أمير الظل الاسير عبد الله البرغوثي- عيسى قراقع
لم استشهد ...وما زلت بالمحقق أحملق
مربوط بيديه وقدميه بسرير مستشفى العفولة الإسرائيلي، في غرفة عزل خالية من كل شيء سوى من زفراته الساخنات وجسده الشاحب الذي يذوب تدريجيا بعد أكثر من ثمانين يوما لإضرابه المفتوح عن الطعام.
يقف ثلاثة حراس على باب غرفة الاسير عبد الله البرغوثي، يراقبون نبضات قلبه العجيبة ترتفع وتنخفض ، ويشاهدون شرايين يديه تنكمش شيئا فشيئا، غيبوباته المتقطعات، ولكنهم لا يسمعون صراخا أو استغاثة.
يتأهب الحراس ولجنة خاصة شكلت من قبل إدارة السجون والأطباء للانقضاض على عبد الله البرغوثي لإجباره وبالقوة على تناول الطعام وفك إضرابه، لاسيما بعد أن أصبح جسده النحيف وأوردته الناشفات ترفض ابر الجلوكوز ، حيث ظهرت التورمات والانتفاخات على يديه وجسمه.
الاسير عبد الله البرغوثي الذي يحمل الجنسية الأردنية بدأ إضرابه مع أربعة أسرى آخرين منذ 2/5/2013مطالبا بالإفراج عنه إلى الأردن وفق اتفاقية وادي عربة بين الجانبين الأردني والإسرائيلي ، يوصف بأنه عنيد لا يكسر، ولا يردد سوى العودة إلى ارض الأردن إما شهيدا تحت التراب أو حيا فوق الأرض.
الإسرائيليون حققوا معه 6 شهور عند اعتقاله يوم 5/3/2003، حيث كان يعتبر المطلوب رقم واحد لهم، ومن اخطر المعتقلين فكسروا أضلاعه خلال التعذيب الشديد الذي تعرض له، وعزل عشر سنوات انفراديا وحكم بأعلى حكم في تاريخ المحاكم بالعالم وهو 67 مؤبدا و250 سنة، وحرم من رؤية زوجته وعائلته سنوات طويلة، ورفضت اسرائيل الإفراج عنه في صفقة شاليط.
مهندس على الطريق، أمير الظل، عنوان كتابه الذي ألفه خلال وجوده في العزل الانفرادي، وكتبت ابنته تالا في مقدمته: هل تعلم يا والدي الحبيب أنك الأب الوحيد الذي لا ينسى ذكرى ميلاد أبنائه وذكرى ميلاد من يحب، كل الآباء ينسون إلا أنت فلا تنسى، ما دمت لا تنسى، لماذا غبت عنا طوال هذه الأعوام.
وتتساءل ابنته تالا: والدي الحبيب لماذا تركتني طفلة صغيرة لا يتجاوز عمري الثلاث أعوام ملقاة في سيارة عسكرية احتلالية تحاصرها الكلاب من كل صوب، لماذا تركتي في البرد القارص بعد أن غبت ولم اعد أراك.
بالله عليك ا أبي قل لي من أنت ، من أنت يا أمير الظل، الذي لا أرى صاحبه، لكنه يمد لي المساعدة دون أن اطلب، لا أراك إلا في الصور والكلمات، لا أراك إلا في عيني والدتي وأحاديث الناس، وفي قصائدك الغاضبة والجميلة ورسائلك التي احتفظ بها وكبرت معها يوما بعد يوم.
ويكتب عبد الله البرغوثي لابنته تالا من على سرير المستشفى قائلا: قلت لك يا ملاكي الحارس أنه لا يوجد قلبا بين أضلع صدري بل يوجد عقلا، لهذا انا صاحب العقلين، وكنت أظن أن الأطباء اثبتوا عكس ذلك، فاكتشفوا أن بين أضلعي قلبا عجيبا يصل نبضه في بعض الأحيان إلى أربعين نبضة في الدقيقة، ليصعد بشكل مفاجئ إلى ما يزيد عن مائة وعشرون نبضة.
لا تحزني يا ابنتي تالا، قلبي هذا كان يحرضني على مقاومة الاحتلال، وأقسم أن هذا القلب هو من جعلني أتصدى لكل ظالم وطاغ ومستعمر، قلبي هذا لا ينام، جسدي يرتجف، كبدي توقف عن العمل، ولكن قلبي يعمل ويشتعل ويناديك في كل لحظة.
عبد الله البرغوثي في رسالته لي يقول: لا أخفيك سرا ويشهد الله على ما أقول أني ابحث منذ زمن بعيد عن طريق توصلني إلى الشهادة وخاصة إن بقينا خلف القضبان، السجن موت، فلماذا لا نحرك الموت بشرف ونطلق عاصفة الحرية.
مهندس الظل العالي المكبل بالحديد، شاحب اللون والذي يتنفس بصعوبة، بطيء الحديث يقول: حتى لو بدى جسدي شاحبا فإن معنوياتي تعانق السماء، وان كل كيلو غرام اخسره من جسمي يعادل ألف كيلو غرام من الكرامة.
يوصي مهندس الظل عبد الله البرغوثي أن يكتب على قبره أبيات الشعر التالية:
جسدي يتألم وسياطهم كالحريق
عظام تكسر وعظام تسحق
بحري هائج وفكري غريق
قلب يتألم واشعر بالضيق
أسرت وعذبت و لم يسقط البيدق
وصعدت روحي من شدة الألم للخالق
لا.. روحي لم تصعد للسماء
لم استشهد.. ومازلت بالمحقق أحملق