مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم    شهيد و3 جرحى في قصف الاحتلال وسط بيروت    أبو ردينة: نحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مجازر غزة وبيت لاهيا    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 43,846 والإصابات إلى 103,740 منذ بدء العدوان    الاحتلال يحكم بالسجن وغرامة مالية بحق الزميلة رشا حرز الله    اللجنة الاستشارية للأونروا تبدأ أعمالها غدا وسط تحذيرات دولية من مخاطر تشريعات الاحتلال    الاحتلال ينذر بإخلاء 15 بلدة في جنوب لبنان    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات  

شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات

الآن

في البحث عن اصول المحاولة الاولى.. على طريق الشعر..- احمد دحبور


هل استطيع ان استجمع شتات محاولاتي وبحثي في المشروع الشعري؟ سؤال صعب.. ولكن لم لا احاول؟
 قصة القصيدة الاولى
 كان عمري خمسة عشر عاما، حين اقتادني صديقي جورج معتوق الى جريدة حمص، وهذه الجريدة التاريخية الناطقة باسم طائفة الروم الارثوذكس، كانت ولعلها لا تزال تقيم مكتبها في حي بستان الديوان الشهير في المدينة. يومها تجاسرت وتركت قصيدة بعنوان «همسات» في مكتب الجريدة، وزينتها باهداء مني الى الشاعر موريس قبق.
يومها رضي الاستاذ اديب ملحم البستاني، رئيس التحرير، عن القصيدة، وهكذا اتيح لها ان ترى النور يوم الخميس 29/9/1961. اما كيف اتفق لي اني ما زلت احفظ التاريخ، بعدما يزيد على نصف قرن، فلأن ثمة علامات ساعدتني في ذلك. فالجريدة اسبوعية وتصدر كل خميس، وكان اليوم السابق لصدورها هو 28/9/1961، اي يوم وقوع الانفصال بين سورية ومصر.
وقد دهش الاستاذ البستاني، يوم جئته اطلب نسخة من الجريدة، وحسب في البداية انني ابن احمد دحبور صاحب قصيدة همسات. واسرّ لي بعد ذلك انه اتصل هاتفيا بالاستاذ موريس يسأله عني، فأعطاه ابو ادونيس شهادة طيبة بي، مؤكدا رهانه على مستقبل واعد لي. وقد نشأت علاقة جيدة بعد ذلك بيني وبين جريدة حمص التي شهدت بداياتي، مع انني تجرأت في العام التالي، وارسلت قصيدة الى مجلة «الآداب» البيروتية التي كانت سيدة الصحافة الادبية في تلك الفترة، وقد ظهرت قصيدتي تلك، وعنوانها «صليب الآب» في الصفحة الثانية والاربعين من احد اعداد المجلة للعام 1962.. وبعد اعوام، حين اتيح لي الاجتماع الى صاحب الآداب د. سهيل ادريس رحمه الله، ربت على كتفي مرددا جملته التي لن انساها ما حييت: الديك الفصيح من البيضة بصيح..
فهل كنت ديكا فصيحا، ام ان قدري ان اواصل المحاولة باعتبار ان الشاعر يشيخ وهو باق في مرحلة الحلم والمحاولة؟
 فاتني ان اشير الى ان المرحوم الشاعر موريس قبق، لم يتحمس لاهدائي القصيدة اليه، على سعادته بذلك حسب قوله، ولكنه خشي ان يكون الاهداء نوعا من التوسط الذي لم اكن في رأيه محتاجا اليه، بل انه حين اهداني نسخة من ديوانه «الحب واللاهوت» لم ينس ان يكتب على صفحته الاولى: اياك ان تنسى، ان موهبتك وحدها، هي تذكرة الدخول الى ملكوت الشعر الحق..
لقد مرت سنوات طويلة على ذلك التاريخ، ولا يزال موريس معلمي ودليلي، لا في اختيار الشعر الصعب وحسب، بل في هم الحياة والتعامل معها.. رحمه الله، وحين اهديته مجموعتي الشعرية «هكذا» الصادرة عن دار الآداب، تساءل عن سبب الاهداء الذي اعتبره جريئا، باعتبار ان موريس متوقف عن الشعر وليس حاضرا في الصحافة، فقلت له: ولكنك لن تغير حقيقة انك معلمي، وانني مدين لك ببعض روحي.. رحمه الله.
على انني كثيرا ما تساءلت فيما بعد، عما اذا كانت «همسات» هي قصيدتي الاولى، لانني كنت اشعر باستمرار، وكلما انجزت قصيدة ذات طموح فني، ان تلك القصيدة هي الاولى في مشروعي الطموح الجسور.
لقد استخدمت صفة «الجسور» عامدا، لان الفتى الذي كنته، كثيرا ما كان «يتطاول» فيفكر في النشر على صفحات كبريات الصحف والمجلات، واذكر يوم ارسلت قصيدة الى مجلة الآداب اول مرة - وكان ذلك عام 1962 - انني خشيت من بعض دهاقنة الادب ان يتهموني بالادعاء والطمع، ومع ذلك فما كنت لانكر «طمعي» في ان ارى اسمي منشورا في مجلة «الآداب».
كان ذلك في الشهر الخامس من العام 1962، وفي تلك الفترة كانت المجلة الادبية الاكثر شهرة، تفتك ببعض الشعراء الذين يرسلون اليها قصائدهم، فتدرج اعمالهم في صفحة البريد، فكيف اذهب الى مجلة كانت متمنعة على شعراء كانوا في مقام اساتذتي المدرسين؟
 ولكنني حاولت مع ذلك، وشعرت كأني اغافل اولئك الاساتذة، فأرسل قصيدة الى الآداب، وكانت المجلة كما هو معروف تتبنى مشروع الشعر الحديث بأشكاله كافة ما عدا قصيدة النثر. اما القصيدة التي ارسلتها فكانت مكتوبة على نسق الشعر البيتي، اي القائمة قصائده على نظام البيت الشعري الذي ثارت عليه مدرسة الآداب. وان كنت قد ركبت مركبا اكبر من وعيي الثقافي آنذاك. اذ صحيح ان القصيدة التي ارسلتها كانت بيتية، ولكنها كانت تستخدم الرموز المسيحية، حتى ان عنوانها كان «صليب الآب». وفي هذا بعض الجرأة التي ما كان ليعيها في السادسة عشرة من العمر، اذ ان الآب في الثقافة المسيحية هو الخالق المطلق فكيف لي ان اضعه على الصليب؟ ومع ذلك فقد فوجئت بظهور القصيدة على الصفحة الثانية والاربعين من العدد الخامس - شهر مايو ايار - للعام 1962، فتناولت عدد المجلة وانا مذهول بالمفاجأة السعيدة التي اعقبها نقد شديد من بعض الاصدقاء بتهمة الغموض والذهنية وما لا اذكر من ملاحظات سلبية. وكان مصطفى خضر، صديقي الشاعر الذي يكبرني بعامين، من اشد الاصدقاء وطأة في نقده وملاحظاته. ومصطفى - للامانة التاريخية - كان يسبق عمره ويجاوز الفهم الادبي السائد في مدينة حمص حيث كنا نعيش. وكان متطلبا في ملاحظاته النقدية حيث لا تدخل القصيدة - في رأيه - منطقة الشعر الا وفق شروط صعبة حازمة. وقد قام بدوره بمغامرة لا تقل عن مغامرتي في مراسلة الآداب، اذ ارسل قصيدة الى مجلة «حوار» التي كان يديرها الشاعر الفلسطيني توفيق صايغ، ونشرت «حوار» قصيدة مصطفى، لكن المراهق الذي كنته، لا ينام على ضيم، فقد بلغ بي التطاول حد ان ارسلت بدوري قصيدة الى حوار وانا شبه يائس من ان هذه المجلة الصعبة سوف تستجيب فتنشر لي.
وكانت المفاجأة انني تلقيت رسالة مطبوعة من توفيق صايغ شخصيا، يقول فيها انه واثق من ان لي صوتي الخاص، ولكن في القصيدة التي ارسلتها تأثرا بشاعر عربي معروف، والطريف انني كنت اعي تأثري الكبير بالشاعر خليل حاوي، وكنت - حسب وعيي يومذاك - اعتبر ذلك امتيازا، اذ يضع اسمي، ولو من موقع التلميذ، الى جانب اسم الشاعر الذي كنت انظر اليه كأسطورة.. خليل حاوي، فأرسلت قصيدة ثانية الى «حوار» مرفقة برسالة تفيد بأنني اعي مقدار تأثري بالشاعر الكبير وآمل ان تكون محاولتي هذه افضل من الاولى.
لم يتأثر رد توفيق صايغ على قصيدتي الجديدة، فقد كتب لي انه يوافق على نشر القصيدة، ويطلب ان اعطيه شذرة عن حياتي ليشير اليها مع نشر القصيدة حسب التقليد المتبع في مجلة حوار.
لم اتأخر ولم اتردد في اخبار توفيق صايغ في انني فتى في السادسة عشرة من عمري، وانني لاجئ فلسطيني، ولم يتردد بدوره في نشر القصيدة مع معلومة صغيرة تفيد بأن صاحبها شاب في مقتبل العمر وهو من لاجئي فلسطين.
طار عقلي من السعادة وصرت ادوّن الرسائل الى توفيق صايغ، وكان يجيبني دائما اجابات مختصرة لا تتجاوز الواحدة منها بضعة اسطر، وفي عام 1964 نشرت لي دار الاندلس - وهي مطبعة محلية في حمص - مجموعتي الاولى «الضواري وعيون الاطفال» وغني عن القول ان النسخة الاولى من المجموعة اهديتها الى «معلمي الاول.. الشاعر موريس قبق، اما النسخة الثانية فأرسلتها الى توفيق صايغ، وكان قد قال في قصيدته الشهيرة «معلقة توفيق صايغ» ان زهور بلاده تنفر منه، لان السدنة علموا هذه الزهور ان تلمس في انفه شذوذ الشميم. ولقد كتبت على النسخة المهداة من كتابي اليه ما يلي حرفيا:
اما انا، فلقد عشت في زمان توفيق صايغ، وكان شاعرا عظيما، وشاعرا عظيما حقا.. وكانت المفاجأة اكبر بكثير مما توقعت، فقد اجابني بجملة واحدة مكثفة: احمد، لقد ابكيتني.. بقي ان اشير الى ان مجلة حوار، كانت ملعونة منبوذة في الاعراف الادبية العربية التقليدية، لارتباطها بالمؤسسة العالمية للثقافة التي لها فروع في عواصم عديدة بينها تل ابيب، وكان صايغ يرد على الهجمات المتوالية بأن المجلة موجودة، وعلى مهاجميها ان يناقشوا ما هو فيها لا ما يشاع عنها، والحق انه نشر فيها مقالات صدامية تواجه المشروع الصهيوني، بينها مقالة لشقيقه الاكبر د. فايز صايغ بعنوان «فلسطين: وثيقتان بريطانيتان سريتان» وقد ازعجت تلك المقالة كثيرا من الدوائر الاستعمارية البريطانية وتلقت ردودا عنيفة، بينها ردّ موقع باسم مسّ بوندي يتضمن حملة على صايغ وعلى الخطاب العربي بشكل عام. والى ذلك نشرت حوار مقالات ادبية وفكرية ذات خط تحرري عربي بأقلام معروفة: د. انيس صايغ، ومحيي الدين محمد، ود. غنيمي هلال، وغيرهم..
ليس هذا دفاعا عن مجلة حوار بأي حال، ولكنني - اعترف - بأنني كنت حائرا في امر هذه المجلة التي لم اقرأ فيها ما يجافي الحق العربي في فلسطين، الى ان فاجأنا توفيق صايغ باعلان مثير يقول انه اكتشف دورا خارجيا يراد منه فرض خط مختلف للمجلة، وانه لا يوافق على ذلك ولهذا رفع يده عن المجلة، وناشد العرب ان يدعموه ليواصل اصدار «حوار» حسب النهج الذي اتبعه هو.. لكن احدا لم يستجب لتلك الدعوة، فانسحب من الحياة الثقافية، حتى تم العثور عليه جثة هامدة في مصعد بنيويورك، وقد دهمته نوبة قلبية مميتة.
كتب يومها جبرا ابراهيم جبرا، صديق عمر توفيق صايغ، ان توفيقا رفع نداء الى يسوع في ختام معلقة توفيق صايغ، يقول: «اعني اعنّي» ولما لم يستجب له احد فقد رأى الانسحاب الى الموت.. وهذا ما كان.
اما انا فقد ظل اثر هذا الشاعر المنكود واضحا في كثير من نتاجي، وكنت ولا ازال ارى فيه تركيبا فريدا من شخصية فلسطينية مسيحية اوديبية.. الامر الذي يستحق دراسة ممتعنة شاملة، وقد كتب هذه الدراسة الناقد الفلسطيني محمود شريح ووضعها في كتاب شيق بعنوان «توفيق صايغ.. سيرة شاعر ومنفى».
 ***
اما احلامي البريئة المشروعة في الانتشار فقد شهدت هدوءا وتريثا منذ اواسط الستينيات لانني كنت ابحث عن صوتي، فأكتب وامزق او اكتفي بالمشاركات المتواضعة في بعض الاماسي الشعرية، حتى ان صديقي مصطفى قد سألني ذات يوم ما اذا كنت تقاعدت قبل ان ابدأ.
وبقيت في تلك الحالة من التريث الغامض، حتى اصبنا بزلزال هزيمة 1967.. في تلك الفترة الاليمة لم افقد التوازن ولكنني كمعظم ابناء جيلي، كنت اكثر من الشكوى والتفجع في تجاربي الشعرية الى ان وجدتني اخاطب مجلة الآداب من جديد، فأرسل اليها بقصيدة عنوانها «الخيّال والجواد المحتضر» فظهرت القصيدة في المجلة فورا، وكان للآداب صفحة متميزة بعنوان «قرأت العدد الماضي من الآداب» حيث تعهد المجلة لاحد النقاد الثقات بمراجعة النصوص المنشورة ونقدها، مع حق صاحب النص في الرد ان اراد.
النقد الاول
 وقد انتظرت يومها، على أجر من الجمر كما يقال، رأي ناقد الآداب في قصيدتي، وكان الكاتب المصري شوقي خميس هو الناقد لذلك العدد الذي فيه قصيدتي، فقال بواقعيته الصارمة ان قصيدتي ذاتية مع ان محورها قضية عامة، ذلك ان القصيدة يائسة تصدر عن صوت مكسور، والانكسار يشكل حالة نكوص فيما يتطلب الشعر الحضاري كثيرا من الامل والثقة بالنفس، ووجدتني استجيب لذلك النقد الذي لم يكن في صالح قصيدتي، ولكنه ارشدني بطريقة ما الى ان الثقة لا تعني التفاؤل الساذج، وان الانتماء هو الرافعة من حالة اليأس والخذلان.
ولقد كان على الفتى ابن الحادية والعشرين من العمر، ان يفهم ذلك النقد فهما ايجابيا، وبطبيعة الحال كنت اجد في انبثاق المقاومة الفلسطينية تلك الرافعة المطلوبة للامل، وظهر اثر ذلك في نتاجي اللاحق، ولا سيما في قصيدتي «حكاية الولد الفلسطيني» التي سرعان ما تحولت الى مجموعة شعرية تحمل صوتي الجديد، حتى وجدتني واحدا من جيل فلسطيني يبشر بالثورة، لا حسب الدلالة السياسية الضيقة، بل بمعنى القاطرة التي تحمل مشروع الحلم والتغيير على مختلف المستويات..
والآن حين اتناول هذه المحطات التي مررت بها تلقائيا، اراني تعلمت الكثير من الكثيرين.. منذ ملاحظات موريس قبق المبكرة، الى متطلبات مصطفى خضر الثقافية، الى نقاد مجلة الآداب وغيرها ممن علموني ان العملية الابداعية مجافية للطمأنينة، حيث يستحيل ان استريح الى صيغة نهائية، بل انني محكوم بمواصلة البحث والاسئلة، وما ان اصل الى محطة حتى اعي ان ما هو امامي ابعد واصعب..
لقد تساءلت في مقدمة ديواني: هل يستحق الشاعر هذا كله؟.. واجابتني التجربة ان المشروع الشعري هو متوالية من الاستحقاقات التي لا تنتهي، ولا املك الا ان احاول.. واواصل؟ الى اين؟ هذا هو السؤال..

 
 

za

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024