احمد عبد الرحمن: عشت في زمن عرفات..- احمد دحبور
ربما كان احمد عبد الرحمن من احق الشهود في كتابة السيرة العرفاتية، ذلك ان هذا الرجل قد ارتبط بقائد الشعب ارتباطا مصيريا، حتى كاد يستشهد الى جانبه في غير معركة من معارك القرار الوطني المستقل، ولم يكن ذلك ضربا من التخريب السياسي، بقدر ما هو اختيار وجودي وطني مصيري، ومن يعرف احمد عن كثب يدرك دلالة هذه الاشارات.
فهو - في احد مستويات وعيه - من الجيل الذي سحرته الوجودية من غير ان تزيح ثباته على الموقف الوطني الفتحاوي، وهو - لمن لا يعرف - ليس مجرد كادر متقدم في الثورة الفلسطينية، اذ انه يعي خطورة الفكر المتطابق مع الممارسة الميدانية.. واحمد عبد الرحمن المولود في بيت سوريك من اعمال القدس عام 1943، هو الذي عرف الساحات العربية المختلفة من الاردن الى سورية الى لبنان وغيرها من الاقطار العربية التي زارها او مر بها خلال تجربته الوطنية المركبة.
واذا كان لي من شهادة شخصية، فقد عملت الى جانبه وبأمرته عام 1971 عندما كان مديرا لاذاعة الثورة الفلسطينية في درعا - جنوب سورية، ولعل زملائي الذين شاركوني تلك التجربة، يذكرون الحضور اللافت لابي يزن في الاوساط الشعبية هناك، وهو حضور كان ثمنه ان نكون باستمرار تحت انظار الضابط السوري، الرائد نديم، الذي كان يتوجس من نشاط احمد عبد الرحمن والشعبية العفوية التي اكتسبها من العلاقة السليمة مع اهل البلد.
انها مناسبة لاشير الى ان احمد عبد الرحمن، الذي تخرج من جامعة دمشق، كان من جيل اطلقت عليه اسم جيل جوستين، نسبة الى رواية الكاتب الايرلندي الشهير لورنس داريل، وقد فتنت هذه الرواية في حين صدور ترجمتها بقلم د. سلمى الخضراء الجيوسي اوساطا واسعة من المثقفين العرب الذين ما كانوا ليمروا مرور الكرام على الاحداث والوقائع النوعية التي تشمل الوطن العربي فهو جيل مؤرق لا يكف عن طرح الاسئلة وعن الاختيارات الصعبة بعد ذلك..
شهادة شخصية
اول ما يلفت في كتاب احمد عبد الرحمن «عشت في زمن عرفات» انه شهادة شخصية في المقام الاول، بمعنى انه سجل ما رأى وسمع وشارك، على الا يغيب عنا انها شهادة شخصية عن حقبة نوعية من تاريخنا الوطني المعاصر، فهو منذ البداية يسجل سيرة اندراجه في التجربة الوطنية الفلسطينية من خلال الاذاعة.
كانت مصر عبد الناصر توفر لنا وقتا يوميا في خطها الاذاعي، تحت اسم اذاعة الثورة الفلسطينية، وكان الراحل الكبير فؤاد ياسين مديرا لهذه الاذاعة التي كانت تتمتع بهامش كبير من الحرية. ومن العاملين مع الاستاذ فؤاد كان هناك الطيب عبد الرحيم وعبد الله حجازي وخالد مسمار وعبد الشكور ويحيى رباح وزياد عبد الفتاح، ثم انضم اليهم نبيل عمرو ورسمي ابو علي وحمدان بدر وعزمي خميس ومكرم يونس، وقد نجحت هذه الاذاعة بوقتها المحدود (ساعة يوميا وان كان ابو يزن يقول انه نصف ساعة فقط) في شد انتباه الفلسطينيين على امتداد ساحات اللجوء، ثم انها اضافت الى تعليقاتها المطلوبة برنامجا باللغة العبرية كان يقوم عليه حمدان بدر ومكرم يونس بحكم اجادتهما هذه اللغة.
ويذكر احمد عبد الرحمن انه تعرف في هذه الفترة على الشاعر معين بسيسو الذي قدمه بدوره الى عدد من كبار المثقفين المصريين امثال لطفي الخولي وطاهر عبد الحكيم وعبد المنعم القصاص وغيرهم.
وفي الاذاعة ومناخها الفلسطيني عرف الشهيد ابا اياد الذي كلفه بمهام عرف من خلالها مزيدا من الشخصيات القيادية في فتح، مثل بشير المغربي الذي لم يكن الا الأخ ابا اللطف.. ولان هذه المراجعة لا تتسع لمجمل التفاصيل الثرية التي يضمها هذا الكتاب، فإني اعترف بأن طموحي ازاءه لا يتعدى محاولة اعطاء فكرة عنه. وهكذا سأقفز في الزمن الى مرحلة ما بعد لقاء احمد عبد الرحمن بالاخ ابي عمار الذي اتاح له موضوعيا جولة استثنائية بين الشخصيات العربية والعواصم العالمية، ولا سيما الاوروبية منها.
وسيذكر احمد ابو يزن بكثير من السعادة والفخر الجمعي كيف استطاعت كوكبة من الاعلاميين الفلسطينيين ان تحدث تلك الضجة الاعلامية النادرة، من خلال الوقت المحدود المتاح لاذاعة الثورة الفلسطينية التي بدأت باسم صوت العاصفة، حتى ان المرحوم ابراهيم بكر، الذي كان ناطقا باسم المقاومة الفلسطينية قد تساءل ذات يوم: اهذه اذاعة ام رئاسة اركان؟
مرحلة درعا
ومن الطبيعي، لاسباب بشرية صرفة، ان تكون الاشارة الى تجربة ابي يزن في درعا، هي اقرب فصول الكتاب الى نفسي بوصفي احد شهودها، وعموما تتميز تلك الفترة - 1970، وما بعد - بازدحام الاحداث والمناسبات، من مقتل رئيس الوزراء الاردني وصفي التل، الى المؤتمر الثالث لحركة فتح، الى بروز شخصية الشهيد ماجد ابي شرار الذي كان مدرسة في الواقعية السياسية، وفي هذه الفترة ايضا فاز الشهيد كمال عدوان بعضوية اللجنة المركزية لحركة فتح، وكذلك ابو صالح، واصبح للعلاقة الفلسطينية ايقاع مختلف بعد ان انتقلت القيادة الفلسطينية الى سورية ولبنان، وهي المرحلة التي شهدت خروجنا النهائي من الاردن..
في هذه الفترة اصبح للاذاعة الفلسطينية المنشأة في درعا دور خاص، لقرب درعا من الاردن اضافة الى ضرورة مراعاة اننا في سورية التي بات يحكمها نظام جديد بقيادة حافظ الاسد، وفي هذه الفترة تحديدا اصبح احمد عبد الرحمن اكثر قربا من الاخ ابي عمار بعد ان اصبح الاخير يركز على ضرورة احتضان شخصية اعلامية ملتزمة تعبر بدقة عن الخطاب الفلسطيني، ولكن احمد ذهب بعيدا في بعض الاحيان بالتعبير عما يجيش في صدور الفلسطينيين حتى لو كان ذلك خارج التعليمات الرسمية احيانا!!
من ذلك رد الاذاعة من درعا على بعض مواقف الرئيس سليمان فرنجية، ثم بعض الانتقاد لبعض المواقف السورية الرسمية من منظمة التحرير، اضافة الى مواصلة الاشتباك مع الخط الاردني الرسمي. وغني عن القول ان هذه الجرأة الاعلامية قد تسببت لاحمد ببعض المتاعب كتعرضه للاعتقال في سورية وفي هذه الفترة ايضا، امكن للمنظمة ان تجهر باستقلالية عن السياسة الاردنية، مع ان المملكة تضم جغرافيا اراضي الضفة الغربية وتمنح ابناءها جوازات اردنية.
يذكر ان سورية كانت مترددة في تأييد المنظمة بشأن الاردن مع انها كانت تستضيف قطاعات واسعة من الفلسطينيين، وللتاريخ كان موقف ابي عمار ينطلق من فتح آفاق فلسطينية جديدة مما قد يغضب - او يحرج على الاقل - بعض الانظمة العربية، وكانت الكوادر الفلسطينية وفي طليعتها احمد عبد الرحمن توافق هذا الخط وتدعو اليه جهارا. حتى اذا وقع العدوان الصهيوني على الثورة في لبنان وردت عليه المقاومة حتى اطلقت على ما يحدث اسم الحرب الرابعة، مما دعم الحضور الفلسطيني الطالع بزخم قوي عربيا ودوليا. ومع ذلك نجح العدوان في اخراج الفلسطينيين من لبنان، وكان ثمة خيبة امل فلسطينية صامتة من الخذلان السوري الرسمي، وعلق ابو عمار بألم: حين تغرق السفينة يبحث كل فرد عن مصيره الشخصي..
وتتابعت الاحداث الدراماتيكية، من استشهاد ماجد ابي شرار، الى اغتيال بشير الجميل، الى مجزرة صبرا وشاتيلا ليقع سفر الخروج على رأس الفلسطينيين الذين وجدوا انفسهم في تونس.
وقائع درامية
لعل الواقعة الاكثر تأثيرا، كانت زيارة السادات الى تل ابيب، ورزانة ابي عمار في الرد على ذلك، فقد اعلن رفضه الصريح للزيارة، وترتب على ذلك قطيعة مع القاهرة، الا انه مع ذلك لم يقطع الخطوة كلها، لوعيه الحذر لطبيعة الوضع السياسي العربي وغياب الهوامش امام فتح في ظل أنظمة عربية لها حساباتها الخاصة، حتى ان النظامين العراقي والسوري كادا يطبقان على السياسة الفلسطينية حيث لا مصر ولا سند حقيقيا، اما على المستوى الداخلي فقد اغتال العدو ابا حسن سلامة الذي كان يعتمد عليه ابو عمار ثم استشهاد القائد سعد صايل في البقاع اللبناني فخسرت الثورة قائدا عسكريا حاسما وكبيرا.
وزاد الطين بلة ان وقع الانشقاق البغيض في فتح، وبعيدا عن كتاب احمد عبد الرحمن نستطيع تقدير خطورة الدور السوري في هذا الفصل من مسيرة الثورة الفلسطينية، الا ان القارئ المتمعن يقرأ ما بين السطور ويتفهم خبطة ابي عمار الدراماتيكية عندما فاجأ العالم بزيارة مصر، وهو الامر الذي كان لا يتخيله حافظ الاسد الا في الاحلام والكوابيس. اما في صفوف فتح فقد احدثت الزيارة ارتباكا واضطرابا كادا يحدثان انشقاقا جديدا لولا فطنة القائد ووطنية اللجنة المركزية، مع الاخذ بالاعتبار ان المخاطر التي احاطت بالثورة قد الزمت الجميع بضبط النفس والتعامل بموضوعية وحذر مع كل ما يستجد، ولا سيما بعد استشهاد فهد القواسمة ثم تعرض الثورة لهجمة مفاجئة من قوات حركة امل، ولا يخفى على احد ان الاصابع السورية كانت واضحة البصمات في هذا كله.
بعد هذا يبدأ الفصل التونسي في هذه الحقبة، ولا شك ان موقف الرئيس بورقيبة ومعه الشعب التونسي الذي استضاف الثورة، كان موقفا تاريخيا مجيدا، مع ان المتاعب لاحقتنا الى هناك، حيث تعرض مقر ابي عمار في تونس لعملية قصف مريعة في وضح النهار ونجا القائد بمصادفة اشبه بالاعجوبة.
وفي خضم هذا الحصار والتضييق وانسداد الافق، انطلقت الانتفاضة الشعبية لتكسر الطوق وتعلن الاستقلال، ومن المفارقات الايجابية ان النظام السوري لم يعط للجبهة الشعبية اي هامش مما اضطرها الى الخروج مما كان يسمى جبهة الانقاذ والعودة الى مكانها الطبيعي في الصف الوطني «وليس اقدر من ابو عمار على احتضان رفاق السلاح، فالوحدة هي الاساس، وداخل اطار الوحدة نتفق او نختلف على الموقف السياسي».
وهكذا اصبح الجو ممهدا لعقد مجلس وطني جديد، ما اتاح لابي عمار مزيدا من القوة والحركة حيث كان لا يكف عن تقديم المفاجآت التي تذهل العدو والصديق على حد سواء.
الطامة الكبرى
كان هذا التعبير، الطامة الكبرى من اهم المصطلحات التي اهتدى اليها احمد عبد الرحمن في تشخيص التدخل العراقي في الكويت. فقد كان العراق هو النصير الباقي لعرفات بعد فعلة السادات والانشقاق الذي تدعمه سورية وليبيا، ومع ذلك فلم يكن ممكنا ان يوافق ابو عمار على تلك الخطوة الخرقاء من نصير غريب الاطوار مثل صدام.
لقد رفض ابو عمار فكرة احتلال الكويت، ومع ذلك لم يسلم ولم يسلم الفلسطينيون بعامة من رد فعل السعودية ودول الخليج التي شملت ابا عمار ضمن ما سمي بالحلف المضاد، وتلك من اكثر اللحظات العصيبة التي عصفت بالرجل وكادت تعصف بثورته، وحتى يكمل النقل بالزعرور نجح المجنون صبري البنا بتدبير عملية اغتيال مركبة طالت كلا من ابي اياد وابي الهول وابي محمد العمري. لكن ابا عمار المغرم بتشبيه الثورة بطائر الفينيق، تمكن اخيرا من اخراج طائر الفينيق الفلسطيني حيا من تلك المحرقة التي كانت تنذر بالغاء المشروع الوطني من اساسه. فقد كان يعي بذكائه الوقاد ان الاسد، غريمه التاريخي، صار مصنفا على يمينه وليس في امكانه ان يزايد على الثورة التي رفضت العدوان الامريكي على العراق فيما كانت قوات الاسد نفسه في حفر الباطن. وفي هذا الوضع الجديد من الذي سيزايد على ابي عمار اذا حضر مؤتمر مدريد.
وفي هذا الوضع، ايضا وايضا، ضاعت طائرة ابي عمار في صحراء ليبيا، وكاد يقضي شهيدا لولا ارادة الحياة وعناد طائر الفينيق العصي على الاحتراق. «وقد حظي ابو عمار بتعاطف جماهيري واسع بعد حادثة الطائرة، واذا اضاف اليها زيارة التحدي الى بغدا د ولقاء صدام حسين فإن صورته امام شعبه تبقى في مكانها الصحيح».
ومع ذلك لم تنته المفاجآت فقد اتضح ان احد العاملين القدماء في المنظمة، عدنان ياسين، قد ضبط متلبسا بالعمل مع العدو الصهيوني، ما اثار شكوكا في ان يكون لعدنان هذا علاقة باستشهاد عاطف بسيسو، واذا كانت هذه الجريمة قد تمت بتعاون من اختراق داخلي، فهل يأمن ابو عمار على نفسه بعد ذلك من عدو لا يخفي محاولاته الدائبة للتخلص منه؟
لقاء الوطن
تموز 1994، او تاريخ الوصول الى مشارف الوطن. وحين تنفس ابو عمار هواء غزة في ذلك التاريخ بعد غياب طويل، انتفت مسوّغات البقاء بعيدا عن الديار. اما احمد فيستعير عبارة لبوريس يلتسين، الزعيم الروسي، تعبيرا عن واقع الحال: هذا اليوم الاخير من الماضي..
كانت نقطة وصول احمد هي اريحا، اقدم مدينة في التاريخ، ومنها دلف الى بيت سوريك، مسقط رأسه، ومع ذلك كان يشعر بنقصان ما.. فهل هذه هي العودة؟
من اولها، كانت المشكلات تنتظر، فالعدو قام باغتيال القائد الحمساوي يحيى عياش. ولكن الحياة تستمر. يزورنا الرئيس الامريكي كلينتون ليقتنع بأن ابا عمار يبذل قصارى جهده لضبط الامور. فهذا الوضع الجديد، ان تكون لنا سلطة، ونكون قادرين على ادارتها هو الاختبار الاكبر لتجربة ياسر عرفات من اول الانطلاقة الى هذه اللحظة. والواقع انه حدثت بعض التجاوزات واعتقال بعض المعارضين لكن آلة عرفات الجبارة من شأنها ان تستوعب المشكلات. فقد انشأ السلطة وشكل الوزارة وها هي فلسطين تولد من جديد.. وليس على احمد الا ان يصوغ البيان الوزاري الذي يدشن به ابو عمار عهد السلطة الوطنية الفلسطينية.
اما الطرف الآخر، الصهيوني فهو ايضا في حالة من الحيرة، فقد لمع كل من نتنياهو وباراك في فترتين متعاقبتين، وخبا بريقهما، وظل للعدو ان يتهم ابا عمار باضاعة فرصة السلام.. وهذا هو شأن العدو: يعمل على تعطيل المشروع الوطني، واذا لم ينجح فالمتهم جاهز وهو ياسر عرفات.
والآن وقد انهار الاتحاد السوفييتي، الركن الرئيس في دعمنا العالمي، بقي على القائد الفلسطيني ان يشغل الوقت بالاوراق المتاحة، وهي تثبيت السلطة من جهة واحياء الحوار الوطني بالتركيز على الثوابت، ولهذا كان طبيعيا ان يوقف المفاوضات ردا على ابعاد عناصر من حماس الى مرج الزهور، فنحن قبل كل شيء وبعد كل شيء فلسطينيون والظفر لا يخرج من اللحم. حتى اذا كان اليوم العظيم واستشهد ياسر عرفات، كان امامنا ارث ذهبي من النضال الصعب والخبرة المتراكمة.
بناء على ما تقدم يبقى ان يختم احمد عبد الرحمن شهادته التاريخية هذه بالاشادة بالانجاز التاريخي الذي حققه القائد «واعاد فلسطين الى وضعها الطبيعي حقيقة راسخة من حقائق الشرق الاوسط، حقيقة ابدية غير قابلة للزوال، فلا عودة الى الوراء، والتقدم الى الامام حتمي».
اما انا، كاتب هذه السطور، فليس لي الا الاعتذار عما قد يكون تلخيصا مخلا سببه ضيق المجال النسبي، ويقيني ان القارئ الفلسطيني المعني يعرف ما لم انجح في تقديمه، فهذه تجربتنا جميعا بحيث يحل لكل واحد منا ان يردد مع احمد بكل الثقة والزهو: وانا ايضا عشت في زمن عرفات.