مروان مخول وبكر زواهرة في شعر يجافي البراءة - احمد دحبور
كثيرا ما ننشد البراءة في الشعر، ربما لأننا نبحث عما افتقدناه في نثر أيامنا الصعبة، ولكن ماذا يكون الأمر عندما يتمرد الشعر على شروط البراءة؟ ومتى كان الشعر صالحا لبرنامج ما يطلبه الباحثون عن البراءة؟ أليس هذا الجنس الأدبي هو الفن المتعالي على الشروط المسبقة؟ مالنا والتنظير ما دام الماء يكذب الغطاس، ولم لا نذهب الى موضوعنا كما يقدم نفسه؟
ها أنذا أمام مجموعتين شعريتين لا شروط لهما على المتلقي الا ان يتلقاهما، وبعد هذا لكل حادث حديث. اما المجموعة الأولى «ارض الباسيفلورا الحزينة» فهي للجليلي ذي الأربعة والثلاثين عاما، مروان مخول، واما الثانية «حمامة تنقر الصخر»، فهي ايضا لشاعر جليلي لم اطلع من قبل على نتاجه الشعري، انه بكر زواهرة في تجربة لا ينتقص منها أني لم أحط بها من قبل. وان كان ما يجمع بين مروان وبكر اكثر من انهما جليليان يعيشان في الداخل، اذ ان الجامع الاساس بينهما، على ما أرى، هو نأيهما عن البراءة والذهاب عميقا في استبطان العالم المحيط، ومحاولة فهم الوجود وموقعهما منه شكلا ورؤيا..
الباسيفلورا
ليست هذه المرة الأولى التي أقرأ فيها شعرا لمروان، فقد سبق ان كتبت في بدايات هذا العام شيئا، ونشرته في هذه الصفحة الاربعائية حول مجموعته «أبيات نسيتها القصائد معي»، واذكر ان انطباعي تركز يومها على حرصه الدؤوب على المجيء من منطقة الاختلاف.
وها هو يؤكد هذا الانطباع بدءا بعنوان مجموعته الجديدة «ارض الباسيفلورا الحزينة» حيث جمع ما يعيد ذاكرتنا الوطنية الى الشهيد غسان كنفاني ومجموعته القصصية المبكرة «ارض البرتقال الحزين» الى الشغف بالجديد والمختلف حتى لاعترف بأنني لم أعرف ما هي الباسيفلورا هذه، لولا هامش وضعه مروان ليوضح ان الباسيفلورا نبات متسلق، وفاكهي، جلبه الاسرائيلي ليزرعه في تراب البلاد»، وهو ما اعاد الى ذاكرتي ما سمعته من الراحل محمود درويش حول شجر الكينا، الذي وصفه، رحمه الله، بأنه نبات كولونيالي جاءنا مع المستعمر البريطاني.
هكذا تكون الباسيفلورا معادلا موضوعيا لفكرة الاستعمار الاستيطاني، فكما جيء بالغرباء من مختلف اصقاع الارض ليجعلوا من فلسطيننا اسرائيلهم، فقد تم زرع هذه النبتة الغريبة في ارض الجليل على حساب زيتوننا وبرتقالنا وثمارنا واذ لم يستطيعوا نفي الشجر كما فعلوا بالبشر فانهم فرضوا باسيفلوراهم هذه على ترابنا الحزين.
واذا كان هذا شأن النبات، فان الشأن مع الشعر يختلف، حيث يعني مروان مخول بالقصيدة الحديثة من حيث هي موزونة او نثرية او بين بين، حسب الحالة الابداعية التي تملي عليه خطته في ارسال اشعاره الى المتلقي، ليخاطب الحياة والموت معا:
يا موت من بعثك؟
من ذا أزاح الغيم في عز الشتاء،
لكي ترى غربانهم نزلت الى وشك الحياة؟
وهو يوزع شعر مجموعته هذه على غرفتين تضجان بالاسرار والبوح في لحظة جدلية تعبر عن التراجيديا الفلسطينية بلا صراخ أو نديب، وان كان البوح هو لحمتها وسداها..
عروس الجليل
وما دام قد التزم البوح منهجا، فهو شاعر بلا اسرار، واسراره منتشرة في الحواضر الفلسطينية المحتلة، حتى لتغص قصائده بعناوين واشارات الى القدس وحيفا وبيت حانون وغزة وترشيحا. وترشيحا هي كما نعلم، عروس الجليل المتاخمة لصفد، المتطلعة الى عكا، حيث تختزل النكبة الفلسطينية تاريخ الوطن وجغرافيته بين الماضي والمضارع:
قال لي جدي: فلسطين فعل ماض ناقص
قال أبي: بل هي فعل مضارع
اقول وقد ناحت بقربي طيارة: جدي معه حق
وابي كذلك
والشاعر معه حق ايضا، وليس جده وحده، فعروس الجليل بالمعنى التراجيدي تنتسب الى فعل ماض، لكنها بالجدارة الجارحة تظل فعلا حاضرا ومستقبلا لا يعكر وضوحه منظر الطيارة المغيرة، حيث تغيب الفروق امام حقيقة المأساة بما يسمح له بالتصريح: لا فرق بيني وبينك سوى انه لا فرق. اما هذا المستوطن الجديد المجلوب من اثيوبيا - او من اي مكان آخر فلا يعنيه الامر لانه مجلوب بهدف الا يعنيه شيء غير الاستيطان مكان السكان الأصليين:
حدق في وجوه المسافرين
حدق الى ان ملهم
فراح ينظر من النافذة
الى حطام قرية عربية لا تعنيه
ولاننا في حضرة الشعر السياسة، لن ندلي بمطالعة حقوقية حول علاقة هذا الغريب بالقرية المهدومة انه كالباسيفلورا مجلوب من بعيد ولن يكون جزءا من شخصية المكان، الا باعتبار المكان ارضا محتلة، وسكانها الاصليون يعرفون اسم تلك القرية حتى بعد ان غدت حطاما، واذا لم نستطع التحقق منها عبر نافذة القطار، فان نافذة الروح لا تزال مشرعة يتداولها الفلسطينيون، المهجرون منهم والباقون، ويظل السؤال مشهرا في وجه الاحتلال، فيما يبرع هذا الاحتلال بصياغة الخطاب الطارئ على لغة المكان، اما المكان - الجليل فيظل سمعه عصيا على هذا الخطاب الغاصب:
اذني مغارة
تنام على بابها كلمات
لا اريد سماعها
وكيف يسمع ما يخالف الرؤية والرؤيا، وهو الذي حفظ من والديه تلك المقولة العابرة للزمن:
ما ضاع حق وراءه مطالب..
من هذا كله، وهو كل كثير، يملك الشاعر ما لا يحيط به المحتل: ان يجري حوارا مستداما مع الارض والذاكرة حتى لو تعطلت الاسلاك:
الو؟
بيت حانون؟
هل تسمعي؟
اعتقد ان هاتفها تعطل
والمؤسف ليس ان يتعطل الهاتف فقط، بل ان يقع الشاعر في غلطة لغوية ما كان له ان يقع فيها، فيسأل: هل تسمعي؟ مع ان الفعل هو تسمعين لتجرده عن الناصب والجازم، ومن حسن الطالع انها غلطة عابرة في نسيج لغوي هو اقرب الى السلامة، اما التواصل مع بيت حانون ومع مجمل الارض الفلسطينية فهو ما لن يعيقه خلل في خطوط الهاتف، اذ ان الخط الروحي الرابط بين فلسطين واهلها هو ما ابقى القضية ساخنة حتى بعد مرور عقود طويلة على صقيع النكبة، حيث لا نملك الا ادمان الصبر والعناد:
بعد ان سقط الوطن في البئر
صار علينا بعد ستين عاما
أن نرفع الحبل قليلا، ثم نتركه يسقط ثانية
فقط هكذا، يتدرب الامل على الصبر
وبالوصول عند مفترق الامل والصبر، نتأمل هذه الارض الحزينة، واعين ان ما تعانيه مشتق من لهفتنا عليها، ومن هذا الحبل السري الذي يربط فلسطينيا مثلي في السادسة والستين بهذا الشاعر الجليلي الشاب ذي الاربعة والثلاثين ربيعا، لقد كسرنا سطوة المنفى واهتدينا الى كلمة السر، ويقينا ان مثل هذا الشعر جدير بكلمة السر التي ابقت شعبنا على قيد السؤال والعناد و.. الامل.
حمامة تنقر الصخر
اما المجموعة الثانية، حمامة تنقر الصخر، فهي من نتاج الجليلي الآخر، بكر زواهرة، وهي تقترح علينا مزيدا من مد الجسور للتواصل مع الاهل..
وكما هي الصيغة الغالبة على الشعر هذه الايام، فان مجموعة بكر هذه مكتوبة على نسق الشعر الحر النثري بما يحمله ذلك النسق من فرص للتجديد وابتعاد نسبي عما حفلت به قصيدة التفعيلة من متابعات يومية، مع ميل ملحوظ الى المقطع الشعري المركز، حيث تضم هذه المجموعة الصغيرة مئة صفحة مضغوطا فيها زهاء اربعين عنوانا تندرج تحتها تأملات وخواطر ذاتية كأن يقول:
لا انا انا
ولا انت انت
ولا الديار ديار
كل شيء تغير
ومع ان مقدمة المجموعة - التي كتبها سامي مهنا من الداخل - تقول انه «يحيا الوجع الفلسطيني اليومي والعام، ويمزج الألم بالأمل، دون ان يهمل الالتقاء بالحياة يوميا، لتتسع دائرة الشعر السياسي وتحضن الحياة برمتها ..» فانني - أعترف - لم أعثر على خصوصية الوجع الفلسطيني وان لم يكن هذا مأخذاً على الشاعر الذي من حقه ان يضرب في آفاق الشعر كما يريد. والا فأين فلسطين في القصيدة الأولى من المجموعة، وهي تقول:
أعترف لنفسي بأمراض نفسي
لعل من أعمال نفسي طبيباً يداوي نفسي
أشخص الأمراض من ساقي لضرسي
فالهموم الذاتية هي عصب الشعر الذي تتردد فيه مفردة «نفسي» أربع مرات في سطرين فقط، وكذلك هو الأمر في قصيدة الشتاء، آخر قصائد المجموعة، وفيها يبوح:
حين يحين الشتاء
أصاب بغيم الاكتئاب
لتهطل القصيدة
في موسم الملل الطويل
فلنتواضع ونعترف ان هذا ليس شعراً فلسطينياً بالمعنى السياسي، مع ان من حق هذا الشاعر الفلسطيني ان يعبر عن دواخله كيفما يريد وكيفما اتفق. اذ ليست الهوية قيمة اعتبارية بحد ذاتها، على اعتزازنا بفلسطين التي لا وطن لنا سواها.
المسافر في الحياة
على ان الشعر قرين السفر، ان لم يكن ارتحالاً فهو يتم ارتجالاً من خلال التشوُّف الى زمن قادم لم نصل اليه بعد، وعلى هذا تطالعنا قصيدة «مسافر» لا كدعوة الى الرحيل، ولكن مواكبة لجموح الخيال:
أنا مسافر
أركب غيم الخيال
في صحاري الخواء
وأودية الضباب
هكذا يكون الصبح قريباً لا تصيداً للأمل، بل بيقظة الحواس والمشاعر والامساك بالأحلام - ودعونا لا نغض النظر عن غلطة املائية معيبة ما كان لشاعر ان يقع فيها وهو يقول: بعبائته الصفراء، وغني القول ان همزة العباءة على السطر - من غير ان نغفل عن نضارة الطفولة في نشيده الطفولي:
ما زلت في قفص الطفولة
أغرد أحيانا وأبكي
قابضاً على قضبان عيني
والمحير، مع أنه مفهوم بمعنى ما، انه وهو في ريعان الطفولة، يشكو مهب الضياع رغم لهاث السنين، مع ان الوقت لا يزال مبكراً على لهاث السنين في عالم شاعر يعارك حرارة الهجير ومطاردة السراب في قفص الطفولة. ولا غبار على ما يقول ما دام هذا مدى احساسه البكر، اذ يعترف لنا: «لا أسمع. لا أرى، لا أقرأ، ما أعرفه أعرفه هكذا ..»، وهي مشاعر نسبية ما دام في شرك الطفولة حيث «لا تطلبوا من الطفل - أكثر من ابتسامة»، والسؤال: كيف يبتسم وواقعه على هذا النحو الأليم؟.
الا اننا لا ننسى اننا أمام الشعر لا درس الفيزياء، بمعنى ان في قدرة الشاعر ان يحلم وينضب ويرضى، وحتى ان يتناقض أحيانا شريطة ان تكو ن مشاعره مقنعة، وهي على الأرجح الأغلب كذلك .. أليس مسافراً في الحياة؟
اضراب عن الموت
يباغتنا الشعر برشاقة جالساً على ضفة النهر «ليس النيل - ولا دجلة ولا الفرات - على نهر الخيال»، وما دام الأمر كذلك فانه يطرح سؤالاً مشروعاً: «كيف لك ان تموت» او «كيف لي ان أموت» موضحا، بالشعر طبعاً لا بالمنطق، ان على المرء أحيانا ان يختار موته كما يختار حذاء او بنطالاً، وأما هو فانه «أحب ان يبقى جسمي معي في رحلة الفناء» لينتهي الى مفارقة لا تخلو من خفة دم على قتامة سيرة الموت التي تتخللها، فهو يقول: «لا أريد موتا خالياً من الموت»، ولا شك ان هذا المطلب الشعري الشاعري لا يتأتى الا لمن يأخذ الحياة والموت معاً على محمل المجاز، فهو في حالة اضراب عن الموت، وليس الا الشعر ما يستجيب لهذا الطلب الفريد الاستثنائي..
بهذه الروح يتأمل الشاعر روحه ويخاطبها: ما أجمل ان تكون منعزلاً .. ولكن هيهات، فالعزلة غير متاحة لمن لا سلطة عليه، بعد الله، سوى أطياف حبه وأوجاع كرهه، حسبما يقول. ومن يجد نفسه متحرراً من السلطة فلن تكرهه السلطة على مصير لم يختره ..
هكذا تتضح ملامح المشروع الشعري، بالتعالي على الجزئيات والتفاصيل، والذهاب الى الاسئلة المؤرقة التي تؤاخي بين الشعر والفكر، فبكر زواهرة شاعر يفكر، او مفكر يشعر ضمن معادلة تبعد القصيدة عن الغنائية وتتحدى المخيلة ان تذهب الى أبعد مدى في تأمل المدى والوجود، حتى لنتساءل ما اذا كنا أمام شاعر حائر في زمن تكون الحيرة فيه امتيازاً يمدنا بالاسئلة التي لا تنتهي، بحيث نحتاج الى وقفة تأمل مرفق بالاعجاب ونحن نسمعه يهمس:
اذا كنت ذا عقل و تدبير
فسوف تدري كيف تنهزم الهزيمة
ويبقى لنا ان نراهن على هزيمة الهزيمة، ومواصلة الشاعر مشروعه المضرج بالأسئلة ..