"الأخوات الثلاث".. رواية فقر وموت !
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
أحمد الكومــي-"عام حزن" تفجّر في حياة المواطن عادل علي مراد (40 عامًا)، الذي ودّع ثلاثة من فلذات كبده في سنة خرساء !
إنها إحدى المرات القليلة التي تمنى فيها لو استطاع البكاء، لكن رجلًا باذخ الألم لا يبكي.
تحتضنه وأسرته (4 ذكور و3 إناث) شقة صغيرة جدًا بالإيجار، كالجُحر في منزل متهالك بعض الشيء، بمخيم الشاطئ غرب مدينة غزة، أرغمنا ظلام سلالمه أن نستعين بكشّاف هواتفنا الذكية.
كنّا على موعد مع وجع لا تنوء بحمله الجبال، أسرة فقيرة نال منها المرض، فانقض مؤخرًا على الفتاة (ياسمين) 25 عامًا التي توفيت قبل أيام جراء فشل كلوي، لتكون البنت الثالثة التي تحزم أمتعتها وترحل !
قبل وفاتها بشهرين، سقطت أختها (لينا) 15 عامًا، أرضًا من شقتهم في الدور الرابع، لتلقى حتفها سريعًا، وتلحق بأختها (جوليانا) 16 عامًا، التي كانت قد أُصيبت بتسمم غذائي ورحلت هي الأخرى يوم خطوبتها في العام نفسه.
لم تنته الحكاية بعد، فالمرض لم يرد أن يغادر الأسرة، فالتهم جسد الطفل الصغير (قصي) 3 أعوام، الذي كان قد أصيب باختناق بفعل الغازات السامة خلال العدوان الإسرائيلي الأخير، ليرقد 40 يومًا في العناية المكثفة، ثم تقرر تحويله للعلاج في المشافي الإسرائيلي، ليعود بعدها يتنفس من رقبته والغذاء يصله عبر أنبوب من بطنه !
في بيت العائلة، ضربت أنوفنا رائحة الحاجة، أطباق ملأها الهواء في مطبخ لا يتسع لوقوف أربعة رجال، وزقاق تبادلنا الأدوار للمرور خلاله وتوثيق المعاناة.
لا أثاث في المنزل، فقط أرضية متسخة وفراش وملابس بالية متناثرة، ووجوه أطفال شاحبة منعها الفقر من الجلوس على مقاعد الدراسة إلا واحدة هي (ديانا) بالصفّ الخامس.
المواطن عادل بلحية بيضاء عمرها شهر أو شهران، عاطل عن العمل، وكان والده توفي وهو في التاسعة من عمره، وأمه تركته وأخوته، وأغلقت على نفسها قفص الزوجية مع رجل آخر، ومن يومها بات الرجل مشلول التفكير والإرادة.
ابنه البكر (علي) 16 عامًا، كان للمرض حصة في جسده هو الآخر، حيث سقط قبل سنوات على رأسه عن الدور الرابع، لتستقر به الحال في العناية المكثفة، ويمكث فيها ما يزيد عن أربعة أشهر.
بعدها خرج بـ(حول) في عينيه، ومرض نفسي يلازمه، ينقل على إثره بين الفينة والأخرى إلى مستشفى الأمراض العقلية ليتلقى العلاج هناك من حالات الصرع التي تصيبه !
يقول عادل لـ"الرسالة نت" إنه تفاجأ بعد عودته من دفن ابنته التي توفيت بفشل كلوي، ببيت عزاء قائم أمام المنزل، ليجد أن أهالي الحي أقاموه بعدما علموا بفاجعته.
هدّ الألم هذا الرجل، وابتلع بسببه دموعًا لا يريد أن يحتسيها في حضرة أحد. وصف نفسه بأنه "لا شيء".
لأول مرة شعر أن ما في جيبه لا يغطي منسوب كرامته. هنا، انتهى كلام عادل لا الرواية، فقد احتفظ لنفسه بالتفاصيل.
الزوجة (أم علي) 40 عامًا، تركت الدموع تجيب عن أسئلتنا.
كيف للأم أن ترى صغارها يتألمون ولا تفعل حيالهم شيئا، فانقضّت على الألم تريد منازلته، إلا أن الأخير صرعها أرضًا.
(أم علي) تعاني من نسبة 35% عجز بجسدها و10% في رأسها، وكانت قد نجت من الموت بأعجوبة عندما داست على قدميها مقطورة -شاحنة كبيرة- إلا أن عناية الرب كانت حاضرة !
اثنا عشر مسمار بلاتين زرع الأطباء في قدمي الوالدة، وتكون بذلك قد شاركت صغارها المرض.. الآن هم سواسية.
تروي أم علي لـ"الرسالة نت" أن زوجة صاحب المنزل جاءت ثالث أيام العزاء تواسيها بوفاة ابنتها الثالثة، وإذ بها تطلب إيجار المنزل ولم تكن الدموع قد جفت عن خديّها بعد !
لم تنبس أم علي بكلمة، وتركت لمكارم الأخلاق الرد.
ولم يبخل الشارع باحتضان العائلة يوم أن تنكر الجار لجاره ونسي معنى الإحسان، فسبق أن قضت أربع ليالٍ في حديقة الجندي المجهول وسط مدينة غزة، وثلاثًا أخرى على شاطئ البحر، بعد أن طُردت من بيت سابق بالإيجار؛ نظرًا لتراكم الديون عليها.
واصلت أم علي بعد شيء من الصمت مواسية: "أنا تعبت من دفع الإيجارات.. ساعدونا يا ناس ساعدونا".. قطع البكاء الحديث، وغدت المرأة لفرط ما بكت كائنًا من ملح وماء !
"الله يجعلنا من عباده الصابرين" آخر ما نطقت به أم علي في انتظار من يلقي لها طوق النجاة من بحر المعاناة ويرسو بها على شاطئ الراحة. هذا حلمها وتتمنى ألا يتبخر.
المصدر الرسالة نت