الشيء المفقود تأليف عبد الحق شحاده
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
هذه القصة القصيرة كنت قد كتبتها عام 1986م وهي أول ما كتبت من الاعمال الأدبية. وقد حازت عام 1993م على الجائزة الثالثة لأفضل قصة قصيرة وكان عدد الكتاب المتسابقين أنذاك 118 كاتب وأديب وعدد النصوص الأدبية المشاركة
كان 133 قصة قصيرة. وكانت الجهة المشرفة على هذه المسابقة هي ( دار الفاروق للثقافة والعلوم والنشر) في نابلس.
* الشييء المفقود *
فجأه إحمرت عينايّ وإكفهر وجهي فأصابني الألم والضيق .. فجدران الغرفه رطبه والغرفه نفسها مُظلمه وسيئة التهويه .. فأشعة الشمس لاتدخلها إلاّ متعرجة الخطوط ، باهتة اللون ، وبعد أن تكون قد فقدت دفئها وحرارتها .. حيث الشبك الملعون الذي يتربع علي شبابيك وباب الغرفه تتكسر عليه خيوط أشعتها .
إستلقيت علي السرير لأستريح قليلاً ، فإذا بي أستغرق في النوم بعد أن دارت الهموم برأسي .
... كل ذلك حصل بدون مقدمات ...
" ما أحلي الحريه بعد إعتقالٍ طويل ؟؟ "
كانت تلك الجمله أول ما نطق بها لساني .
مكان البيت لم يتغير .. معالم الذكري في هذا البيت والتي بقيت عالقه في ذهني لم يصبها التغيير أيضاً .. فالبيت علي حاله .. وشجرة الصبار الصغيره لا زالت تقبع في الأصيص المُعلق في فناء البيت .. والمنضده التي كنت أجلس للمذاكره عليها لازالت تقبع مكانها دون تغيير ويعلوها طبقه من الغبار الكثيف ، حيث المذياع الذي كنت أستعمله يرقد فوقها أيضاً .. كما أن برج الحمام الصغير الذي كان يقبع قبل إعتقالي في إحدي زوايا الفناء لم يتحرك من مكانه ، بل بقيّ خالداً خلود الذكري ، فقط بعض البهتان أصابه من جراء تقادم الزمن ولعدم توفر العنايه الكافيه نحوه ، وهذا الإهمال تجاه البرج ناتج عن كبر سن أمي ، ومن ثم عدم قدرتها علي الإهتمام بالبرج والحمام معاً .
فكل شييء إذاً لم يصبه التلف وبقي علي حاله بالرغم من السنين الطويله التي مكثها خلف القضبان .
عانقت أهلي .. أمي .. إخوتي .. وأخواتي .. عناق المشتاق لرؤيتهم ، وعناق المتشوق للحريه .. عانقتني أمي بتلهف .. وطال العناق مع الجميع فإشرأبت الأعناق ، وإحمرت الوجوه من شدة الفرحه ، فسالت الدموع .. دموع فرحة اللقاء .
تناولت كأس الشاي الأحمر حيث أحضرته والدتي بعد أن صنعته بيديها .. لم أتذوّق مثل هذا الشاي منذ دخولي السجن ، كان مذاقه عذباً ، كمذاق فاكهةً حلوة الطعم ، لما لا وهو من صنع يدي أمي . ستبقي كأسة الشاي هذه خالدةً في ذهني كخلود ذكري يوم خروجي من السجن .
آه يا أُماه ما الطفك وما أوسع حنان صدرك لأبنائك .. كم كان صبرك طويلاً علي المشاق والألم ...
لقد صبرتِ كثيراً وحزنتِ كثيراً حتي جاء اللقاء بإبنك ، وبعد أن تركت السنين بصماتها علي وجهك ..
أمليت النظر في وجه صديقي ناصر ، فوجدت الزمن قد ترك علاماته عليه ، إذا غزت بعض الشعيرات البيضاء سالفه ...
جارتنا " أم صابر " لا زالت كما عهدتها - قبل إعتقالي - تتشح السواد الذي لبسته منذ وفاة زوجها " أبو صابر " الذي قتله الصهاينه أثناء حرب حزيران 1967 م .. بينما كانت حامل ببكرها صابر .
طرق الباب مُستمر .. فالجيران والأقارب والخلان يتوافدون علي البيت للتهنئه بسلامة الإفراج .. وكل منهم يحمل بين يديه هديه رمزيه صغيره كجزء من العادات والتقاليد العربيه .
صافحت الجيران والأقارب والأصدقاء .. وبدأت الأسئله وكلمات الترحيب تنهال عليّ كزخاتٍ متلاحقه من الأمطار .
زغردت خالتي " أم حسين "لرؤيتي .. فزغردت جميع النساء المتواجدات في البيت ...
- أهنيتي يا أم صالح بسلامة إبنك وخروجه من السجن ..
هذا ما قالته جارتنا أم سعيد لوالدتي
- عُقبال عند جميع المساجين ، وربنا عمره ما نسي عبده ، والسجن عمره ما إنبني علي أحد ، وكثر الله من خيرك والله يطول في عمرك ويهدي بالك علي أولادك يا أم سعيد وإن شاء الله دياركم تبقي عامره دائماً ، والله لا يوقعكم في مصيبه .
كثرت كلمات التهنئه من هنا وهناك ، وإزداد عدد المهنئين ، فحدث ما يشبه الهرج والمرج ، إختلط فيه صوت النساء بصوت الرجال ، وصوت الأولاد بصوت البنات فشعرت أنني أتواجد في فدعوس حقيقي .
ما ألطفكم أيها الجيران ، كم أنا مسرور برؤياكم ولقاءكم ، إنها ساعاتٍ تاريخيه حافله بالمسره والنشوّه .
وفي خضم نشوة الفرح باللقاء تذكرت جدي الذي لم أراه طوال فترة إعتقالي ، فهو قد شاخ وتغير شكله كثيراً..أجلت البصر فيه، وحملقت كثيراً في وجهه ورأسه، فلم أعثر علي أي شعرة سوداء فيهما ربما يكون الزمن قد نسيّها في طية غزوته لرأسه ووجهه ، فإستعدت الله كثيراً وذكرت وحدانيته وقدرته .
تأملت كثيراً في الصور المُعلقه علي جدران حوائط غرف البيت ، فلفتت إنتباهي صورة فتي في حوالي السابعه عشر من عمره ، مُعلّقه في برواز يقبع في واجهة الغرفه
نظرت كثيراً إلي هذه الصوره ، فلم أحدد صاحبها .. طأطأت رأسي وأطرقت به بكلتا يديّ لكي أستطيع أن أتذكر ، فلم أستطع . لقد فُقدت شخصية صاحب هذه الصوره من ذاكرتي .
سألت نفسي :
- من ياتري سيكون صاحب هذه الصوره المُعلقه في مكانٍ خاص من واجهة الغرفه ؟؟
فكرت .. وفكرت .. تذكرت وتذكرت .. فلم أستطع الوصول إلي المعرفه . أعدت تشغيل شريط الذكريات والمعرفه في رأسي ، فلم أعثر علي جواب لسؤالي وحيرتي .
ركضت إلي خارج الغرفه مسرعاً لأسأل أمي عن صاجب هذه الصوره التي أشغلت دماغي ، وإذا بي أسمع صوت أمي يقول :
- " لقد قتلك الصهاينه أيها الشهيد ...
وفجأه وقبل أن تكمل جوابها ، شعرت أن يداً خفيفه تربت علي كتفي لتوقضني بهدوء مع بعض الكلمات القليله التي تذكرني بأن صوت السجان ينادي في المردوان بالإستعداد للوقوف علي العدد " الإسفراه " فإستيقظت لأجد نفسي مبللاً بذراتٍ من العرق البارد .
معتقـل عسقـلان
7/2/1988
الكاتب/ عبد الحق شحادة "أبوفادي"
أمين سر حركة فتح - إقليم غرب غزة
haهذه القصة القصيرة كنت قد كتبتها عام 1986م وهي أول ما كتبت من الاعمال الأدبية. وقد حازت عام 1993م على الجائزة الثالثة لأفضل قصة قصيرة وكان عدد الكتاب المتسابقين أنذاك 118 كاتب وأديب وعدد النصوص الأدبية المشاركة
كان 133 قصة قصيرة. وكانت الجهة المشرفة على هذه المسابقة هي ( دار الفاروق للثقافة والعلوم والنشر) في نابلس.
* الشييء المفقود *
فجأه إحمرت عينايّ وإكفهر وجهي فأصابني الألم والضيق .. فجدران الغرفه رطبه والغرفه نفسها مُظلمه وسيئة التهويه .. فأشعة الشمس لاتدخلها إلاّ متعرجة الخطوط ، باهتة اللون ، وبعد أن تكون قد فقدت دفئها وحرارتها .. حيث الشبك الملعون الذي يتربع علي شبابيك وباب الغرفه تتكسر عليه خيوط أشعتها .
إستلقيت علي السرير لأستريح قليلاً ، فإذا بي أستغرق في النوم بعد أن دارت الهموم برأسي .
... كل ذلك حصل بدون مقدمات ...
" ما أحلي الحريه بعد إعتقالٍ طويل ؟؟ "
كانت تلك الجمله أول ما نطق بها لساني .
مكان البيت لم يتغير .. معالم الذكري في هذا البيت والتي بقيت عالقه في ذهني لم يصبها التغيير أيضاً .. فالبيت علي حاله .. وشجرة الصبار الصغيره لا زالت تقبع في الأصيص المُعلق في فناء البيت .. والمنضده التي كنت أجلس للمذاكره عليها لازالت تقبع مكانها دون تغيير ويعلوها طبقه من الغبار الكثيف ، حيث المذياع الذي كنت أستعمله يرقد فوقها أيضاً .. كما أن برج الحمام الصغير الذي كان يقبع قبل إعتقالي في إحدي زوايا الفناء لم يتحرك من مكانه ، بل بقيّ خالداً خلود الذكري ، فقط بعض البهتان أصابه من جراء تقادم الزمن ولعدم توفر العنايه الكافيه نحوه ، وهذا الإهمال تجاه البرج ناتج عن كبر سن أمي ، ومن ثم عدم قدرتها علي الإهتمام بالبرج والحمام معاً .
فكل شييء إذاً لم يصبه التلف وبقي علي حاله بالرغم من السنين الطويله التي مكثها خلف القضبان .
عانقت أهلي .. أمي .. إخوتي .. وأخواتي .. عناق المشتاق لرؤيتهم ، وعناق المتشوق للحريه .. عانقتني أمي بتلهف .. وطال العناق مع الجميع فإشرأبت الأعناق ، وإحمرت الوجوه من شدة الفرحه ، فسالت الدموع .. دموع فرحة اللقاء .
تناولت كأس الشاي الأحمر حيث أحضرته والدتي بعد أن صنعته بيديها .. لم أتذوّق مثل هذا الشاي منذ دخولي السجن ، كان مذاقه عذباً ، كمذاق فاكهةً حلوة الطعم ، لما لا وهو من صنع يدي أمي . ستبقي كأسة الشاي هذه خالدةً في ذهني كخلود ذكري يوم خروجي من السجن .
آه يا أُماه ما الطفك وما أوسع حنان صدرك لأبنائك .. كم كان صبرك طويلاً علي المشاق والألم ...
لقد صبرتِ كثيراً وحزنتِ كثيراً حتي جاء اللقاء بإبنك ، وبعد أن تركت السنين بصماتها علي وجهك ..
أمليت النظر في وجه صديقي ناصر ، فوجدت الزمن قد ترك علاماته عليه ، إذا غزت بعض الشعيرات البيضاء سالفه ...
جارتنا " أم صابر " لا زالت كما عهدتها - قبل إعتقالي - تتشح السواد الذي لبسته منذ وفاة زوجها " أبو صابر " الذي قتله الصهاينه أثناء حرب حزيران 1967 م .. بينما كانت حامل ببكرها صابر .
طرق الباب مُستمر .. فالجيران والأقارب والخلان يتوافدون علي البيت للتهنئه بسلامة الإفراج .. وكل منهم يحمل بين يديه هديه رمزيه صغيره كجزء من العادات والتقاليد العربيه .
صافحت الجيران والأقارب والأصدقاء .. وبدأت الأسئله وكلمات الترحيب تنهال عليّ كزخاتٍ متلاحقه من الأمطار .
زغردت خالتي " أم حسين "لرؤيتي .. فزغردت جميع النساء المتواجدات في البيت ...
- أهنيتي يا أم صالح بسلامة إبنك وخروجه من السجن ..
هذا ما قالته جارتنا أم سعيد لوالدتي
- عُقبال عند جميع المساجين ، وربنا عمره ما نسي عبده ، والسجن عمره ما إنبني علي أحد ، وكثر الله من خيرك والله يطول في عمرك ويهدي بالك علي أولادك يا أم سعيد وإن شاء الله دياركم تبقي عامره دائماً ، والله لا يوقعكم في مصيبه .
كثرت كلمات التهنئه من هنا وهناك ، وإزداد عدد المهنئين ، فحدث ما يشبه الهرج والمرج ، إختلط فيه صوت النساء بصوت الرجال ، وصوت الأولاد بصوت البنات فشعرت أنني أتواجد في فدعوس حقيقي .
ما ألطفكم أيها الجيران ، كم أنا مسرور برؤياكم ولقاءكم ، إنها ساعاتٍ تاريخيه حافله بالمسره والنشوّه .
وفي خضم نشوة الفرح باللقاء تذكرت جدي الذي لم أراه طوال فترة إعتقالي ، فهو قد شاخ وتغير شكله كثيراً..أجلت البصر فيه، وحملقت كثيراً في وجهه ورأسه، فلم أعثر علي أي شعرة سوداء فيهما ربما يكون الزمن قد نسيّها في طية غزوته لرأسه ووجهه ، فإستعدت الله كثيراً وذكرت وحدانيته وقدرته .
تأملت كثيراً في الصور المُعلقه علي جدران حوائط غرف البيت ، فلفتت إنتباهي صورة فتي في حوالي السابعه عشر من عمره ، مُعلّقه في برواز يقبع في واجهة الغرفه
نظرت كثيراً إلي هذه الصوره ، فلم أحدد صاحبها .. طأطأت رأسي وأطرقت به بكلتا يديّ لكي أستطيع أن أتذكر ، فلم أستطع . لقد فُقدت شخصية صاحب هذه الصوره من ذاكرتي .
سألت نفسي :
- من ياتري سيكون صاحب هذه الصوره المُعلقه في مكانٍ خاص من واجهة الغرفه ؟؟
فكرت .. وفكرت .. تذكرت وتذكرت .. فلم أستطع الوصول إلي المعرفه . أعدت تشغيل شريط الذكريات والمعرفه في رأسي ، فلم أعثر علي جواب لسؤالي وحيرتي .
ركضت إلي خارج الغرفه مسرعاً لأسأل أمي عن صاجب هذه الصوره التي أشغلت دماغي ، وإذا بي أسمع صوت أمي يقول :
- " لقد قتلك الصهاينه أيها الشهيد ...
وفجأه وقبل أن تكمل جوابها ، شعرت أن يداً خفيفه تربت علي كتفي لتوقضني بهدوء مع بعض الكلمات القليله التي تذكرني بأن صوت السجان ينادي في المردوان بالإستعداد للوقوف علي العدد " الإسفراه " فإستيقظت لأجد نفسي مبللاً بذراتٍ من العرق البارد .
معتقـل عسقـلان
7/2/1988
الكاتب/ عبد الحق شحادة "أبوفادي"
أمين سر حركة فتح - إقليم غرب غزة