المخيّم الذي لا ينام
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
بثينة رشيد
رغم أنه لم تنصب فيه خيمة واحدة منذ أن وطأه الفلسطينيون، إلا أنّ كلمة خيمة لازمته منذ تأسيسه. كلمة «مخيم» مطرٌ ناعمٌ تتلذذ بها شفاه أهالي اليرموك، كأن الإصرار عليها يمدّهم بمشاعر التحدي مع الحسرة، وقد كانت زاداً روحياً يضيء أكثر من 250 ألف شمعة. لقد كان قبل شهور مخيماً أنيقاً ومتعباً في آن، يستضيفك وكأنك في بيتك، الناس فيه أليفون الى حدّ الدهشة، فالحارات فيه والأزقّة والمحالّ والمطاعم والأسواق، ومقاهي الإنترنت، وخروج الأطفال من المدارس، وساحات العيد، جميعها أماكن عادية كأي شيء عادي في هذا العالم.
ولكن الذي كان يستوقفك ويثير أسئلتك واستغرابك، هو الناس في هذا المخيم، أنواره التي لا تنام وشوق الناس فيه إلى الحركة، وكأن هناك سراً طوّقوه وأسروه.
فهذه الجماهير الغفيرة والسيارات الكثيرة وهذا الضجيج وذلك الصخب، يشعرك وكأنك وسط تظاهرة أو مسيرة احتجاج. حتى الوجوه تراها مستغربة ومتيقظة، والشفاه دائماً مستعدة للبوح أو للصراخ. أما العيون فتراها مستوحشة استولى عليها الذهول، وكأن صوراً كثيرة حشدتها الذكريات لتغرق في سوادها ولا تبقي على شط بياضها سوى الوجوم.
لقد كان المخيم لناسه موكب انتظار، وهو من كانت سيارته تهرع مكبراتها لنداء تجمع ذكرى يوم الأرض ووعد بلفور، والنكبة والتقسيم، والعودة... آه العودة!
كانت أحلامه عصيّة على الاختراق، وكانت خيالاته تلهو وتعبر عن نفسها برسوم تملأ حيطانه كأنها حكايات: عن البرتقال والأسلاك الشائكة وعن شجر الزيتون، وحتى الشعارات كانت تتسابق لشد الأنظار إليها.
أما الأغاني فكنت تسمعها تعلن عن نشيدها لفلسطين لتشحذ القلوب صلابة ونضرة... حتى الحقول البعيدة كانت تسرق منها شوقها وهديرها، وتستمد من تلك الأحلام خضرتها ويراعها.
هكذا كان المخيم، وهكذا كانت حكايته، التي سقطت ذات يوم، وتاهت دون علم من ناسها، ووقعت في حارات ورق تغيرت ألوانه وضاعت أحرفه ويُتّمت أسماؤه.
هكذا كان، وهكذا صار، بعدما خرج من جنته مصدوماً مهموماً وكتب على أسطر الحكاية قصة الخروج...
مخيم اليرموك هو الآن يصرخ: هل من عودة لأيام خلت؟ هل من عودة...
لك يا مخيم اليرموك أن تسأل، ولك أن تصلك أشواق تعبت من اللهفة، ولك أن تعمر أرضك بشوق الى وقع أقدام هربت من الموت ومن الدمار.
وحتى نحمي ما تبقى من البيوت، ولكي ننقذ ما تبقى من الأرواح، فلنحاول من جديد أن نكتب عناوين قلوبنا في سكنات حلم قديم ينادي من زوايا ما تبقى من الحارات: متى يا شعب اليرموك... متى تعود؟ ليعود.