أمهات شهداء اكتوبر: لا يغيبُ الأبناءُ عنّا ولو للحظة!
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
فصل المقال/ غادة أسعد
ثلاثة عشرة عامًا مرّت مِن عُمر شهداء اكتوبر، لكنّ شيئًا في البيتِ لم يغِب عنه، روحهم ما تزال تسكُن في البيت، ومشاعِرُ تمزجُ بين الحُبِ والاشتياقِ والفخرِ، مزروعةٌ في كُل زاويةِ مِن البيوت التي سقطَ فيها شهيدٌ مطلع اكتوبر عام 2000.
وثلاثة عشرة عامًا، ليست بسنوات قليلة، لكنها تبدو في عيون أمهات الشهداء، كأنها ليلةٌ واحدة مرّت، حين غابَ فيها ضوء القمر، حينَ غابَ مِن البيت، شابٌ على هيئةِ ملاك، سقطَ مُضرجًا بالدماء، لكنّ ابتسامة الرِضا لا تزالُ تُطِلعُ مِن ملامحه، فتخطف معها قلبًا حزينًا، عزّ عليه الفراق.
والدة الشهيد إياد لوابنة: لم يخلق الله مثله بشرًا في كرمه وحنية قلبه
فاجأتها بزيارة لم تكن قد استعدّت لها، وعزّ عليها فتح جرح ابنها مِن جديد، خاصةً أنها تُحاوِل ما استطاعت ألا تبكي بحضورِ العائلة، كلما تحدثوا في سيرته، لكنّها هذه المرة، حاولت التماسُك أمام زوجها رفيق دربها صبحي لوابنة، خاصةً أنّ شحنةً مِن الثقة منحها إياها، حينَ قال لها: "تحدثي بِما تشعرين بِه، علّك ترتاحين ويأنس الشهيد بحديثك".
في مدينة الناصرة، مسقط رأسه كبر الشهيد إياد لوابنة، حتى صارَ 27 عامًا، قبل أن يُفارق الحياة، لكنّ سنين حياته القصيرة نوعًا ما، كانت حافلة بالحيويةِ والمُثابرة والتآلُف بين أبناء العائلة الواحدة، بل مع الجيران والأقارب وكُل من عرفه، كان خلوقًا وخدومًا، الأمرّ الذي زاد مِن لوعة الفراق، حين رحلَ شهيدًا في الثاني من اكتوبر عام 2000.
حاولتُ خلال لقاءٍ هو الأولُ مَع والدة الشهيد إياد لوابنة، أنّ أسمعَ منها كلامًا في حُب ابنها، وهي التي فارقته منذ 13 عامًا، وفي البداية بدت وكأنّها لا تُريدُ لي أن أسرِق مِنها مشاعِرَ لا يشعرُ بِها إلا ابنُها الراحل الغالي عليها، وكأنها لا تُريد لأيٍ مِن المحيطين بها أن يدخُل بينها وبين حُبها وافتقادها لإياد، فبينهما علاقة خاصة، ليست أية علاقة، هي علاقة حُب واشتياق واغتراب لا أحد سوى المرحوم الشهيد يستطيع أن يستوعبه.
"كُل أبنائي أعزاء عندي، لكنّ لإياد مكانةٌ خاصة، هو قطعةٌ مِن القلب، فارقني دون أن أستطيع منعه، صارَ شهيدًا، فخفّف عني مواجعي وليالي طويلة لم تزلْ تُصاحِبُني بالدموع والحزنِ عليه".
"ماذا أقولُ في حقه، لم يعد لديّ لا كلماتٍ ولا دموعٍ، تُنسنيه، هو، مختلف عن سائر البشر، كان مِن شدة حنيته، يُجبرني على تذوق الحلويات التي يشتريها للعائلة، وكان يبتسم كلما دخل البيت، ويوم استشهاده كان قلبي منقبضا، وكأنّني أحسُ أنه سيفارقني، قلتُ له "متنزلش يمّا"، فردّ بكلماتٍ قاطعة: "قولي يا الله، وبيديه الطريتين مرّ على وجهي، وقبلني، عندها شعرُت أنّه لقاؤنا الأخير".
"إياد، يمّا يا حبيبتي لا يغيب عن بالي أبدًا، ولا تعرفين كم هي قاسية هذه الأيام ومؤلمة في ذكرى استشهاده، قبل أن تأتي أنتِ كُنّا في سيرته، ولا زِلتُ أحسُب أيام عمره، كأنه لم يزل حيًا، لقد وُلد في الـخامس عشر من كانون الأول عام 1973، ورحل يوم الثاني من اكتوبر عام 2000، 27 عامًا، مروا كأنهم سبعة أيامٍ والشوقُ يحرق ضلوعي على غيابه".
تقول ام عصام، والدة الشهيد: "دموعٌ لا يُكفكفها العمر، وذكريات لا تغيب من بالي، ولا يعزيني وجود الآخرين، فهو في نظري رمزٌ للحنية وطيبة القلب، وطاعة الوالدين، كان لا يعود إلى البيت فارغ اليدين، كان يوزع أكياس الحلوى كما لو أنّ كلُ يومٍ لديه احتفالٌ بعيد ميلادٍ أو مناسبةٍ سعيدة، وكأنه "مش ابن معيشة"، الله يرحمه ويسكنه مع الشهداء في جنات الخلد".
عن اشتياقها لرؤياه تقول أمه: "كلما اشتقتُ له آخذ باقة ورود وأذهب لأتحدث اليه، وأناجيه، وعند موعد ميلاده الـ15 من كانون أول، أذهب إليه، وأعايده، فأشعر كأنه يواسيني، ولا يرغب أن أبكي فراقه".
آخرُ يومٍ عاشه إياد لوابنة
يوم استشهاده، تغدى في بيت شقيقه، وحين شاهد مقاطع مِن استشهاد الطفل محمد الدرة، تساءل بصوتٍ عالٍ "مش حرام يعملوا فيه هيك؟!"، وطلب من شقيقاته زيارتنا، لكنّ واحدة منهن استطاعت أن تلبي الدعوة، وحين همّت بالمغادرة قال لها: "خليكي خيتا كمان شوي"، أذكرُ أيضًا أنه قبل استشهاده بيوم قالَ لإحدى شقيقاته: "أنا حلو هيك وأنا ميت؟!"، وكنتُ أحيانًا أتحسس وجهه ورجليه وهو نائم وأقول بصوتٍ عالٍ: "مش حرام ينحط تحت التراب؟!"، وكأنّه فعلاً، سيغادرنا باكرًا. لقد كسر قلبي، ولم أفرح بعده بأيةٍ مناسبةٍ حتى أعراس أبنائي لم أحضرها، كنتُ أقفل الباب على نفسي وأبكي حتى يجف الدمع في عيوني، وكنتُ أناديه بصوتٍ عالٍ، علّه يسمعني ويأتي إليّ ثانيةً"، وحين تزوج شقيقه مُعاذ تساءل الجميع لماذا لم أحضُر عرسه، لكنهم لا يعرفون أنني غيرُ قادرةٍ على الفرح في غيابه. ورغمّ أنّ اثنين من أبنائي أسميا ولديهما باسمه إياد، وكبر الإيادان، لكن ليس مثله إنسان في رجوليته وكرمه ولا بحنيته".
لكنْ قالت، وشاركها أبو عصام في قولها: "لقد خسرنا شابًا عزيزًا، لكن عندما نسمع الآخرين يترحمون عليه ويقولون إنه شهيدٌ في جنات الخلد، نشعرُ بالراحة، ونشفعُ لَهُ بعدهُ عنّا".
سألتُ والده عن يوم وفاته فقال: "كان قائدًا بين الشباب، وعددهم 35 شابًا، وكانت الشرطة تطلق القنابل باتجاه الشُبان، فكان يتلقف قنبلة الغاز بيده ويعيد رميها تجاه قاذفيها، وفي المرة الثالثة، أطلقوا عليه قنبلة صفراء، التقطها فأحدثت له دوارًا، وكان أحد القناصين يعتلي أعلى البنايات القريبة مِن المكان، فأشار اليه رجال الشُرطة بقنص إياد، في المرةِ الأولى لم يُصَب، وفي المرة الثانية، جاءَت الرصاصة قرب القلب، وهرع بمسافة تزيد عن 15 مترًا، واحتضن أحد الأعمدة الكهربائية وسقط أرضًا مضرّجًا بدمائه، وقد وصل المستشفى الانجليزي فاقدًا للحياة، وفي الليلة ذاتها، ابلغونا بنبأ استشهاد إياد، فذهبنا إليه، وأحضرنا جثمانه ووضعناه في جامع السلام، وبعدها حضر شرطيٌ بصحبة أحد الأطباء، وأرادَ أخذ إياد إلى مستشفى رمبام في حيفا، فقلتُ له: "ليه، بدكو توخذو حواصلو؟!"، وحين أصرّ الشرطي، توجهتُ للشباب وعددهم يزيد عن 50 شابًا، ألا يسمحوا بإخراجه مِن المسجد، وفعلاً بقي حتى الصباح، حيثُ تمّ دفنه".
يقول والده: كان عزاؤنا كبيرًا بالزيارات الهائلة للفلسطينيين من الداخل، بل لآخرين من دول أجنبية، جاؤوا لمواساتنا، فشعرتُ أنّ العروبة لا تزال تحتفظ بالكرامة والوطنية والنخوة".
وعن التعويض المادي قال أبو عصام، والد الشهيد إياد لوابنة: "أنا اللاجئُ من المجيدل، وأنا الذي ربيتُ أبنائي برمشِ العين، لا أريدُ شيئًا مِن هذه الحكومة، ولم نكن نتوقع من (ماحش)، ولا السلطات الإسرائيلية أن تعوضنا، لا نريدُ منهم أي تعويضٍ، على قتلِ أبنائنا، لا نريدُ سوى اعتراف منهم أنهم مسؤولون عن قتلِ أبنائنا، لكنهم أغلقوا ملف الشهداء بادعاء أنّ الشبّان قتلوا بعضهم بعضًا".
والدة الشهيد أحمد أبو صيام: لم يغِب عن بالنا ولو للحظةٍ!
في مسقط رأسه في قرية معاوية، وُلد وترعرع الشهيد أحمد أبو صيام، ولحظة استشهاده كان قد لبّى نداء لجنة المتابعة بالتظاهر ضد اقتحام اريئيل شارون للأقصى المبارك، وكان مِن المُفترض أن تكون المظاهرة المُعلنة سلمية، حيثُ وصل الالاف إلى ستاد السلام في أم الفحم، لكنّ الشرطة التي كانت تقف في أعلى نقطة على جبل قحاوش، قُبالة المتظاهرين، كانوا قد قرروا أنّ القتل هو الحل الوحيد لإسكات المتظاهرين.
تحدثني والدته أم أحمد عن لحظات استقبال نبأ إصابة ابنها: "كُنّا أنا ووالده في زيارة إلى الأردن يومها، وكأنّ هاجسًا ينذرني بوقوع شيء، حين هممتُ بتناول طعام العشاء، شعرتُ بانقباضٍ في صدري، وسُدّت منافسي، وفي الليلةِ ذاتها، اتصل عمُ أحمد، وأخبرنا أنّ ابننا قد أصيب في التظاهرات، لكنه بخير، ولم نرتَح ريثما وصلنا الى البيت، وكان طاقم العاملين في المعبر يعلم بوصولنا، مع ذلك أصرّ على تفتيشنا ومصادرة بعض المقتنيات".
تضيف: "انطلقنا فورًا إلى مستشفى رمبام، حيثُ كان يتلقى العلاج، وحين نظرتُ إلى آلة فحص القلب، بدت بخطٍ متواصل، فأدركتُ أنه قد توفي، لكنهم كانوا يتحدثون وكأنّه لم يفارق الحياة بعد، سألناهم عن احتمالات أن يعيش، فقالوا، ليس هناك أمل 1% أن يحيا، عندما تُفصل الأجهزة، عُدنا الى البيت ووجدنا البيت عامرًا وخيمة العزاء منصوبة وسط البلدة، ولم يكُن أصعبُ مِن هذه اللحظات عليّ وعلى زوجي وأبنائي، وفي اليوم التالي اتصلوا بِنا وذهبنا لإحضار جثمانه، فطلبوا من زوجي التبرع بأعضائه، لكنه رفض قائلاً: "لو أنّ وفاته جاءت طبيعية، أو نتيجة حادث، لتبرعنا بأعضائه، لكن أن نتبرع بجسد إبني الذي قُتل غدرًا، لا يُمكن ذلك".
قالت والدته: "قبلته وودعته وتمّ دفنه في ساعات المساء، ولم يحتمل أبنائي هذا المصاب الأليم، خاصةً شقيقته سلسبيل، التي كانت تغيب عن الوعي عدة مرات، حيثُ لم تستوعب نبأ استشهاده".
عن الشهيد أحمد أبو صيام حدثتني والدته: "كان أحمد ناشطًا رغم أنه لم يتجاوز الـ 18 عامًا، كان يثيره تصرفات الشرطة، وقد ضُرب في إحدى المرات، هو وطلاب صفه بالعصي، حين ثارَ الجميع دفاعًا عن أراضي الروحة، وقد كتب وصيةً قبل استشهاده، طالبًا منِا دفنه في قريته معاوية".
تقول والدته: "حاولتُ التماسُك في البيت، كي تقوى عزيمة والده وأشقائه وشقيقاته، كنتُ صابرة ومحتملة، رغم مرارة الغياب، ولا أحد يستطيع أن يفهم العلاقة الخاصة بيني وبينه، ولا يمكنني أن أنساه، أبكيه دائمًا، لكنني توقفتُ عن زيارة ضريحه أيام الأعياد، لأنني أريدُ لأبنائي أن يفرحوا قليلاً، وأزوره وأضع باقة ورود لكن بعيدًا عن عيون الناس، خوفًا مِن أن يقولوا، ما أسمعه أحيانًا "فش حدا استشهد ابنه غيرها؟!"، لا يعرفون الجمرات التي تكوي قلبي في غيابه، لكنني قوية ومؤمنة بقضاء الله".
أضافت والدته: "لم نطلب تعويضًا عن وفاة ابننا، نريد اعترافًا منهم بالمسؤولية عن القتل بدمٍ بارد، وهم يسعوْن إلى طردنا، من خلال محاصرة الأقصى، لكن ما يحدث يجب أن يقوي عزيمتنا، ويجعلنا نناضل، حتى لو كان الأمرُ بالصوت، وهو أضعفُ الإيمان، هذه الدولة التي تسمي نفسها ديمقراطية، لا تطبق ديمقراطيتها إلا على أبناء شعبها اليهود، لكن حين يصل الموضوع إلى العرب يُصبحون ديكتاتوريين، ويتذرعون أنّ القانون يسري على الجميع".
لم تكُف أم أحمد عن البكاء، أمام صورة ابنها وقالت: "كنتُ أتمنى أن أراهُ عريسًا، لكنه عريسٌ في الجنة، تمنيتُ أن أراه يركب الفرس ونغني له "هنيئًا لك الجنة يا ابني، هنيئًا لك استشهادك وأنا صابرة وراضية إلى ما شاءَ الله".
أم وسام، في حضور الغائب: "أخاف أن أغمض عيوني فتغيب عني صورته"
في الثامن من أكتوبر، سافر وسام يزبك بصحبة خاله إلى مدينة طولكرم. كانت الإنتفاضة الثانية بأوجها. على مدخل المدينة كان الناس منتفضين: إطارات محروقة وطرق مغلقة. قال وسام لخاله: "خالي ما بدنا نموت" وعادا إلى الناصرة.
تقول أم وسام، وقد اعتصر قلبها حزنًا على الذكرى: "صلّى وسام وخاله صلاة المغرب معًا، وتجولا معًا في الناصرة، وفي وقتٍ متأخر انفصلا، ذهب وسام الى اصدقائه يتابع المشهد الحاصل في مدينة الناصرة واقترب من المنطقة الفاصلة بين نتسيرت عيليت والناصرة، وقف مع شابين آخرين في صفٍ واحد، كانوا يرمون بالحجارة باتجاه نتسيرت عيليت، فقد خطفته رصاصة في رأسه، وأصابته رصاصة ثانية، واستشهد".
حتى تلك اللحظة، لم تصل الأنباء إلى البيت، رنّ هاتف المنزل وردّت أم وسام، كانت شقيقته على الخط الثاني، سألت أمها عن شقيقها فردّت "ذهب مع خاله" وعاد الهاتف ليرنَّ مجددًا، إنهم أصدقاؤه هذه المرة يسألون عنه،"أصابني القلق، ومن بعدها جاء البلاغ، إنه في المستشفى الانجليزي". ظنّت أم وسام أنَّ ابنها هو ذاك الشاب المستلقي جريحًا على أحد الأسرّة وسرعان ما تبين أنه ليس هو وبعد كشف الأسماء في المستشفى تبين أنه نقل الى مستشفى "رمبام".
سافرت الوالدة بصحبة الأقارب، والتقت شقيقها عند مدخل المستشفى، شدّ على يديها ولم يقل شيئًا، إنه "مشهدٌ لن أنساه في حياتي، يدٌ باردة تضم يدي". في غرفة الانتظار، اقترب الطبيب منها ونظر الى الآخرين قائلاً: "أخبروها"، قالت ام وسام: "ماذا عليهم أن يخبروني؟"، أجاب الحاضرون: "وسام استشهد".
تحكي أم وسام وكأن السنوات الـ 13 لم تمر: "لا أحب أن يقولي لي إنه مات، سأظل أؤمن بأنه سيعود إليَّ أو أنني سأذهب إليه". قلبٌ صغيرٌ تحمله أم وسام بين الضلوع، صارَ ضعيفًا، هشًا، غير قادر على التحمّل. صار البكاء وسيلتها الوحيدة للترفيه عن نفسها الجريحة. الجرح لم يندمل، خصوصًا وأنَّ السلطات الإسرائيلية برأَّت ساحة المجرمين، و"عاقبتنا نحن، ذوي الشهداء"، تقول ام وسام.
تابعت: "باتت حياتنا مجبولة بالسياسة، في مواجهة 90% من اليهود العنصريين، شبابٌ بعمر الورد، أكبرهم في السابعة والعشرين من العمر، ومعظمهم أقل من عشرين سنة، قتلوا بكبسة على الزناد، بلا ذنب! الله يحرق قلب اللي حرق لي قلبي ولوَّعني على إبني".
وأنهت كلامها: "قبل يومين فتحتُ دفتر المذكرات وقرأته، ونظرت الى صوره وبكيتُ طويلاً، وفي الليل جاءني مبتسمًا، لا زلتُ أسعد بلقاء الليل، وأحب العتمة، لأنها الدرب الوحيد الذي أرى فيه ابني امامي، وسيمًا كما رحل".
والدة الشهيد عمر عكاوي: "أحيانًا أشعر بأنه جالس بقربي، يتحرك معي في البيت"
في بيت الشهيد عمر عكاوي مشهدٌ مختلف، صور الشهداء تغطي الحائط، صحفٌ قديمة، أشخاصٌ رحلوا، شيءٌ ما يشعر بالبرد، رغم إغلاق النوافذ، عبقُ الراحلين في المكان.
استشهد عمر في الثامن من أكتوبر 2000، استيقظ متأخرًا، فقد أمضى أسبوعًا كاملاً بلا عمل، لم يأتِ صديقه جميل ليوقظه، يومها رنّ هاتف البيت في ساعات الصباح، فردت أم ابراهيم، والدة عمر، فطلبت منها ابنتها جميلة، التي تعمل في رمات يشاي، أن تسافر اليها لتعطيها مفاتيح السيارة بعد أن نسيت المفاتيح في قلب السيارة وأغلقتها. سافرت الأم اليها وسلمتها الأمانة وعادت الى البيت عصرًا فلم تجد عمر في البيت.
زارَ عمر أصدقاءه وجيرانه في حي "شيكون العرب"، عند التاسعة وعشر دقائق نزل الى مكان الحدث في المنطقة الفاصلة بين الناصرة ونتسيرت عيليت مقابل مجمع "ليف هعير"، واستقرت الرصاصة في قلبه، قبل أن يتمكن الآخرون من تحذيره أو حمايته.
لم يعد عمر إلى البيت، وكان راديو 2000 قد أبلغ عن وقوع إصابات في المنطقة التي تواجد فيها. خرجت الأم لتبحث عنه ووصلت الى المستشفى الانجليزي، ولم يكن عمر من بين المصابين. جاءت أم بسام، جارة ام إبراهيم واحتضنتها وهللت "الله اكبر، عمر استشهد!"...
"يومًا بعد يوم يزداد شوقي اليه وتعلقي به، أعد صوره، أحيانًا أشعر انه يجلس بقربي، أشعر انه يتحرك معي في البيت"، تقول والدته هدية عكاوي.
"ما كان ليعوض عائلة عكاوي وغيرها من عائلات الشهداء سوى معاقبة الجاني، أو ذكر اسمه على الاقل، ليكون عبرة للآخرين، ويكون سببًا في منع الشرطة من ضغط الزناد كلما ثارت الأعصاب".
ولأنّ الوجع "لا يصيب سوى صاحبه"، فإنّ التساؤلات تزداد كلما مرّت السنين، تسعُ سنواتٍ على رحيل عمر عكاوي والشهداء الآخرين، ولا شيء يخرج من أروقة المحاكم، تقول الشقيقة: "تصوري أنهم كانوا يحددون أهالي الشهداء بـ 13 نفرًا، في جلسات التحقيق أمام لجنة اور، فتكتفي العائلات بممثلٍ واحد يستمع الى ما يدور في أروقة المحكمة، بينما يجلس كثيرون من المتفرجين ورجال الشرطة دون قيدٍ أو شرط"!!
والدة الشهيد أسيل عاصلة: "عندما اطلقوا النار عليه كنت موجودة"
في الثاني من اكتوبر، دخلت أم اسيل غرفة ابنها لتجده نائمًا، واتجهت صوب بيت شقيقتها. في ذلك اليوم زاره صديقه فدخلا الى الحاسوب، وانطلقا باتجاه منطقة "المل".
كانت نشرات الأخبار التي يتناقلها الناسُ مليئة بالأحداث، في كل القرى والمدن، توجّس قلب أم اسيل، عندما عرفَت أنه خرج من البيت صوب الأحداث أصابها الخوف، فهي أمٌ قلقة باستمرار، انطلقت باتجاه المل (منطقة زراعية في عرابة)، كانت المرأة الوحيدة التي تسير بهذا الاتجاه. إزداد خوف الأم، صارَ القلقُ شبحًا يطاردها، حيث سارت بسرعةٍ لتعيد ابنها إلى حضنها، وكأن شيئًا ناداها. وقفت في مكانٍ مرتفع تراقب المشهد الذي أمامها. الشرطة تقف بعيدًا عن الشباب، تحت أشجار الزيتون الخضراء، شابٌ يلبس كنزة خضراء، إنه أسيل، تعرفه من اللون، لكنها لم تتأكد من ملامحه، اتصلت بشقيقته كي ترسل له ملاحظة على الهاتف النقال، أن ينتبه، فرجال الشرطة يبدون "كالثيران الهائجة"، وفي لحظةٍ نزل ثلاثة من افراد الشرطة الى كرم الزيتون، رأيتُ أسيل يجلس تحت الشجرة، ضربوه بكعب بارودتهم وقتلوه.
كانت أم أسيل لا تزال تراقب المشهد، غمامة من الضباب حامت حول عينيها. في تلك الاثناء نقله شبّان إلى العيادة في سخنين، ومرة أخرى، نقلته سيارة الإسعاف عبر الطريق الترابية إلى مستشفى نهاريا، ولحق بهم أبو أسيل وأمه، وفي المستشفى ادخل الى غرفة العمليات... واستشهد أسيل.
"صار رقمًا... أيُ مأساةٍ هذه أن تربي ابنك حتى يصبح شاباً، ولا تضمن له الأمان".
أم أسيل، مربية أجيال، تركت مهنة التدريس بعد تجربة 33 عامًا، وحاولت طوال سنوات تعليمها أن تقدم رسالة التربية كما يجب، وكانت ايضًا تسعى الى تزويد الجيل الجديد بالثقة والاستقلال والحرية، لكنها اليوم –كما تقول- تخاف على أبنائها، كثيرًا "إلى درجة قد تقيّد حريتهم بعض الشيء". رغم عزّة نفسها إلا أنها كما قالت: "أحب أن أحبس ألمي ولا اظهره للآخرين، حتى لا أشغلهم بألمي وأنسيهم فرحتهم".