"أبو السكر": روحه أيضاً تناجي حياة السجن!
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
بثينة حمدان
مددت يدي إليه وطلبت من روحه أن تعيد سرد تفاصيل المقابلة التي أجريتها معه عام 2010، ولم تنشر وقتها. اليوم الوضع السياسي الفلسطيني لم يتغير فالانقسام مازال قائماً والمفاوضات متوقفة وهو ما بعث بـالمرحوم أحمد جبارة- أبو السكر عميد الأسرى الفلسطينيين إلى التشاؤم بل وجعله يرغب بالعودة إلى حياة السجن رغم العذاب الذي مر به.. سألته: أيهما أفضل الحياة في دولة السجن أم دولة الواقع؟ فأجاب دون تردد: "دولة السجن طبعاً، لأننا كنا نتمتع بحكم ذاتي كامل. لدينا وزير مالية وداخلية وأمن وعلاقات خارجية، في الحقيقة كنا نتمتع داخل السجن بحكم ذاتي أكثر من الحكم الذاتي للضفة الغربية".
وتابع حديثه: "وزارة الخارجية كانت مهمتها حل الخلافات بين الفصائل والأفراد، أما الداخلية فتتدارس أي شكوك حول أي شخص حيث يتم عقد اجتماع مركزي لتباحث أمره ومن ثم اللجوء إلى التحقيق أو مراقبة سلوكه، والإعدام للعملاء، أما المالية فهي مسؤولة عن أموال "الكنتينة-دكان السجن". وحول وجود وزارات أخرى فأجاب: "هذه الوزارات غير موجودة، لكن كان هناك شخص مسؤول عن نقل المرضى وهو حلقة الوصل بين الأسرى وإدارة السجن، وهناك أيضاً شخص ينظم فترة الرياضة في الصباح، أما التعليم فكان أساسي وهناك العديد ممن حصلوا على درجة الدكتوراة، وكانت منظمة التحرير هي التي تنفق على دراسة الأسرى بغض النظر عن الانتماء السياسي، والكثير من أسرى حماس مثلاً درسوا على حساب المنظمة".
وحول آلية اختيار الوزراء أكد أبو السكر أن كل فصيل يرشح شخص، أما وزارة المالية فكانت دائماً مع فتح لأن الأموال تأتي من السلطة. "أنا مثلاً كنت وزيراً للمالية" قالها وضحك. واستطرد "الحياة في السجن أفضل، على الأقل هناك مسائلة، ثانياً العدو واحد وهي إدارة السجون، لكن في الخارج لا نعرف من هو عدونا، في الخارج نحن أعداء لبعضنا بعض".
أبو السكر .. ناطق بخمس لغات
لقد رسمت على محيا أبو السكر سبعة وعشرون عاماً من الاعتقال.. من منا لا يعرفه ولا يعرف هذا الشعر الأشيب الذي رغم سنينه الأربع والسبعين إلا أنه ظل صامداً حاملاً معه حكاية الاعتقال والنضال.. أبو السكر، مواليد 1936، ابن قرية ترمسعيا قضاء رام الله، يحمل شهادة الثانوية العامة في يمينه، وفي يساره ثقافة واسعة بأربع لغات هي الانجليزية والاسبانية والبرتغالية والتي تعلمها قبل دخوله السجن، واللغة العبرية التي تعلمها خلال فترة سجنه.
يبدو إنساناً بسيطاً، متواضعاً، دمثاً، لطيفاً مازالت آثار السجن تتسلل بين كلماته، ورغم طوقه للحرية إلا أن التكيف مع الحياة خارج السجن لازالت في بداياتها.
لكنه اعترف بتراجع الوضع داخل السجون قائلاً: "كان في السجن ضبط وربط حقيقي، لكن بعد أوسلو، وبعد الانقسام تراجعت السجون. قبل أوسلوا كنا نلتقي في عشرين جلسة تنظيمية في الأسبوع، بمعدل أربعة ساعات يومياً، لكن بعد أوسلو صار الكل ينتظر التحرر.. وصار هناك فرق بين الثورة والسلام ويا ريت صار سلام حقيقي!".
الثالث من حزيران من عام 2003 تاريخ لا ينساه أبو السكر، تاريخ تحرره من السجن إلى سجن أكبر حيث قال: "خرجت من السجن خلال فترة منع التجوال، تم اصطحابي من قلنديا إلى المقاطعة مباشرة قبل أن أرى عائلتي، كان في استقبالي الرئيس الراحل أبو عمار الذي احتضنني وقبلني بحفاوة بالغة، لقد كرمني ومنحني قرار تعييني وكيلاً لوزارة شؤون الأسرى والمحررين، وعضواً في المجلس الثوري لحركة فتح، ورتبة عميد عسكري"، لقد تحرر في حزيران وتوفي في تموز بعد سنوات فهل هذا صدفة!
بدايات النضال وحكاية الاعتقال
وبالعودة إلى تاريخ اعتقاله عام 1976، حدثنا أبو السكر عن حياته حيث كان تاجراً يعمل بين دول أمريكا اللاتينية والجنوبية، لكن مشهداً هزه من الداخل أثناء زيارته للضفة بين جولاته التجارية هذه، وهو مشهد فتاة تهان وتضرب من قبل الجنود الاسرائيليين، فعاد مقرراً الالتحاق بركب المناضلين إلى أن تم اختياره للقيام بعملية "الثلاجة" والتي حدثت في شارع يافا وأسفرت عن مقتل ثلاثة عشر اسرائيليا وسقوط ثمانية وسبعين جريحاً، ولم يتم القبض عليه إلا بعد عام وشهرين بسبب وشاية، واستطاع خلال هذه الفترة متابعة أعماله بل والالتقاء بأبي عمار لأول مرة في بيروت، بعد أن كان مسؤوله المباشر القائد الراحل أبو جهاد.
وهنا يقول أبو السكر: "بعد ثلاثة وخمسين يوماً من التحقيق والتعذيب في سجن المسكوبية، حكم علي بمؤبدين وثلاثين سنة".
لحظات صعبة
في السجن مرت عليه فترات صعبة كان أكثرها حزناً كما قال: "خلال سجني توفي والدَي، كانت أيام حزينة فمن الصعب أن لا أستطيع إلقاء نظرة الوداع على أمه أو أبيه، وهذا ما حدث مع معظم الأسرى، كنا نستغل فترة الفورة لإقامة واجب العزاء لأي أسير ونقدم القهوة السادة"، وبين هذه اللحظات .. اللحظات التي كبر فيها أبناءه الستة والتي لم يتسنى له متابعة تفاصيلها، بل وكانت إدارة السجن تعاقبه كما كانت تفعل مع كل الأسرى بحرمانهم من الزيارة. وكانت المهمة شاقة على زوجته التي عملت في الخياطة إضافة للمبلغ الزهيد الذي كانت تحصل عليه من المنظمة.
خلال الأسر مر بوعكة صحية فقال: "أخبروني أنني أصبت بجلطة، وقد سمعت الضابط الاسرائيلي يطلب من الطبيب أن يحافظ على حياتي فسأل الطبيب لماذا فأجابه بأنني سأكون صفقة جيدة في أي عملية تبادل مع حزب الله فأجبت بالانجليزية: "شكراً لكنني لست قطعة أرض أو عمارة للبيع".
لا شك أن حياة السجن متعبة وفيها الكثير من المد والجزر والاضرابات عن الطعام والتي وصلت إلى خمسة عشر يوماً واثنين وعشرين يوماً، لكنها تكللت بالوحدة الوطنية بين الأسرى من كافة الفصائل حيث قال: "كنا نحتفل بانطلاقة كل الفصائل، فانطلاقة فتح في شهر كانون أول، الشعبية في كانون ثاني، الديمقراطية في شباط وهكذا". يتابع قائلاً: "اليوم حين ألتقي بأسرى كانوا معي بالسجون سواء فتح أو حماس أو جبهة شعبية أو جبهة تحرير أو من أي فصيل يعتبرونني أب وأخ لهم".
ومن بين أصعب المواقف السياسية التي مرت عليه من اجتياحات وانتفاضة وتوقيع اتفاقية أوسلو تحدث عن أوسلو فقال: "كلنا بكينا حين شاهدنا رفع العلم الفلسطيني لكننا لم نكن نتوقع أن نقسم إلى (أ) و(ب) و(ج)، كنا نتوقع أن يتم إطلاق سراح جميع الأسرى بغض النظر عن أسباب سجنه، ومنذ عام 1985 حتى الآن لم يتم إطلاق سراح أسير متهم بالقتل إلا أربعة أسرى".
لقد أخبرنا عميد الأسرى أبو السكر عن تحسن الوضع في السجون تدريجياً بعد نضال وموجة من الاضرابات التي كان إدخال التلفزيون أحد نتائجها ومن ثم النضال لمشاهدة محطات أخرى غير الإسرائيلية، وبالتالي كانت الفرص أكثر لسماع أخبار سقوط المزيد من الشهداء والأسرى فقال: "الشهداء يذهبون إلى ربهم، لكن المأساة هي في الذين يستشهدون يومياً مع وقف التنفيذ".
وكلما رأى أبو السكر ما يحدث على الحواجز يتمنى لو يعود إلى سجنه.. يستذكر مواقف الأسرى الثابتة والموحدة ضد إدارة السجن، ويحزن كثيراً حين يرى كيف يحاول الفلسطيني التكيف مع واقعه الاحتلالي والتي يفرضها المجتمع الدولي والظروف والضغوط المحيطة، والترقب للمفاوضات المتعثرة على أمل أن يحدث سلام حقيقي ومع هذا فرسالته هي رسالة "سلام وتحرير لجميع الأسرى دون شرط أو تمييز".