معركة الحياة.. .. جميل ضبابات( صور)
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
-جميل ضبابات
غطيت منطقة الغور طيلة 13 سنة، كما غطيت مناطق أخرى من الضفة الغربية...لكن اليوم كان الأكثر إثارة في نقل ما يجري وراء الجبال الشرقية لدولة فلسطين...إنها معركة الوجود الفلسطيني.
معركة على مدار ست ساعات، أو أكثر قليلا في منطقة خربة مكحول التي تهدم للمرة الرابعة... خسر الفلسطينيون المعركة جزئيا، لكنهم أعطوا درسا جديدا في انتزاع فكرة الحياة من القوة المحتلة.
إنها معركة الوجود، التي هاجم خلالها الجيش الإسرائيلي كل شي: فلسطينيين ودبلوماسيين، رجالا أشداء وكهولا ناهزوا السبعين من عمرهم الذي قضوه في صراع قاس مع الطبيعة.
لم يكن أمرا سهلا الوقوف فقط بالقلم والدفتر بالنسبة لصحافي وسط حشد من الجنود المدججين بالأسلحة والخوذ وبين رعاة صمموا على مواجهة مفتوحة بدون أية أسلحة.
كان المشهد أقرب لمعركة جرت في العصور الوسطى بالنسبة للفلسطينيين، معركة غير متكافئة مع عشرات الجنود المدربين على الضرب بكل قوة.
عندما وصلت سيارات مصفحة ومكيفة لسبع دول معظمها أوروبيه خلف شاحنة فلسطينية تحمل بعض الخيم للسكان الذين هدمت مساكنهم للمرة الثالثة رغم تدخل الصليب الأحمر.. بدا الأمر في بدايته وكأنه ضغط دبلوماسي على القوة المحتلة.. لكن الهدوء الذي هيأه الدبلوماسيون لم يكن إلا 'الهدوء الذي يسبق المعركة'.
'توقف. أنت. أطفئ محرك السيارة وافتح الشباك' قال الجندي عند مدخل الخربة.
-أنا انتظر دبلوماسيين غربيين سيصلون إلى هنا بعد قليل. أنا أقوم بالتغطية الصحفية فقط.' إذا ابق هنا لنحو نصف ساعة وبعدها يمكن الدخول'، أضاف الجندي الذي جاء في سيارة عسكرية بدت من بعيد تطوي الأرض وراءها في مهمة استطلاع للمنطقة.
كان الدبلوماسيون الغربيون قد شارفوا على الوصول، وكان بعض سكان الخربة في انتظارهم لإعادة بناء الخيم مرة أخرى، لكن آليات الجيش، كانت هي الأخرى تتحفز من بعيد للانطلاق ودخول الخربة.
هذه المرة صدر الأمر العسكري من أعلى رتبة عسكرية، قائد منطقة غور الأردن بإغلاق المنطقة، ودفع الدبلوماسيين وموظفي الأمم المتحدة وأعضاء في منظمات دولية للخروج من المنطقة.
كان واضحا أن قرارات الجيش التي تتخذ من أعلى سلطة عسكرية في المنطقة تدفع باتجاه إخلاء المنطقة من سكانها الذين يعيشون فيها قبل قيام دولة إسرائيل.
في هذا الخلاء الحار وسط جبال شديدة الجفاف لا يمكن توقع أي شي غير حصول معركة لا يمكن التنبؤ بنتائجها قبل وقوعها. هناك مواطنون فلسطينيون مصرون على البقاء في أراضيهم التي لا تحوي اليوم أكثر من ركام لمنازل دمرت أكثر من مرة، وهناك دبلوماسيون غربيون جاءوا للقيام بمهمة إنسانية... وهناك جيش مجهز جيدا لإخلاء المنطقة بأية طريقة.
منع الجيش السكان من إنزال حمولة الشاحنة من الخيم بانتظار ضابط كبير في الجيش..وحتى قدوم الضابط الكبير كانت سيارات الجيش تحتشد وكانت حرارة الجو ترتفع مع ارتفاع الشمس في كبد السماء.
كل شيء كان يشتعل، الأرض، الأفكار، والأمزجة، وحتى الماء القليل المتوفر للبعض. كان بعض الصحفيين فقط ينتظرون تغطية الحدث.. ثمة احتمالات كثيرة كانت تطرح بين السكان وبعض الدبلوماسيين .
كان الاحتمال الأقوى هو أن الجيش لن يبرح المنطقة دون إخلائها ومنع إعادة بناء مساكن جديدة للخربة المدمرة، وهي واحدة من خرب كثيرة دمرت خلال السنتين الماضيتين في الغور الذي يخضع لسيطرة إسرائيلية كاملة.
في المناطق المسماة 'ج' يمنع الفلسطينيون من بناء أي مسكن دون موافقة إسرائيلية. لكن حتى هذه لا تعتبر منازل بالمفهوم العملي. إن كلا منها لا يعدو كونه مأوى من حر الصيف وبرد الشتاء.
وهذا ما كان يريد الفرنسيون القيام به. لقد تبرعوا بحمولة شاحنة للحاجات الإنسانية تقي سكان المنطقة المدمرة مساكنهم من حر أيلول...وبرد الكوانين المقبل.
أي حر وأي شتاء يجري الحديث عنه في أوساط السكان.. إن الأمر يتعدى هذه الأيام حتى ظروف الطقس السيئة. إنه مسألة حياة أو موت، قضية وجود بالنسبة لبرهان الأسمر.
لدى برهان الأسمر ثماني طفلات، لذلك فهو مستعد لحفر الصخر حتى يأويهن من الحر والبرد ومن ظلام الليل وشمس النهار.
الرجل قاسي النظرات، اندفع نحو الشاحنة وعارك الجيش كي يحصل على خيمة، كانت 4 من طفلاته تتبعه بعيون خائفة ومستغربة من قافلة دبلوماسية يحاول المشاركون فيها المساعدة.
أي مساعدة غير ممكنة الآن بعد القرار العسكري المفاجئ والحازم: 'قرر قائد المنطقة طرد الجميع من هنا'، 'على الجميع المغادرة فورا. فورا بقرار من قائد منطقة الغور العسكري'.
لكن الدبلوماسية الفرنسية ماريوم كاستين التي جاءت على رأس الوفد لا تريد ذلك، تريد أن تعطي مزيدا من الدبلوماسية للحوار مع الجيش.
يقترب جندي من أذنها لإبلاغها الرسالة القوية' غادري خلال خمس دقائق. غادري'. صعدت كاستين إلى الشاحنة وأمسكت بكلتا يديها بالمقود رافضة التحرك.
إنها رسالة قوية أيضا. لكن ماذا يمكن أن تفعل أمام استخدام القوة، فقد كان الجيش جهز نفسه فعلا للهجوم وإخراج الدبلوماسية إلى خارج السيارة. إلى المعركة القوية بعد ساعات من انتظار اتصالات تجرى بين الفرنسيين والإسرائيليين من داخل المكاتب المغلقة.
لم يكن الوصول إلى الشاحنة المحاصرة سهلا، لكن عليك كمراسل صحافي أن تطرح أسئلتك، أن ترى مصدر القوة في ساعدي كاستين المتشبثة بالمقود.
الوصول يعني اختراق حائط الجيش، وحاجز السكان المتوترين والمندفعين بقوة لمواجهة أي هجوم كان واضحا انه قريب على الشاحنة.
قرر الجيش مهاجمة السيارة التي تعتصم بداخلها كاستين، فأطلق تحذيرا مسموعا، وعبئت البنادق بالرصاص، وحملت الجيوب بالقنابل الصوتية.
هوجمت السيارة، وجرت كاستين على الأرض، جرت من قبل الجنود، ووقعت أرضا... اشتد العراك الذي استمر لنحو ساعة بين السكان والجنود.
'أعطونا عدة دقائق للمغادرة. هذا يبدو شيئا سيئا' قالت كاستين وهي تمسك بقوة بمقود السيارة قبل جرها إلى الأرض. كان كل شيء يجري بسرعة وجنون.
صاحت كاستين وهي تحاول القيام من على الأرض بمساعدة بعض زملائها' أنا دبلوماسية . هكذا يعاملون الدبلوماسيين. أنا هنا في أسوء وضع على الإطلاق. ضربوني ضربوني. هذا غير معقول'.
إنها ربما المعركة الأقوى في الغور طيلة السنوات الماضية، اعتقل فيها برهان، واعتقل فيها آخرون، ضربوا ضربا مبرحا.. لكن إلى أين ذهبت بنات برهان الأربع اللاتي رافقنه إلى أرض المعركة. معركة الحياة والوجود؟ إلى أين؟.