يوم أمطرت سماء المخيم شظايا
فارقت مخيم اليرموك. تركت أصدقاء لي هناك. لم يعد التواصل معهم سهلاً. تغير المخيم عليّ وعلى سكانه. في آخر زيارة لليرموك، أخذت ذكرى صغيرة. شظية لا تزال في جيبي لتذكرني بأنّ لي أصدقاء هناك قد يموتون في أي لحظة
رحاب عمورة
بعدما تركت العمل في مخيم اليرموك وانتقلت إلى عملي الجديد في قلب العاصمة دمشق، بقيت أزور أصدقائي هناك على نحو شبه أسبوعي. كان شوق كبير يأخذني إليهم وإلى ذلك المكان الذي تعلقت به روحي. أربع سنوات، لم أتباطأ يوماً عن زيارته، كأنه فرض صلاة. يوم بدأ القصف على المخيم، شعرت بأن وحشاً هاجمني وبدأ ينهش قلبي. بدأت زياراتي تتباعد، لا خوفاً على نفسي، بل شفقة على أمي التي حذرتني مراراً وتكراراً من الذهاب الى هناك.
وفي أحد الأيام اتصلت بأحد الأصدقاء في المخيم للاطمئنان إليه، فإذا بهاتفه مغلق. جربت مراراً وتكراراً كل رقم أعرفه هناك، سواء كان هاتفاً خلوياً أو أرضياً من دون جدوى. شعرت بنبضات قلبي تتسارع. لم أنتظر أن تنتهي ساعات دوام عملي، خرجت متجهة إلى المخيم، وبعد معاناة كبيرة من الطريق والحواجز المرهقة، وصلت إلى منطقة الجسر (تعرف بالبطيخة) وهي بداية المخيم. كان ازدحام السيارات كبيراً جداً، قررت حينها أن أنزل وأكمل سيراً على الأقدام.
كان القصف في تلك الفترة متركزاً على شارع فلسطين الذي هجره أهله لخطورته، ولا سيما في منطقة الساحة. لكن فضولي دفعني إلى دخول المخيم من هناك، لأستكشف ما جرى. وبدأت المسير. كان هناك أناس في الشارع، لكن الخوف كان بادياً على وجوههم من قذيفة قد تفاجئهم في أية لحظة. سوق الخضرة ما زال فيه بعض البائعين الصامدين، والناس يشترون ويرحلون بسرعة. أكملت سيري إلى أن وصلت عند مفرق ثانوية اليرموك... وهناك، يا إلهي! كان الدمار هائلاً. في وسط ذاك الدمار، لمحت شخصاً يقف ويصيح بالناس للإسراع بدخول الحارات الضيقة. فعلت مثلما قال. دخلت حارة ضيقة، سرت وأنا أنظر عند كل مفترق طرق نافذ إلى شارع فلسطين لأعاين الدمار يملأه. عند مفترق الساحة، حاولت الاقتراب وإذا بصوت رجل كبير في السن يصرخ بي «ارجعي إلى أين تذهبين؟ القناص هناك يتربص بأي شخص قد يمر». قلت له إنني أريد الذهاب إلى منطقة الدوار، فطلب مني الذهاب عبر الحارات وعدم الخروج إلى الشارع الرئيسي أبداً. وهكذا كان. مررت بالحارات الضيقة التي كنت أحفظها عن ظهر قلب، مرتبطة بذكريات لا تنسى. وصلت إلى المكتب، حيث كنت أعمل، وطرقت الباب كثيراً دونما جواب. حاولت الاتصال، لكن كل الاتصالات كانت مقطوعة.
بدأت أسير باتجاه شارع اليرموك وهو الشارع الرئيسي الثاني في المخيم متلفّتة يميناً ويساراً، علّني أرى أحداً من أصدقائي، ولمفاجأتي رأيت أحدهم. كان متجهاً إلى جدل، وهو مقهى إنترنت معروف في المخيم، حيث يرابط العديد من أصدقائي هناك ممن رفضوا كإعلاميين، توقف عملهم، وأصروا على الاستمرار، فانتقلوا إلى هناك بعدما أصبحت منطقة المكتب خطرة. وبالفعل، وجدت أكثرهم في المقهى.
وعندما قلت لهم إني مررت بالمكتب فوجئوا، وقالوا لي ساخرين: أنت مفصولة من العمل، لقد حذرونا أن كل من يذهب إلى هناك سيفصل. ضحكنا كما لم أضحك منذ فترة طويلة. لم أطل المكوث لأن الهواتف مقطوعة وخشيت أن تتصل بي أمي لتكتشف أن هاتفي مغلق فتبدأ بالقلق. خرجت من المخيم راكضة وأنا أجرب هاتفي كل لحظة لأتفقد التغطية. وبعد وصولي إلى أول اليرموك، عادت التغطية من جديد ليطمئن قلبي على أمي وينشغل على أصدقائي الذين تركتهم خلفي من دون وسيلة اتصال تطمئنني إليهم.
بعد تلك الزيارة، كانت اتصالاتي مع أصدقائي عبر الفايسبوك كلما استطاعوا ذلك، وفي ليلة من الليالي التالية كنت أتحدث إلى أحد هؤلاء، وكنت مشتاقة لرؤيته كثيراً، فقلت له: سآتي إلى المخيم غداً، أين ستكون لأراك، فالكثير لم أعد أعلم مكان مكوثهم بسبب القصف الذي طال معظم أماكن المخيم، ما اضطرهم إلى الانتقال، فقال لي سأكون في المكتب بانتظارك. وفي اليوم التالي، عقدت العزم على الذهاب من دون أن أخبر أحداً كي لا يبدأوا بمحاولات ثنيي عن الذهاب، وبالفعل انطلقت مسرعة واتجهت إلى المكتب. رأيت بعض أصدقائي هناك، ولكني لم أكن أعلم حينها أنها ستكون آخر مرة أراهم فيها.
قضيت يوماً رائعاً. بعد ساعات، قررنا الخروج لأعود إلى البيت. فقد كان صوت القصف قريباً جداً وتنبأت حينها أنه قد يكون آتياً من جهة منطقة الحجر الأسود أو التضامن، وعندما سرت مع صديقي في الحارات المؤدية إلى شارع اليرموك ليوصلني، بدأ القصف يقترب، وبدأت الشظايا تنهمر فوق رؤوسنا. لم أفهم جيداً كيف جرت الأمور بسرعة.
شدني الصديق ودفعني إلى الجدار للاحتماء، لكننا عدنا وبدأنا نركض بأقصى سرعة ممكنة. التقطنا بعض الشظايا التي كانت ساخنة واحتفظت بها. كان الناس يركضون بكل اتجاه للهرب والاختباء، طال القصف معظم المراكز الطبية كمشفى الباسل وفايز حلاوة ومشفى فلسطين، واستشهد الكثيرون وكان بينهم أطفال، وبعدما وصلت إلى الشارع العام، ودعت صديقي وهرولت لأجد وسيلة ما أركبها. كان الشارع فارغاً والواقف على الحاجز عنصر من القيادة العامة، كان يطلب من السيارات الدخول في الحارات للاحتماء. صرخ ذلك الشاب بي: أين تذهبين؟ فقلت أريد الخروج من المخيم! وإذا به يوقف لي سيارة سرفيس ويطلب من سائقها أن يقلّني. كما حذره ألا يبقى في الشارع الرئيسي وأن يحتمي في الحارات الضيقة. عندها ارتبك السائق، وبدأ المسير وهو يقول للركاب: لا أعرف الحارات، فأنا غريب هنا. قلت له سأدلّك على طريق الخروج. وبالفعل، بدأنا دخول الحارات حتى خرجنا في النهاية إلى شارع الثلاثين قرب المخفر، بعدها قلت له أنت الآن خارج المخيم ونزلت.
ذلك اليوم لا أستطيع أن أنساه أبداً. نظرت إلى الشظية التي ما زلت أحملها بيدي، ثم نظرت إلى المخيم والدخان يتصاعد منه في أماكن كثيرة، كان يحترق وقلبي يحترق معه. وبعد 3 أيام دخل المسلحون المخيم، وباتت المعارك براً وجواً. خرج معظم الأهالي وبقي من بقي لأسباب كثيرة وكانت نكبة المخيم.
في ذلك اليوم الذي أمطرت فيه السماء شظايا قذيفة فوق رأسينا أنا وصديقي، بكيت كثيراً ليس خوفاً ولم أكن أعلم لماذا. ولكن الآن وبعد نحو 10 أشهر وأنا في بلاد الغربة، عرفت السبب، فقد كان آخر يوم رأيت فيه المخيم وأصدقائي الذين أحبهم كثيراً، وما زلت أحتفظ بتلك الشظية مع خوف شديد أن تكون آخر شيء ملموس يذكّرني بأعز الأماكن على قلبي.