معادلة رحيل نجم ومانديلا رحيل وهمي - حمدي فراج
من أين آتت عظمة احمد فؤاد نجم، ومن بعده بيومين نيلسون مانديلا، وهما رجلان نحيفان هزيلان "ترى الرجل النحيف فتزدريه، وفي اثوابه أسد هصور / ويعجبك الطرير إذا تراه، فيخلف ظنك الرجل الطرير"، وصلت هذه العظمة الى انه بالكاد تجد من بين كل سكان المعمورة من لم يسمع بهما او لهما واخيرا برحيلهما.
الثبات على المبدأ الانساني الذي تسلحا به عقودا طويلة، بل طوال فترة حياتهما التي امتدت لما يقارب تسعة عقود، رغم العذاب والالم والسجن الطويل في سجون الدولة وأقبية النظام الذي من المفترض انه موجود لحمايتهم من ضمن حماية مصالح الشعب.
الانخراط عملا لا قولا في صفوف الفقراء والكادحين التي تتغنى مبادؤهم التي يحملونها في رؤوسهم بأهمية هذا السواد الاعظم من الناس، من انهم مادة الثورات ومن صفوفهم تغترف التضحيات، فتراهم يعيشون في كنفهم ويتقاسمون لقمة العيش الشحيحة ويفترشون الارض كفراش وثير ليس له بديل.
قليلا ما يطأطئون رؤوسهم ويقدمون على بيع ذواتهم وعقد صفقات مع اعدائهم مقابل مكاسب خاصة، كإطلاق سراحهم من السجن، او تمكينهم من وظيفة ذات مسمع بعيد ومرتب كبير وامتيازات عديدة، تحت شعار "العاصفة تهب ولا بد من احناء الرؤوس". لم يحن هذا او ذاك رأسيهما للعواصف التي كادت تقتلعهم من الحياة، وآثرا الاقتلاع على الانحناء، حتى عرف عن الاول انه من دشن خط عدم الخوف من السجن حتى اصبح السجن لا يحفل بإستضافته، وعرف عن الثاني انه ظل زعيما لحزبه رغم قيده ما يقارب ثلاثة عقود ، وهذا الحزب يقاتل ويفاوض الى ان تمكن من انتزاع السلطة من بين يدي الاقلية العنصرية، فيأتي مانديلا من البرش الى العرش، لكن مأثرته الاخيرة تمثلت في انه تنازل عنه عندما اصبح في متناول يده.
احمد فؤاد نجم، لم يعتل الا عرش الكلمة، والكلمة العامية بالتحديد، فصدح على مدار عمره، لكل قضايا شعبه وامته والعالم، واسهم معه رفيق دربه الشيخ إمام في تسهيل مهمة ايصال هذه الكلمة عندما وضع لها ألحانه الخالدة بصوته الرخيم، وأذكر ان الفنان المقدسي احمد ابو سلعوم كان يغني لنا بعض هذه القصائد عندما كنا في زنازين المسكوبية، وكان المحقق على ما يبدو يدرك كم تسهم هذه الاغاني في شحذ همم الصمود لدينا، فجاءنا يوما كي يمنعنا، فقلنا له ان هذا قرأن كريم، فقال لنا بالعبرية "زي لو حيدر عربيم "اي ان هنا ليست منطقة عربية.
من ضمن تلك الاغاني "شيد قصورك ع المزارع / من كدنا وعرق ايدينا / والخمارات جنب المصانع / والسجن مطرح الجنينة / وافلت كلابك في الشوارع / واغلق زنازينك علينا". ترى كم من الوقت يمكن لهذه القصيدة ان تعمر، وهل من نظام عربي يمكن استثناءه من انطباقها عليه؟ لنكتشف ان رحيل هذين العملاقين ما هو الا رحيل وهمي.