طريق الرياحين إلى لوس أنجلوس
جميل ضبابات
بعد ساعات قليلة ستقلع الطائرة من مطار إسرائيلي إلى مطار لوس أنجلوس في الولايات المتحدة، محملة بـ'حلم فلسطيني'.. ريحان أحمر رائحته نفاثة جدا، وأبصال هشة. بالنسبة لوزير الزراعة وليد عساف، يجب ألا تتجاوز الرحلة إلى أي بلد أوروبي أكثر 24 ساعة.
أما هذه الرحلة التي ستبدأ من أطراف طوباس لـلوس انجلوس لنقل الأعشاب الطبية بحاجة إلى 48 ساعة لقطع البحار والمحيطات.
في الأثناء، عاملات وعمال مهرة، وموظف انتدبته وزارة الزراعة، يتابعون بعيون مفتوحة، آلية التعبئة والتغليف.. وبحذر شديد يعملون على متابعة تعليمات، مطابقة للمتطلبات التي تفرضها دول تتشدد في دخول المنتجات الزراعية إلى أراضيها.
يعطي مهندس زراعي، وضع فيه عساف كل ثقته، إشارة (الأوكي).'الآن بالإمكان نقل هذا الصنف من البصل الصيني بزنة 410 كيلوغرامات إلى لوس انجلوس' قال وقد تفصد العرق من جبينه في يوم تشريني دافئ داخل مختبرات التعبئة على أطراف طوباس.
وبانتباه، وضعت أوراق البصل الصيني وهو أغلى الأعشاب الطبية في عبوات.
وتشير قسمات العمال المرتاحة إلى أن التجهيزات تسير وفق التعليمات.
ومن المفترض أن يعطي موظفون أميركان الموافقة ذاتها، ولا يمكن لأي من موظفي وزارة الزراعة المختصين التوقف عن العمل في الأعياد والعطل، ومتابعة أدق التفاصيل المتعلقة بعملية التصدير، وذاته عساف يقول، إن الطواقم لا تتوقف عن العمل لا 'لإضراب ولا لعطل (...) هذا بحاجة لعمل مستمر'.
بدأت القصة عام 2007 عندما بدأ بعض المستثمرين ومنهم الفلسطينيون الذين ملّوا العمل في المستوطنات اليهودية بزراعة الأعشاب الطبية في مناطق شمال الضفة الغربية. هنا، تحديدا على أطراف بلدة طمون الزراعية قرب طوباس يبني موسى دراغمة إمبراطورية الأعشاب الطبية، والرجل الذي عمل نحو 17 سنة في رعاية الأعشاب الطبية للمستوطنات، يزاحم مشغليه اليهود على السوق الذي سيطروا عليه على مدى العقود الطويلة الماضية. وربما منتجات موسى تزاحم منتجات مشغليه السابقين ذاتهم على رفوف متاجر لوس انجلوس الضخمة.
وتظهر زراعة الأعشاب الطبية والتوابل، كواحدة من الزراعات الجديدة في المجتمعات الزراعية الفلسطينية.
من داخل الأنفاق الزراعية الجديدة، التي لم تعتد عليها الأراضي الفلسطينية ظاهرة اقتصادية جديدة، بلغت ذروتها مؤخرا، لكنها على بعد آلاف الأميال تعطي الأعشاب الطبية الهشة، رائحة سياسية. موسى يقول إنه يصدر ذوقا فلسطينيا رفيعا إلى العالم الجديد في بلاد العم سام. 'العالم الذي سيطرت عليه السوق الإسرائيلية'.
ومن دون أن يشرح عساف أي إشارة سياسية لما يحدث على أرض الواقع، يبدو الأمر من العمق هكذا. فالفلسطينيون يزاحمون الإسرائيليين في اقتصاد لم يلتفتوا له من قبل على نطاق واسع، وسيضع الأميركي والأوروبي على مائدة 'أنتج في فلسطين'.
وقد يتساءل المستهلك الغربي أين تقع فلسطين؟ كما قال موسى.
وقد يتساءل أين فلسطين من إسرائيل؟.
واقفا داخل نفق زراعي للريحان الأحمر الذي تغطي رائحته النفاثة على نباتات عطرية أخرى قال دراغمة 'بدأوا يشعرون إننا نزاحمهم في السوق (..) هذه هي اليد التي كانت تزرع وتقطف في المستوطنات. إنها هنا تزرع وتقطف'. وأحكم بقبضته على ضمة صنف جديد من الجرجير الذي سيسوق إلى واحدة من دول الاتحاد السوفيتي السابق.
على صفحته على موقع التواصل الاجتماعي (فيس بوك) وضع عساف ملاحظة عن تصدير أول شحنة من الأعشاب الطبية إلى أوكرانيا. كانت الأعشاب خرجت من هنا، من مزرعة دراغمة الذي عينه على لوس انجلوس الآن، وهو يرد أن يتناول زبون من هذه الأعشاب في مطعم بشارع برودوي في نيويورك.
أوكرانيا كانت مسرحا للمنتجين الإسرائيليين، لكن المهندس الزراعي مجدي عودة وهو مدير لزراعة طوباس يقول إن الفلسطينيين دخلوها الآن 'دخلنا إلى أسواق جديدة بفعل الخبرات البشرية الكبيرة والتزام المزارعين بالمواصفات. حتى ايطاليا الأولى عالميا نستطيع منافستها'.
لماذا لا؟ فموسى ذاته كان يقوم بالعمل لدى مشغلين يهود من الألف إلى الياء وأوكرانيا' بالنسبة لي صفقة العمر'. كان الرجل وصل إلى أوكرانيا ونقل عدة عينات، والآن ينقل أطنانا من الأعشاب وهذا رقم ضخم.
متنقلا عبر أنفاق بلاستيكية محكمة الإغلاق، يقول موسى إنه يزرع 22 صنفا من الأعشاب في نحو 140 دونما. وتقول إحصائية رسمية لوزارة الزراعة إن هناك نحو 500 دونم في المنطقة، لم تكن موجودة قبل عام 2007.
من أعلى تلة قريبة على مشارف طمون الحارة صيفا يمكن مشاهدة الأنفاق والبيوت البلاستيكية تغطي أفق البلدة من أكثر من ناحية.
لقد توسعت الزراعة بشكل كبير كما يقول عساف.
لكن الروائح الزكية هنا هي الأقوى.
بذكاء مزارع خبير، يتشمم موسى رياح التغيير في الأسواق في أوروبا والولايات المتحدة' بدأنا بتغيير اتجاهنا بعد أن خسرت الزراعات الكلاسيكية كثيرا'. يردد المعنى ذاته وزير الزراعة. ولكي يكون مطمئنا للشروط التي تستوفي متطلبات التغيير يحكم موسى وعماله وعاملاته أبواب الأنفاق خلفهم بإحكام.
يتأكد تماما أنه لن يترك وراءه أي مجال لحشرة للدخول، قد تزعج خبراء الأغذية في الولايات المتحدة. هكذا يشد بكلتا كفيه دفتي الباب، وفي الداخل تعمل عاملتان على جز الرؤوس النامية لأعشاب التارجون ويضعنها داخل صناديق. وثمة 100 عامل يشتغلون لدى موسى.
ويساعد الجو الدافئ غير المعتاد هذه الأيام الأعشاب على النمو بسرعة.. وتفور روائح قوية كلما فتحت أبواب الأنفاق وأغلقت، لذلك يظهر العمال يستخدمون أجهزة إرسال للتواصل السريع والأكيد، فكل شيء يعمل بالدقة. حتى انسياب المياه الخفيف في الأنفاق.
بالنسبة لموسى ولوزير الزراعة والكوادر الأخرى، هذه هي روائح ' النصر'. فدخول الأسواق العالمية يعني ترسيخ وجود فلسطين ولو كان رمزا على عبوة جرير توضع في مطبخ بنواحي لوس انجلوس. ' هناك مزاج إيجابي جيد' كل شيء مكننا من دخول الأسواق العالمية. نعمل ضمن المعايير الأوروبية والأميركية المشددة وهناك ضمان بالربح' قال عساف.
ورغم أن الفلسطينيين لا يستطيعون اللحاق بالكيبوتسات الزراعية الاستعمارية التي تتوسع بالزراعة بشكل مضطرد، إلا أنهم يقولون إنهم تفوقوا عليهم من حيث الجودة. على بعد عدة كيلومترات، يعمل عمال في مستوطنة 'ميحولا' وهي واحد من أكبر التجمعات التي تقيم اقتصادا قويا على زارعة الأعشاب الطبية.
ذاته موسى اكتسب خبرته في بداية حياته هناك.
والرجل الذي كان يعتاش من العمل في المستوطنات، يستطيع الآن المواجهة في معركة ساحتها الغرب. ' صحيح أنهم يعرفون كيف يقتحمون الأسواق العالمية. لكننا الآن أيضا بتنا على خارطة أعشاب العالم(...) نحن موجودون أيضا'.
جالسا داخل غرفة فيها مقاعد وثيرة وموصولة بشبكة الانترنت يمكن لموسى وزواره أن يشاهدوا كيف يجهز الريحان وينقل إلى أصقاع العالم، موسوما بفلسطين' في البداية كانت الطريق صعبة. لم تكن مفروشة بالرياحين. الآن نصدر 22 صنفا من الأعشاب. قال الرجل، فيما كانت الصناديق تجهز للنقل إلى المطار.