والصراخ.. واعادوا كل منا الى زنزانته ...

من سجن رام الله الى سجن نابلس القديم
 نقلت الى سجن نابلس دون وداع زملائي وكان ذلك بعد اربعة عشر شهرا في السجن ... وفي سيارة الزنزانة .. التقيت بعدد من المعتقلين كان اهمهم احمد سوالمه  الذي سألني عن محكوميتي فقلت له عشر سنوات ... فقال لي : انا الان انهيت عشر سنوات وباقي لي ثمانية ... وكان لهذا الحديث صدى واسع من جانب معنوي  ... فقد كان الاخ احمد من احدى الدوريات التي اتت من سوريا الى الارض المحتلة  .. وقد انهى مدة محكوميته بل تجازوها وهو في انتظار موافقة الدول العربية على استقباله.
 في سجن  نابلس القديم الوضع يختلف، فالسجن أكثر عددا وأوسع حجما وبه من الكفاءات الاعتقالية وجوه عديدة وما يميز هذا السجن ساحته الكبيرة المطلة على جرزيم وعيبال فترى من خلالها حركة الناس في الخارج  وكأنك تشاركها حياتها ... ويكفي ما كنا نراقبه يوميا وهو حمار العم ابو صبري , الذي كان ينزل على حماره راكبا لعدم توفر الطرق والمواصلات في سفح عيبال في ذلك الوقت ... وقد التقيت في نابلس مع اخوة مميزين ومنهم من أصبح مع  الشهداء والصديقين كالاخ جاسر دويكات والاخ خميس عدوي صاحب كمال الاجسام رحمهما الله والتقيت بوجوه مناضلة أخرى كثيرة منهم منير العبوشي وفايز الفسفوس وأمين مقبول وزياد هب الريح وغسان الشكعة وعبد الله فقوعة وعاكف فايز وعمر الحروب وغيرهم الكثيرين .

الزيارة المهمة
 في أحد الايام  ونحن ننتظر أسماءنا على الزيارة مر اسم فايز عبدالقادر اسماعيل ( قد يكون الاسم غير دقيق ) في قائمة المطلوبين للزيارة ... وفيها قفز الى الذاكرة الشهيد أبو الراتب ( شهيد بيروت )  لقد تناغمت الاسماء ... وكان المرحوم أبو الراتب ( من الخضر ) قد حدثني عن وجود ابن له في فلسطين وكم كان يتغنى به وهو مضطجعاً على ظهره ومحملقاً في الافق البعيد .
المهم انتظرت انتهاء الزيارة وطلبت من أحد الاخوة في الساحة احضار فايز بعد انتهاء زيارته وكنت في غرفة (5) حيث أتى به ليقف على شباك المردوان دون ان يعلم عن سبب دعوته ... وقف أمامي وللوهلة الاولى كانت وقفة مؤلمة لما فيه من تشابه مع والده طولاً ولوناَ وشعراً وعينان خضراوان... قلت له ما اسمك ومن أين انت ... فكان مندهشاً لأسألتي وأكملت ... ماذا يعمل والدك ؟ ... حينها قال لي ... والدي استشهد في لبنان حينها تأكدت من شخصه وقلت له هل تعلم عن استشهاد أبيك شيئاً ... قال  لا قلت له أنا صديق والدك ... فنظر الي بدهشة اكثر وضرب الشبك بيده ... قلت له انتظر سأخرج الى عندك ... وطلبنا من الشاويش خروجي الى الساحة بما يسمى زيارة الأصدقاء في الفورة .
 فخرجت واخذته بأحضاني ولم تستطع الدموع الانحباس في مقلتيّ ... تحدثت له عن والده كثيرا وعن استشهاده وعن بطولاته وأمجاده ... ومعلومات لا يعرف منها شيئاً ،واستمر الحديث لأكثر من ساعة وهو الحديث الذي قال عنه أنه الحديث الامتع له في حياته الذي يعرفه عن أشياء لا يعلمها عن والده ... وكان في الساحة أيضا الاخ عدنان جابر أحد منفذي عملية دبويا في الخليل وهو يعرف ابو الراتب أكثر مني  ... وعندما عرفته على فايز انهمرت الدموع من عينيه عندما عرف أنه ابن الشهيد أبو الراتب .
وكانت المفاجأة أن فايز كان ينتمي للجبهة الشعبية وليس لحركة فتح وبصراحة لم نكن نرغب أن يكون كذلك بعيدا عن خطى والده في حركة فتح ... فصارحته بالموضوع الا انه ابى الا ان يكون بقناعة كما قال على خطى غسان كنفاني وتشي جيفارا .
فايز لم يمكث طويلا في السجن ... أيام أو أشهر معدودة  وخرج من سجن نابلس , وكنا قد اتفقنا على اللقاء فيما بعد ...
لن يتم اللقاء ولكن بعد انتهاء مدة محكوميتي وعملي في صحيفة الفجر ومع بداية الانتفاضة الاولى ... وبشكل فجائي ... شاهدت نعيا للشهيد فايز عبدالقادر اسماعيل... سقط شهيدا في مواجهة مع الاحتلال في قرية الخضر في بداية الانتفاضة الاولى ... وحقا كان على خطى والده وخطى غسان كنفاني .
تنقلت في معتقلات عديدة وساهمت مع زملائي في مهام تنظيمية كثيرة واهمها الجوانب التثقيفية والتوجيهية والتحدث مع ادارات السجون باسم المعتقلين.
فالتقيت بالعديد من الاخوة المناضلين وكان لكل معتقل سماته... وخضنا العديد من الاضرابات عن الطعام والزيارة ...
وبعد ثلاث سنوات أمضيتها في سجن نابلس القديم تم نقلي الى سجن جنين ومكثت فيه ثلاث سنوات اخرى قضيت وقتاً ممتعاً مع العديد من الزملاء خاصة المرحوم ابو صالح زكارنه وكامل جبر وعبد الحميد ابو حشيش واحمد العينبوسي... واخوة اخرين ابطال من الجولان السوري المحتل ،منهم المرحوم شكيب ابو جبل وابنه يوسف وابو رياض وشمس ومنصور وغيرهم حيث تتلمذت على يد يوسف ابو جبل في اللغة العبرية .
وقد  سقط من الشهداء في الانتفاضة الاولى  ممن عرفتهم في سجن جنين امثال فوزي الدمج وبسام الحريري .
فكان سجن جنين ثورة للثقافة والمعرفة والتعبئة الوطنية وكنت الأكثر خطابة في المناسبات فقال لي مرة أحد السجانين الدروز ... صدقني أنني انتظر مناسباتكم حتى أسمع ما تقول .

زيارة العظمة
اثناء حرب لبنان سنة1982 ،وبعد وقف اطلاق النار وخروج قوات منظمة التحرير من بيروت الى العواصم العربية كانت بصراحة معنوياتنا هابطة، وكنا نحن المعتقلين نستمد قوتنا من قوة منظمتنا.. م. ت. ف ومن قوة قيادتنا ومن قوة مقاتلينا ووجودهم في قواعد ارتكازية في جنوب لبنان وهي الدولة الوحيدة التي نتواجد فيها بقواتنا العسكرية...
وكانت ايضاً معنويات اهالينا وخاصة من هم على صلة بالثورة والمنظمة والفدائيين في الحضيض... فجاءت والدتي وشعرت انها مكسورة الخاطر وهي تغطي فمها بطرف منديلها والدموع في عينيها... واقتربت مني على الشبك واستفسرت عن صحتي واحوالنا واخبارنا ... لكنها ليس ككل الزيارات ... ترددت في كلامها... ونظرت لما حولها واقتربت اكثر وقالت ... هل تعلم يا ابني ماذا تمنيت ... قلت...ماذا يا امي؟... قالت : والله تمنيت لو استشهدتم انتم السبعة ( يعني انا واخواني) وبقيت الثورة في بيروت ... لم اصدق ما سمعت ولكني قلت لها ماذا؟... ماذا؟ فأعادت كلماتها... ان نستشهد السبعة ... حملقت بها ووقفت من على مقعدي وضربت الشبك بيدي ... وقلت... اسمعوا يا شباب اسمعوا يا شباب ما تقوله امي ... الام العظيمة ... الام المعطاءه... الام المدرسة، فذهل من حولي واصبح حديثنا بعد الزيارة تلك الكلمات الرائعة..
لكنني كنت قد أجبتها.. اسمعي يا أمي.. لا تقلقي... فمع كل التقدير لبيروت... الا ان بيروت ليست القدس... ومهما كانت قوة الثورة في بيروت فالثورة الحقيقية هي هنا في فلسطين.
فالثورة ... هي هذا الشعب العظيم .. ومع بداية الانتفاضة الاولى ... جلست امي بجانبي وقالت ... اتذكر يا حسن ما قلته لي في سجن جنين .... وذكرتني بزيارتها ... وقالت كنت صادقاً يا ابني... الثورة هنا.. نعم الثورة في فلسطين.. بارك الله فيكم.
من جنين تم نقلي الى معتقل جنيد 1984 لالتقي بخيرة القيادات المناضلة دون استثناء ... فقد اصبح معتقل جنيد مركزاً اساسياً للمعتقلين وكان الهدف من تجميعنا فيه هو السيطرة على الحركة الاسيرة والتعامل معها بوسائل واجراءات غير معهودة... وكان لي الشرف العظيم بتجربتي البسيطه في سجون الضفة الغربية والتي لم تتجاوز حينها سبع سنوات ان يتم اختياري مع اخوة اخرين مناضلين  ومجربين في سجون بئر السبع ونفحه وعسقلان وغيرها، ان اكون واحداً من تسعة أعضاء للجنة  المركزية لحركة فتح في سجن جنيد بقيادة الاخوة قدري ابو بكر وجبريل الرجوب والمرحوم مسلم الدوده وسامح كنعان واحمد هزاع ولؤي عبده وابو حسن شريم وعبد الفتاح حمايل وحسن الخطيب، وكان  ذلك بالنسبة لي مفخرة وعظمة في ملحمة نضالية اعتقالية كبيرة.
كانت هذه القيادة الفتحاوية من قادت اضراب جنيد المشهور لسنة 1984  حيث مثّل اللجنة النضالية في تلك المرحلة الاخ جبريل الرجوب وحقق الاضراب مبتغاه رغم كل الصعوبات بعد استمراره لمدة اثني عشر يوماً .

صفقة جبريل لتبادل الاسرى
لم يمر عليّ موقفاً  في الاعتقال اكثر فرحاً واشد ايلاماً من تلك اللحظات التي تمت فيها صفقة التبادل وخروج مئات المعتقلين من سجن جنيد... مناضلين امضى بعضهم اكثرمن خمسة عشر عاماً ،ومن هؤلاء كانت قيادات المعتقلات وخيرة اخوتنا المعتقلين... وحقيقة الأمر ان زملاءنا تركوا فراغاً كبيراً .. كانت الحافلات  تقف في ساحات المعتقل.. وكنا نحن المتبقين ننظر لها من خلف الشبابيك ... بمشاعر ممزوجة بين الحرقة والالم لفراق هؤلاء ... والاكثر يفكر لماذا لا تشمله الصفقة خاصة اصحاب الاحكام العالية ومشاعر ايضاً بالفرح للافراج عن زملائنا ... ولكن الاخ قدري ابو بكر كان له وضع اخر... ولاننا كنا نمسك بزمام امور التنظيم ... فكان بحوزته بعض الكبسولات ( اوراق تنظيمية) فطلب مني مراجعتها ومتابعة امرها ... فقلت له يا اخ قدري بابتسامة عريضة ... انت في شأن والشباب في شان اخر فهل الوقت وقت اوراق ؟...  هل الان وقت ورق وتنظيم .، وكانت اجابته فقط الابتسامة ... ولكن كان هذا يدل على عظمة هذا الانسان ورباطة  جأشه وقدرته على التعامل مع الاحداث... ولكن في حقيقة الامر كان هذا قدرنا ونحن الباقون ان نتعامل بهذه الروحية وان نتابع امورنا التنظيمية ... مع ان الامر لم يكن يخلو من بعض حالات الانهيار للذين كانوا يفترضون خروجهم و لم تشملهم الصفقة .

اضراب جديد عن الطعام
بعد الافراج عن العديد من المعتقلين والقادة ازدادت همجية سلطات السجون وبدأت تتعامل بطرقها المعهودة ،الامر الذي قررت فيه قيادة معتقل جنيد الاضراب عن الطعام مرة اخرى عام 1985 وما ان بدأنا باليوم الثالث حتى قامت ادارة السجن بنقل ما لا يقل عن عشرين معتقلاً الى العزل في  سجن بئر السبع ،وكان من  بين المنقولين معي الاخ منير العبوشي، وقد جاء للعزل ايضاً بعض الاخوة من معتقل جنين كان منهم الاخ جهاد زكارنه... واستمر اضرابنا اكثر من عشرة ايام ولم نفك الاضراب الا سوياً مع سجن جنيد وجنين بالتنسيق مع الصليب الاحمر .

المرض والمفاجأة
ومن عزل بئر السبع الى عزل كفار يونا. تم نقلي ومجموعة من الاخوة الى معتقل كفار يونا ،وقد كان كفار يونا  افضل بكثير من معتقل بئر السبع ،على اقل تقدير كنا نشتم روائح البرتقال والحمضيات من حولنا دون ان نشاهدها او نتذوق طعمها.. وكان معي في كفار يونا الاخ المناضل عثمان مصلح الرجل الذي امضى اكثر من ثلاثين عاماً في سجون الاحتلال والاخ الاستاذ الدكتور ( حاليا ) مشهور حبازي ,  وفي معتقل كفار يونا اشتد المرض عليّ وقد عانيت معاناة شديدة من الام البطن والمعدة دون اسعاف بأي علاج يذكر .. وكنت انهض في الصباح مبكراً حتى ادخل الحمام قبل الازدحام على  بابه، لان المرض اشتد عليّ وشعرت ان امعائي تتقطع بشكل لا يحتمل . وفي احدى المرات وانا في داخل الحمام  نظرت من طرف الشباك ،وكانت غرفتنا في الطابق الثاني، فشاهدت بعضاً من خيوط الشمس تتسلل لحجرتنا .ما اجملها حينما كانت تخترق سعف النخيل المتراقص مع نسائم الصباح الجميلة ... كان منظراً بديعاً .. وقفت امام الشباك ... لاناجي ربي قائلاً :: ياربي لقد تعبت .. يا ربي فرجك .. ياربي عونك ... يا ربي خلاصك من هذا الجحيم .. ياربي فرّج كربنا واطلق سراحنا .. ياربي انا تعبان... ياربي لا تحرمني مشاهدة امي .. ولا تحرمني مشاهدة أبي ومشاهدة اسرتي...  ياربي فرجك .. ونزلت دمعات ساخنة مسحتها بطرف كمي حتى لا يراني احد وخرجت من الحمام منسلاً الى بُرشي .
وكانت المفاجئة الروعة التي لم تصدق بعد اسبوع ، فقد تم  ابلاغي بتخفيض سنة من حكمي من خلال اللجان التي كانت  تبحث امر المعتقلين التي كانت بالتأكيد اتخذت قرارها في فترة سابقة ,  وبقي لي بعد ذلك  ستة اشهر بدل من سنة ونصف  لاجد نفسي بعدها في عالم مليء باحلام اليقظة  والخيال وبدأت افكر للمرة الاولى في حيثيات الخروج والاستقبال وشريكة العمر التي طالما ارتسمت صورتها في مخيلتي وكتبت عنها الكثير في خواطري كما كانت  في عروس البحر وبيتي العتيق وميلاد جديد ... وشاء القدر ان تتحقق احلامي بما ارتسم في افكاري وتكون ام اياد جوهرة حياتي...........

الى عسقلان
وما هي الا ايام لاجد نفسي في قائمة نقل  مع الكتسين (أي الضابط) ليتم نقلي الى سجن عسقلان، وكانت لي فرحة في هذا الامر خففت من الامي لادخل عسقلان طالما سمعنا عنه كثيراً وهو القلعة الاولى  المعروفة  للشهيد الاول في المعتقلات عبد القادر ابو الفحم... انه قلعة المناضلين الاوائل .. ولكن لسوء حظي استمر عزلي في قسم للمواقيف ولم ادخل عند المعتقلين المحكومين.
ولم يكن الامر بالنسبة لي سهلاً واشتدت معاناتي في الستة اشهر الاخيرة ... ولكن في هذا القسم كان لقائي بالعديد من الموقوفين وخاصة من ابناء القدس... وبدأنا نحن بعض المعزولين في هذا القسم نستغل وجودنا في تثقيف وتأطير هؤلاء الموقوفين لأذكر منهم المرحوم سليم الشلبي والاخ عبد القادر الخطيب وسمير المغربي ووحيد شبانه وغيرهم .. وعندما شاهدت ادارة المعتقل هذا النشاط ... وجدت ان وجودنا مع المعتقلين القدامى افضل لها من وجودنا بين المعتقلين الجدد.
فقامت بنقلي وبعض الزملاء الى سديانات عسقلان... الى جانب العمالقة .. الى عسقلان  بسيسو .. وابو علي شاهين .. ورمضان البطه ... ومحمد لطفي ابو لطفي .. وعبد الله الاسكافي.. وعدنان محمديه.. وعمر القاسم وغيرهم من هؤلاء الابطال...
كنت في الايام الاخيرة ..  لا اعرف النوم ولا اعرف القراءة ... وأفكر كيف ستكون حرارة الاستقبال على بوابة سجن عسقلان ومن ثم على بوابة قرية حزما .. .كان المشهد عظيماً عندما تذكرت مشهد والدتي في محكمة رام الله ومشهدها على بوابة عسقلان دون ان تعطي بالاً لاخ رابع لي دخل المعتقل وحكم ثلاث سنوات ... انه اخي محي الدين وكان قدرها  ان لا تفارق بوابات السجون..

المشهد الاخير
في الانتفاضة الاولى وبعد مرور عام ونيف على  نيل حريتي وفك أسري...
كنت في اجتماع تنظيمي بقيادة لجنة الوسط(اقليم القدس) مع الاخوة حسن علوي وعبد الكريم صعايدة وصلاح زحيكه... ولم يمض على جلوسنا نصف ساعه والا بقوات كبيرة من الجيش تقتحم منزلنا ,  فيا لهول المفاجأة... لم نكن نتوقع هذا الامر بتاتا في منتصف النهار، فعادةً يتم الاعتقال ليلا ويبدو ان الرقابة علينا كانت على اشدها ،فانا كنت اعمل في صحيفة الفجر و صلاح في صحيفة الشعب وعبد الكريم في مؤسسة الهلال الاحمر وحسن علوي له مكتبة ومطبعة في رام الله...
ورغم نباهتنا والتخلص من بعض اوراقنا.. الا ان اهم ما في الامر هو سيطرتهم على الرسالة المعدّ ارسالها الى الخارج مع احد الاخوة وكانت بخط يدي وكانت الطامة الكبرى عليّ ... ويكفي ان مقدمتها كانت تقول بعد مخاطبة الاخوة في القيادة والتحية والتقدير...
(بعد حملة الاعتقالات الواسعة لقد قمنا بسد كافة الثغرات وسنعمل على تأجيج جذوة  الانتفاضة في الارض المحتلة).. وقد سألني المحقق الكابتن ادم في المسكوبية اكثر من عشر مرات ماذا تعني جذوة الانتفاضة... كانت الاجابة هي ما تشهده مدن وقرى ومخيمات فلسطين..
نعم كانت الانتفاضة الاولى بكل المقاييس تجربة فذة وبعد الافراج عني بعد عام  آثرت مع بدايات مدريد الالتحاق بالجامعات لاحقق حلم راودني طيلة سنوات اعتقالي .. لاحصل على شهادة الماجستير من جامعة دلهي في الهند ومع عودتي مع بدايات قدوم السلطة... كان موقعي في  اللجنة التنظيمية لاقليم القدس  وبعدها في اللجنة الحركية العليا ومن ثم لجنة الساحة وايضاً في لجنة القدس الخاص عملها بوضع القدس
كان ذلك حتى بداية الانتفاضة الثانية مروراً بانتفاضة النفق الذي تبوأ  فيها الأخ مروان البرغوثي مركزاً قيادياً وعملياً وميدانياً الى حين اعتقاله ... فرج الله كربه وفك اسره...
مع بدايات عام 2002 حصلت على منحة دراسية لنيل شهادة الدكتوراه في جامعة القاهرة بمساعدة الاخ غازي فخري المستشار الثقافي لسفارة فلسطين في القاهرة وقد ناقشت رسالتي في 31/5/2007 بعنوان السياسة الامريكية تجاه القضية الفلسطينية فترة كلينتون، وهي باشراف الدكتور حسن نافعة والمعروف وطنياً وقومياً وعالمياً كخبير ومتخصص في العلوم السياسية . كان رئيس لجنة المناقشة وعضوية الاستاذ الدكتور احمد يوسف احمد ، استاذ العلوم السياسية في جامعة القاهرة والدكتور صائب عريقات الذي جاء مشكوراً كعضو خارجي والذي شرفني حضوره ويكفي ما قاله عن رسالتي وما قاله عنه  د. حسن نافعه انه اتي به كحجة لوقائع مفاوضات الكامب ديفيد...والذي قال: (يا اخي حسن لو لم اكن في المفاوضات لقلت انك كنت معنا في الغرف المغلقة ( ورد عليه د. حسن نافعه هذا ما اريد ان اسمعه منك.....ويكفيني هذه الشهادة لهذه الرسالة ).
كانت المناقشة بحضور سفيرنا في القاهرة الاخ  ابو العز واعضاء السفارة والاخ محمد صبيح مندوب فلسطين في الجامعة العربية ونائب رئيسها والاخ سعيد يقين وعدد من الطلاب الفلسطينيين من أبناء قريتي والأخ ابراهيم علامة، ومن الشعراء والكتاب والادباء والصحفيين ويكفيني فخراً حضور " عمي " الاستاذ الدكتور يعقوب ابو حلو الذي كان يشغل عميد كلية التربية في جامعة عمان العربية..
مرة اخرى من جانب تنظيمي، عندما عقد المؤتمر الحركي العام السادس، تم انتخابي عضواً في المجلس الثوري لحركة فتح وما زلت امارس مهامي التنظيمية في عدة لجان حركية اضافة الى مهامي الوظيفية  التي تدرجت بها من مدير في وزارة الشؤون الاجتماعية الى مدير عام في وزارة الشباب والرياضة الى وكيل مساعد في وزارة شؤون القدس الى وكيل مساعد في وزارة الشباب والرياضة ، واخيراً شرفني الاخ الرئيس ابو مازن بتكليفي وكيلاً لوزارة العمل ... وما زلت على رأس عملي حتى الان ... مع ممارستي لمهنة التدريس بشكل جزئي ايام السبت في جامعتي القدس والجامعة المفتوحة حيث ادرّس بعض المساقات لطلبة الماجستير ومساقات اخرى لطلبة الدرجة الاولى .
اخيراً احمد الله الذي مكنني من انجاز بعض مهماتي وتحقيق جزء من اهدافي طالما حلمت بها طيلة حياتي... فلم تحل دونها قيودي واغلالي ولا السنوات العشر من اعتقالي...
عن النورس

za

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024