غسان كنفاني والقنديل الصغير- جعفر حسن*
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
عند ملامسة قصته والمعنونة بالقنديل الصغير، لا يمكن بحال من الاحوال تجاوز شخصية ادبية بقامة غسان كنفاني فهو صاحب رصيد مميز من الانتاج الادبي كما أن له مساهمات في تقديم الادب الفلسطيني للساحة العربية ، ولعل ارتباط اسمه بالسياسة من باب علاقته بالجبهة الشعبية لتحرير فلسطين ورأسته لمجلة الهدف الفلسطينية ، ما جعل صيته يجوب الافاق ، وعلى الرغم من رحيله المبكر عن 36 عاما لقيام جهاز الموساد باغتياله في منطقة الحازمية بالبنان ، إلا أن كتابته لا تزال نابضة بالحياة بعد سنوات طويلة من رحيله سواء على مستوى القصة القصيرة أو الرواية أو الكتابة للأطفال.
والان وقد مرت 41 عاما منذ 1972م ولكنها لم تفت في عضد ابداعه الادبي . فقد كانت كتاباته تيمم نحو المستقبل ، كما كانت تتضمن بعض آرائه من خلال كشف الواقع الذي تمثل في فقدان القيادات السياسية المحنكة كما في روايته رجال في الشمس ، ولكن غسان كنفاني كان دائم الترديد لعبارة (إن الاطفال هم مستقبلنا) ، ولعل ذلك ما يشير إلى ذلك الاهتمام الخاص بقصص الاطفال ، ولو انه انتج مجموعة واحدة فقط حتى وفاته ، والتي عنونت بأطفال غسان كنفاني عند اصدارها بالعربية ، والتي نشرت بعد اغتياله في 78.
ومن بين القصص التي انتجت بشكل خاص في كتاب قصة اليوم التي نحاول تناولها وهي بعنوان (القنديل الصغير) والتي نشرتها مؤسسة غسان كنفاني الثقافية في عام 2005م ، والميزة التي تحتوي عليها هذه القصة من العتبات الاولى ، هي مسألة الاهداء الذي صدره بـ (إلى لميس 21-1-1963) ولميس هي ابنة اخته التي احبها ولم يفارقها حتى في الموت الذي لقيهما غدرا في تفجير سيارته التي كانا بداخلها ، ولميس هذه هي التي اعتاد على الكتابة لها كل سنة بمناسبة عيد ميلادها، وكانت هذه القصة مكتوبة لمناسبة عيد ميلادها الثامن ، وهي التي تصدر برسالة إلى لميس يشير فيها غسان إلى انه ليس بشاعر لذلك اختار ان يكتب لها قصة وأن مهمته تكمن في كتابة هذه القصة ، والتي شاء أن يتصورها تكبر كلما كبرت لميس ، ولكن لميس غادرت معه وظلت الحكاية لتمد اجنحتها لكل اطفال العالم.
نبع الحكاية
تعتمد الحكاية على نمطية يمكن تلمسها في القصص على نمط البنت الصغيرة التي تحل المشكلة التي يضعها أمامها الاب أو الغول أو أي معيق آخر ، والحكاية تبدأ بموت الملك ، فيترك وصية يحدد فيها الكيفية التي يمكن لابنته الوحيدة والصغير أن تصير أميرة ، وهي التي لا يمكن أن تحكم ، ولكي تصير حاكمة للمدينة ، عليها جمل الشمس إلى داخل القصر. وهو شرط يبدو تعجيزيا ، ويتوعدها بعقاب قاس إذ لم تحقق الشرط ، يتمثل العقاب في حبسها في صندوق مظلم بقية حياتها كعقاب على فشلها ، فيصيبها اليأس وتدعو حكيم القصر الذي يشير إلى ضرورة أن تكون هي أميرة كما تشير القوانين المكتوبة منذ القدم ، وأن على كل واحد القيام بواجبه ، حاولت الاميرة جلب الشمس عبر تسلق الجبل العالي ولكنها فشلت ، وأخذت تبكي ، وبعد ايام شاهدة ورقة تدس من تحت الباب مكتوب عليها "انك لن تستطيعي أن تدخلي الشمس وأنت في حجرة مقفلة ، فعلقت الاميرة على باب القصر بيانا يعلن عن جائزة لمن يجلب الشمس إلى داخل القصر ، وقررت ان تبحث عن الشمس.
وقد عجز الجميع عن مساعدتها ، فمنهم من قرر انها مجنونة لمحاولتها المستحيل ، ومنهم من قال أنها حكيمة لذات السبب ، وهنا ينبعث المساعد الذي يحمل الحل الذي لا يلتفت اليه ، فيحاول رجل عجوز دخول القصر ولكن الحرس منعوه مرارا ، وفي جدل بينه وبين الحرس وهم يحاولون التخلص منه بوسائل شتى ، ولكن عناده جعله يرفع صوته لتسمعه الاميرة ، فيقول الرجل العجوز للحرس إن لم يتمكن رجل عجوز من الدخول إلى قصرها فكيف تطمح الاميرة أن تدخل الشمس إلى القصر ، فتحاول الاميرة أن تناديه ولكن العجوز يختفي ، تستدعي الطفلة قائد الحرس وتسأله عن العجوز ، فيخبرها أنه رجل عجوز يأتي كل مساء حاملا قنديلا صغير ، ولكن الحرس يضنونه مجنونا ، تنتظر الاميرة ولكن الرجل العجوز لا يعود ، تحزن ولكنها تجد ورقة مدسوسة من تحت الباب مكتوب عليها أن الحزن والبكاء لا يحلان المشاكل ، فقررت أن تتحرك لحل المشكلة ، وطلبت من القائد احضار كل رجل يحمل فانوسا إلى القصر ، وفي المساء خرج الجنود لجلب كل رجل يحمل فانوسا ، واستغربت الاميرة حين رأت في الافق ، آلاف الرجال من كل صوب يحملون القناديل قادمين نحو القصر ، وكانوا يتكاثرون فغصت بهم الابواب والأسوار ، فأمرت الاميرة بتوسعة الابواب وهدم الأسوار ليتمكن الجميع من الدخول ، وهنا قال لها الرجل العجوز هل تستطيعين حمل كل هذه القناديل وحدك فقالت لا ، قال كذالك الشمس لا يستطيع رجل واحد أو امرأة واحدة حملها ، فقالت الاميرة أن كل هذه القناديل هي الشمس التي قصدها والدي فقال لها العجوز نعم ، وفي الصباح عندما اشرقت الشمس رأت الاميرة نور الشمس يدخل إلى القصر عبر النافذة ، ذلك أنها هدمت الاسوار والأبواب التي كانت تحجب نور الشمس.
اطياف في الحكاية
تبدأ القصة بشكل نمطي بسيط يتناسب مع ما تتركه الحكايات القديمة من اثر يتعلق بالرواية عن الملكات والملوك القدماء كأبطال في كثير من الحكايات ، ولكنها تنحاز بشحنة معرفية تتمثل في تلك الوريقات التي تأتي من شخص مجهول يحاول مساعدة الاميرة ، تلك القصاصات تحمل خبرة حياتية تتعلق بالتغلب على الصعاب من خلال النشاط والحركة لا من خلال اليأس والبكاء والانزواء ، وإنما من خلال الاندماج في الحياة ، والحياة مفتوحة على الخارج ، والمحاولة المستمرة لانجاز حتى ما هو مستحيل ، فكون الانسان قد حلم بالطيران تحقق بعد آلاف من السنوات.
وتأتي الحكمة المتراكمة من عند الرجل العجوز ، الذي يمثل في الحكاية المعرفة الحقه عبر الخبرة المتراكمة التي تشير اليها كونه رجل عجوز ، بينما يظل البحث عن الشمس تعبير عن كونها رمزا للحرية النابع من المعرفة ، وكذلك يشير القنديل إلى الضوء ، وبينما تقف العوائق ضد الحرية بما تمثلها الاسوار والأبواب الموصدة.
بينما تمهد الحكاية للخاتمة يظهر ذلك التجمع البشري الذي يحمل القناديل ، وخطاب الرجل العجوز إلى الاميرة يشير ايضا إلى أن حركة الجماهير تستطيع خلق المستحيل وهي تحقق مالا يستطيعه الفرد مهما على مقامه ، ولكن الحكاية ايضا تقترح كون الفرد ذا تأثير من خلال سلسلة علاقاته بالناس ، ولعل هذه ثيمات ثاوية في داخل القصة التي يمكن أن نقلبها في اتجاهات شتى ، لكنها نابضة بحب الناس ، وضد اليأس والانزواء والاستسلام ، بالانطلاق داخل المجتمع لتحقيق الامنيات ، إن بناء روح التفاؤل وبث انوار الامل والثقة في المعرفة الانسانية في نفوس الصبية هدف اخلاقي سام نادرا ما تحمله القصص الموجهة للطفل في مجتمعاتنا اليوم ، على الرغم من تعدد الاهداف التربوية التي تحاولها كثير من القصص.
*ناقد وشاعر بحريني