زقطان وعساف: مساحة أمل- يحيى يخلف
في غمرة فرحنا بالنجاح الذي يحققه الشاب الرائع والموهبة الفريدة محمد عساف في برنامج (أرب آيدل)، جاءنا خبر يدعو الى الفرح والفخر والاعتزاز يفيد بأن الشاعر الكبير والمبدع غسان زقطان قد فاز بجائزة عالمية للشعر هي جائزة (غرفن) للتميز الشعري، هناك بعيدا في تورنتو بكندا عن مجموعته الشعرية (كطير من القش) التي ترجمها الى الانجليزية المترجم والمبدع فادي جودة والتي صدرت العام الماضي ضمن منشورات جامعة يال في الولايات المتحدة.
خبران يجعلان المرء يسكن في مساحة الأمل، وإشارتان تنبئان عن قوة الحياة في روح الشعب الفلسطيني، وعملان ابداعيان سياسيان بوسائل ثقافية فنية, ويبعثان رسائل الى الاخلاقيات العالمية عن غنى وتنوع الهوية الفلسطينية, وعن جمرة الثقافة التي هي قبس لشعلة الحرية التي تسكن قلب ذلك الفجر العنيد.
كانت العرب في الماضي تبتهج اذا نبغ فيهم شاعر، لان الشاعر آنذاك كان سيفاً ورمحاً وترساً وعرافاً وحامل قناديل، وكان للشعر وظيفة جمالية ومعرفية واجتماعية، حتى ان الشعر صار ديوان العرب.
وعلى مدى القرون، كان الشعر مرجعاً للذائقة واللغة والتاريخ وفي بلادنا صارت قصائد ابراهيم طوقان، وعبد الرحيم محمود، وعبدالكريم الكرمي، ومحمود درويش، وسميح القاسم، وتوفيق زياد ومعين بسيسو وعشرات آخرين جزءا من ادبيات الثورات الفلسطينية المتعاقبة وجزءا من مكونات الهوية الوطنية.
واذا كان محمود درويش قد ملأ المشهد الثقافي والوطني على امتداد العقود الاربعة الماضية، فان رحيله لم يترك فراغاً، لان جهود شعراء فلسطين تتواصل، لتكمل رسالة الشعر، وحيويته، وديمومته.
حصول غسان زقطان على جائزة (غرفن) للتميز الشعري العالمي مكسب للثقافة الفلسطينية، وللشعب الفلسطيني، يؤكد اهمية الثقافة في السياسة، وأهمية الكلمة المعشقة بذهب تراب فلسطين ووجدانها في ان تصل الى قلب العالم اكثر مما تفعل التصريحات والبيانات والنشرات الدعائية. وحصول شاعر فلسطيني على جائزة عالمية يؤكد نضج الابداع الشعري بل وتفوقه ووصوله الى مساحات جديدة، بعد ان ملأ محمود درويش مساحات في آخر المدى.
وما كان لغسان ان يصل الى هذا المستوى لولا نضوج تجربته تحت شمس الثورة الفلسطينية، فقد كان من ذلك الرعيل الذي انخرط في صفوف الثورة منذ ان كان فتى في بدايات السبعينيات من القرن الماضي، وتفتح وعيه الثقافي والانساني في الزمن الذهبي للكفاح المسلح، وكانت بيروت المحطة التي كونت وطورت حياته واسلوبه ونمط تفكيره، وهويته وتأثره وتأثيره في زمن السقف العالي، والعطاء الثقافي والفكري الذي وسم بيروت بالغنى والتنوع.
وعلى امتداد مشوار عمره، كان شاعر قضية، وشاعر حرية وشاعر تأمل وقصة نجاح.
ولعل الفترة الغنية من حياته ايضاً كانت مرافقته لشاعرنا الكبير محمود درويش ولا شك ان الحوار اليومي الذي كان يدور بينهما في مجال الادب والفن كان زاداً لابداع غسان، وتحفيزا له لمزيد من التأمل والمران والتجويد.
محمود نفسه، اثنى على شعر غسان، مثلما اثنى على شعراء آخرين، مدحهم على الرغم من مواقفهم المعادية لشعره وشهرته. غسان ايضاً شاعر لم يحمل الحقد، وترفع عن الرد على بعض ممن يمكن ان نصف الواحد منهم بـ(أطلس عسال) والذين كانوا يوجهون له سهامهم ويوجهونها ايضاً لمن يمتدح كتبه ودواوينه الشعرية، و(أطلس عسال) هو ذئب الفرزدق في قصيدته المشهورة، الذي يشاطره العشاء في ليلة صحراوية، لكنه ذئب لا يحفظ الود، ولا يكترث بمقاسمته الزاد، فالغدر من شيمه، ولأن غسان مثقف والمثقف يقيم بسلوكه، فانه لا يرد لأطلس عسال الاساءة بأسوأ منها. وانما يترك (أطلس عسال) يذهب في متاهته وصحراء غدره.
غسان فلسطيني جميل، يتحلى بخلق كريم، ودماثة ونزاهة، وحب لشعبه، واخلاص لأدبه وابداعه، ومن الوفاء وتقديرا لثقافتنا وهويتنا، يتعين ان نسجل هذا الحدث في أجندة انجازات شعبنا الوطنية.