مستعمرون يقطعون عشرات الأشجار جنوب نابلس ويهاجمون منازل في بلدة بيت فوريك    نائب سويسري: جلسة مرتقبة للبرلمان للمطالبة بوقف الحرب على الشعب الفلسطيني    الأمم المتحدة: الاحتلال منع وصول ثلثي المساعدات الإنسانية لقطاع غزة الأسبوع الماضي    الاحتلال ينذر بإخلاء مناطق في ضاحية بيروت الجنوبية    بيروت: شهداء وجرحى في غارة إسرائيلية على عمارة سكنية    الاحتلال يقتحم عددا من قرى الكفريات جنوب طولكرم    شهداء ومصابون في قصف للاحتلال على مناطق متفرقة من قطاع غزة    "فتح" تنعى المناضل محمد صبري صيدم    شهيد و3 جرحى في قصف الاحتلال وسط بيروت    أبو ردينة: نحمل الإدارة الأميركية مسؤولية مجازر غزة وبيت لاهيا    ارتفاع حصيلة الشهداء في قطاع غزة إلى 43,846 والإصابات إلى 103,740 منذ بدء العدوان    الاحتلال يحكم بالسجن وغرامة مالية بحق الزميلة رشا حرز الله    اللجنة الاستشارية للأونروا تبدأ أعمالها غدا وسط تحذيرات دولية من مخاطر تشريعات الاحتلال    الاحتلال ينذر بإخلاء 15 بلدة في جنوب لبنان    شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات  

شهداء ومصابون في قصف الاحتلال منزلين في مخيمي البريج والنصيرات

الآن

فخاخ " اليكسا" وخنفساء أوري ديفيس... لم أظن أنني سأتجمد حتى الموت، ولكن قد أمرض مرضا شديدا- د. أوري ديفيس

القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية

 ترجمة: خلدون البرغوثي
 أنا شخص يعي تماما الغموض الذي يقوم عليه الكون، وترعبه لانهائيته، ويدهشه جماله وانتظامه، وانأ شخص ممتن لفطنة لودفيغ ويتينغستاين (Ludwig Wittgenstein) العميقة في كتابه Tractatus Logico-Philosophicus، ومفادها "حينما لا يستطيع الشخص الكلام، فيجب عليه الصمت". الصمت الذي يتيح التأمل فيما يجري حولنا. فسلسلة الصدف التي سأذكرها في هذه الأحداث، والتي قادتني إلى بيت آمن في عقربا هي من نوعية هذا الجمال الكوني. هناك سر في الكون.
الخميس، 12-12-2013
في منتصف يوم الخميس 12-12-2013 كنت أغادر منزل ميسر وأوري في رام الله علني أصل إلى مكتب البريد في يافا لأخذ بريدي من الصندوق قبل موعد الإغلاق.
كان الطقس سيئا، وتوقعت الأرصاد الجوية وصول منخفض جوي ذاك المساء، لكنني تجاهلت الخطر بناء على الخبرة السابقة، أن سيارتي المخلصة ابنة الأربعين عاما من نوع فولكس فاجن "بيتل" (خنفساء) المصنوعة عام 1973 قادرة على التغلب على أي أحوال جوية ستجلبها جبهة المنخفض الجوي (على الرغم من الاستثناءات).
وبعد ذلك اتبعت خط سير رحلتي لقضاء يومي داخل الأراضي الفلسطينية المطهرة عرقيا والمحتلة عام 1948 من قبل دولة الفصل العنصري /إسرائيل، كما خططت لفترة ما بعد الظهر: زيارة الكراج لإجراء تعديل تجميلي بسيط على سيارتي الخنفساء، وإصلاح خلل في الفرامل تأخرت كثيرا في القيام به، وزيارة لفرع البنك (لسحب بعض الأموال)، وزيارة إلى باقة الغربية لرؤية صديقي وأخي مدرس العلوم مأمون دقة.
من المحتمل أن الساعة كانت حوالي الثامنة عندما غادرت باقة للرجوع إلى منزلي. احتراما لطلب ميسر، لم اسلك مسار الطريق المختصر (إذ لم يكن من المحتمل أن خدمة "الونش" لجر السيارات كانت متوفرة في حالة خراب "الخنفساء")، وسلكت المسار الأطول في طريق العودة الى المنزل. بعد مروري بمفترق مستوطنتي شيلات/موديعين ووصولي مفترق مستوطنتي مكابيم-ريئوت الاستعماريتين، كانت الشرطة الإسرائيلية قد أوقفت حركة السير من والى القدس. تساقط الثلوج الكثيف جعل الطريقين غير آمنتين، لا يمكن السير فيها بسيارات ليست ذات دفع رباعي، أو ليست مزودة بعجلات للقيادة على الثلج.
مصراً على العودة إلى البيت، استدرت عائدا، ومعتبرا أنه في ظل الظرف فسأضع اقتراح ميسر جانبا، وسأسافر عبر مفترق مستوطنتي شيلات/موديعين الاستعماريتين، للوصول إلى الطريق المختصرة المذكورة، وكلي أمل أن "الخنفساء" ستتمكن من تجاوز المنعطفات المنحدرة بشدة في الطريق الصغيرة الرابطة بين مفترق مستوطنتي طلمون/دوليف الاستعماريتين وقرية دير ابزيع المحتلة من قبل إسرائيل، على الرغم من تواصل سقوط الثلج.
كان هناك ثلوج على الطريق مع اقترابي من مفترق طلمون/دوليف المذكور، ورغم ذلك تمكنت من الوصول إلى المفترق بسلام وبدأت بصعود الطريق الصغيرة الرابطة بين المفترق المذكور ودير ابزيع. للأسف رغم المحاولات المتكررة، لم أتمكن من بلوغ أية مسافة ابعد من منتصف الطريق صعودا. ركاب سيارة كانت قادمة نزولا أبلغوني أنه حتى في حالة تمكني من صعود المنحدر فلن أتمكن من الوصول إلى البيت بسيارتي "الخنفساء"، لأن التساقط الكثيف للثلج قضى على أية إمكانية للخروج من بيتونيا باتجاه رام الله.
اتصلت على ميسر وأبلغتها بالوضع.
ركاب السيارة الذين أبلغوني بأنه لا يمكنني الخروج من بيتونيا (وساعدوني كذلك في تغيير اتجاه سيارتي) كانوا متوجهين إلى قرية خربثا بني حارث المجاورة.
قبل خمس سنوات، عندما انتقلنا (ميسر وأوري) إلى منزلنا في رام الله ، نُصحنا بأن يقوم الموسرجي محمد انجاص (أبو خلدون) بمهمة تركيب أنابيب النحاس الرفيعة من خزان الديزل الموجود في طرف العمارة على الجدران الخارجية وصولا إلى الموقد (fireplace) في غرفة المعيشة. أصبح أبو خلدون صديقا للعائلة، واتصلت به ميسر لتستفسر إن كان ممكنا أن يستضيفني في منزله تلك الليلة.
غني عن القول إن أبا خلدون كان سعيدا بذلك، بالرغم من أن الساعة كانت متأخرة.
مع وصولي إلى خربثا تم توصيلي إلى منزل أبي خلدون عن طريق سيارة محلية، أبدى ركابها الشباب السعادة وغيروا اتجاه سفرهم لتوصيلي إلى المنزل، ولكن ليس قبل أن يقوموا بإزالة الثلوج المتراكمة على غطاء المقدمة وجناحي العجلات الأمامية لـ"الخنفساء"، ويحولوها إلى كرات صغيرة يلقوها بفرح على بعضهم البعض. عند وصولي منزل أبي خلدون من المحتمل أن الساعة كانت قد تجاوزت الحادية عشرة مساء بقليل.
كان أبو خلدون ينتظر خارج منزله لاستقبالي، وقد غطى نفسه بعباءة وترتسم على وجهه ابتسامة ترحيب دافئة. ولأنني أبلغتهم مسبقا أنني اشعر بالبرد (فالجرابات والبنطال والمعطف كانت مبتلة)، تم إجلاسي أمام مدفأة كهربائية، ووفروا لي ملابس وشبشبا، كما تمت تغطيتي ببطانية، ورغم معارضتي وإصراري المتكرر بأنني تناولت الطعام بشكل جيد في وقت سابق في منزل مأمون بباقة الغربية، تم تقديم وجبة خفيفة، في حين تجمع أبناء أبي خلدون وأحفاده للترحيب بالضيف غير المتوقع.
كان عند أبي خلدون غرفة نوم إضافية تم إعدادها لي، حيث وضعت حقائبي فيها لحظة وصولي، من المحتمل أن الساعة تجاوزت منتصف الليل عندما ذهبت إلى النوم ودسست نفسي تحت طبقة من البطانيات الثقيلة، ونمت مثل قطعة من الحطب. أفقت من نومي صباح اليوم التالي بعد الساعة التاسعة.
 "يجب أن نشكر العاصفة التي جعلتك تزورنا" قال أبو خلدون مرحبا لحظة خروجي من الغرفة التي هي أصلا غرفة المعيشة.
 "في الواقع، هذه ليست زيارة" أجبت. "وأنا متأكد أنني سأعود بصحبة زوجتي الطيبة لتقديم الشكر المستحق للطفكم وضيافتكم".
المخرج عند بوابة منزل أبي خلدون كان نصف مغلق بسيارة أبي خلدون، وخلال محاولة أبي خلدون وابنه إبراهيم توجيهي للخروج من الفتحة المتاحة في البوابة، مزقت قطعة معدنية مثبتة في البوابة إطار السيارة الأمامي من الناحية اليمنى. وعند محاولة تغيير الإطار تبين أنني تركت الرافعة والمفتاح المصلب في رام الله، فأخرج أبو خلدون عدته من سيارته وتم تغيير الإطار الممزق بإطار احتياطي حصلنا عليه من كراج قريب، إذ لم يكن ممكنا إصلاح الإطار الأصلي لأن التيار الكهربائي كان مقطوعا عن كافة المناطق بفعل العاصفة الثلجية، والآلة التي تساعد في فك الإطار لا تعمل.
الآن وقد عاد التيار مع كتابة هذه السطور، الإطار الجديد سيتم تركيبه على "الجنط" الأصلي عند ذهابنا أنا وميسر لزيارة أبي خلدون لتقديم الشكر المناسب.
الجمعة 13-12-2013
كانت الساعة حوالي 12:30 بعد الظهر عندما غادرت خربثا، (ولكن ليس قبل تناول وجبة إفطار متأخرة)، توجهت إلى محطة سونول للوقود قرب مفترق مستوطنة شيلات لتعبئة خزان السيارة، وصلت إلى المحطة بسلام، وبعد تعبئة الخزان بالوقود، ماذا! سيارتي موضع الثقة، رفضت أن تشتغل.
ومع فشل المحاولة تلو الأخرى لتشغيل السيارة، أعددت نفسي لفترة انتظار طويلة حتى وصول خدمة "الونش" لجر سيارتي إلى الكراج ، حيث سأجد ملجأ لي في منزل شقيقتي أورا في "نحلات عادا" بهرتسيليا. كرة الثلج بدأت تتدحرج وتصبح أثقل فأثقل. بيني وبين نفسي ظننت أنني وجدت على الأقل مكانا احتمي به في محطة الوقود، لكن ظني خاب؛ حين رفض مدير المحطة بقاء سيارتي تحت مظلة المحطة بالرغم من أعذاري. "أنت تغلق منفذا لإحدى مضخاتي!" قال محتجا، واستدعى عاملين في المحطة لدفع سيارتي مسافة 15 مترا.
قلت ربما أحاول أن اشغل محرك السيارة بوضع ناقل الحركة على الغيار الثاني، وترك السيارة تسير في الطريق المنحدرة باتجاه يافا، لكنني تراجعت عن الفكرة، فقد لا يشتغل المحرك، وينتهي الأمر بي محتجزا في سيارتي على بعد مئات الأمتار عن محطة الوقود تحت طبقة الثلج المتساقط بغزارة. غني عن القول أيضا إنه وفي ظل تعرض إحدى سيارتي الاثنتين من طراز "الخنفساء" المصنوعتين عام 1973 -وهي السيارة الحمراء- للسرقة في القدس في مثل هذا الوقت قبل عامين، فإنني لن أترك سيارتي بعيدا عن نظري، أو عن نظر طرف آخر أثق به.
قبل أن انزل من السيارة (المركونة على بعد 15 مترا) للذهاب للاحتماء تحت مظلة محطة الوقود، جربت أن أشغّل السيارة.
ومثل السحر، اشتغل المحركّ!
أظن أنه ومع توقف السيارة في محطة الوقود تسرب بعض الماء داخل غطاء علبة تحتوي على قطعة هامة (تسمى البلاتين في لغة ورش إصلاح السيارات الفلسطينية) وتقوم بتوزيع الكهرباء على (البوجيات) التي تطلق شرارة كهربائية في غرفة الاحتراق داخل المحرك، ومع دفع عاملي محطة الوقود للسيارة أدى الاهتزاز إلى تحرك الماء داخل العلبة، أو ربما تغير موضع البلاتين. على أية حال أنا انطلقت في طريقي.
مع إغلاق خياري الأول (طريق 443) من قبل الشرطة الإسرائيلية، ومع فشلي في صعود الطريق المنحدرة بين مفترق مستوطنتي طلمون/دوليف الاستعماريتين، وقرية دير ابزيع العربية المحتلة إسرائيليا، والمعروف في اللغة السياسية للاستيطان الاستعماري بـ"مفترق حذوة الحصان" (محدد بالدائرة الحمراء في الخريطة أعلاه)، والذي يصل بين طريق 463 والطريق الضيقة المليئة بالمطبات والمارة في دير ابزيع وعين عريك وبيتونيا فرام الله (والتي كانت خياري الثاني)، قررت الذهاب إلى الخيار الثالث، وهو: رحلة طويلة تمر عبر الضفة الغربية المحتلة إسرائيليا، من ساحل البحر المتوسط إلى غور الأردن (طريق 5) والصعود إلى رام الله من أريحا، حيث أتوقع أن لا يعيق رحلتي ثلج كثيف مثل الذي منعني من سلوك الخيارين الأول والثاني.
مررت بسلام قرب الرجس الاستعماري الاستيطاني المسمى بلدة ارئيل، وقطعت المفترق المعروف في اللغة السياسية للاستيطان الاستعماري بـ"مفترق تابوواح"، وفي الرواية الجغرافية الفلسطينية الصادقة معروف بمفترق زعترة. ومع تجاهلي لإشارات السيارات القادمة من الاتجاه المقابل التي تشير إلى أنه من الأفضل لي أن أستدير وأعود، لأن الطريق مغلقة ولا إمكانية لفتحها، وجدت نفسي في نهاية طابور طويل من السيارات التي انقطعت السبل بركابها، على قمة جبل في الضفة الغربية.
الساعة كانت حوالي الثالثة والنصف بعد الظهر.
لحسن حظي كان معي شاحن سيارة للايفون وتمكنت من إبقاء ميسر على اطلاع على وضعي خطوة خطوة. ولكن ومع انقطاع التيار الكهربائي في منطقة القدس (وكذلك في مناطق كثيرة في البلاد)، لم تتمكن ميسر من شحن هاتفها النقال. ونظرا لكوني شخصا ذا نزعة شديدة لعدم التخلص من أي غرض قد يكون له استخدام في المستقبل، بغض النظر عن قِدَمه، فقد أثبتت هذه النزعة جدواها، إذ احتفظت في منزلنا في رام الله. بهاتف قديم لا يحتاج إلى تيار كهربائي كي يعمل، وخطوط الاتصالات الأرضية لم تكن قد تضررت بسبب العاصفة.
عثرت ميسر على الهاتف وشبكته بالمقبس الموجود قرب الكنبة الحمراء المجاورة للمدفأة التي تعمل بوقود الديزل في زاوية الجلوس بالمنزل، وهكذا تمكنا من البقاء على تواصل بالرغم من الانهيار الشامل لشبكة الكهرباء. ومقارنة بالكثير من المنازل فإن وضعنا كان ممتازا: أنا كنت –كما استحق- أتجمد حتى العظم، ولكن ميسر كانت تجلس في منزل مزود بخط هاتفي، وعلى مدار الساعة تنشر المدفأة فيه جوا يبقيه دافئا بشكل مريح.
خلال ساعات الانتظار الطويلة، تحرك طابور السيارات مترا واحدا فقط في كسر للجمود الطويل. لحسن الحظ وجدت نفسي قرب شاحنة لـ"شركة دواجن فلسطين" التي يملكها منيب المصري، قمرة القيادة في الشاحنة كانت مدفأة، والشبان الأربعة الجالسون فيها كانوا سعداء بالسماح لي بالانضمام إليهم، فكان لي الشرف أن أقضي وقت الانتظار الطويل في قمرة شاحنة مدفأة، في وضع مشابه لحلقة دراسية أكاديمية، (فأنا كشخص ملتزم بمعاداة الصهيونية ومن أصول يهودية، وفي الوقت نفسه بروفيسور يحاضر في الدراسات الإسرائيلية في جامعة القدس-ابو ديس، وعضو في المجلس الثوري لحركة فتح، وعضو في المجلس الوطني الفلسطيني، أحمل الجنسية البريطانية والإسرائيلية)، وجدت نفسي اشرح لهم الفرق بين اليهودية (إحدى الديانات السماوية الثلاث)، والصهيونية السياسية (اجتياح استيطاني استعماري لدولة فلسطين).
احد الشبان، محمد فقها من كفر اللبد طلب مني رقم هاتفي الخلوي، وانأ تعهدت بزيارته في كفر لبد في المستقبل المنظور، لتقديم الاحترام لعائلته، والشكر على الضيافة له ولزملائه.
انفرجت الأزمة عندما مرت فجأة شاحنة إزاحة الثلوج (ربما من طراز فولفو)، وهي تدفع مجرفة هيدروليكية تفتح ممرا خلال الثلوج في المسار الأيمن من الطريق، وتلقي بها على الحاجز الحديدي الممتد على طول الطريق. سيارة وراء أخرى بدأ طابور السيارات التي انقطعت بها السبل يخلي الطريق إلى اليسار ليسمح لجرافة الثلج بالمرور، وكان لسيارتي "الخنفساء" الشرف كذلك بالسماح للجرافة بالمرور، مرة ومرتين وثلاثة، ولكن ليس أكثر.
حوالي الساعة السابعة مساء، تعطل المحرك.
اتضح لي أنه وعلى افتراض أنه سيتم في نهاية المطاف فتح الطريق، سأبقى أنا السائق الوحيد الذي انقطعت به السبل في ليلة جليدية في وسط اللا مكان، مختبئا في "وعاء تجميد" في "خنفسائي" المخلصة، ومرتديا معطفا طويلا مبتلا بشكل كامل بالمياه، وبقدمين يغطيهما جوربان مبتلان في حذاء طافح بالماء. في هذه الظروف حتى لو لم أصب بمرض شديد، فإنني كنت بحاجة إلى إنقاذ.
بمحرك متعطل، قررت أن ابلغ السلطات الفلسطينية المختصة (خدمات الطوارئ الفلسطينية على الرقم 101ـ ومكتب التنسيق الفلسطيني – الارتباط في نابلس على (092330736) ، وتم إبلاغي أن فريق إنقاذ تابعا لغرفة العمليات المشتركة سيكون في طريقه لإنقاذي.
في هذا الوقت ميسر وجارنا الطيب في العمارة التي نسكن فيها ، المهندس حسام وزوجته وضحة عواد (من قرية عورتا)، عملوا كفريق مكلف بإجراء كل الاتصالات لضمان وصولي إن لم يكن للبيت، فإلى ملجأ آمن اتصلوا في الشرطة وغرفة العمليات المشتركة والدفاع المدني وبشقيق وضحة حسن سليم عواد. هذه العملية أوصلت القصة إلى نهاية سعيدة (أدناه) وأصبحت عائلة ديفيس/أبو علي والجيران عواد شبه أسرة واحدة.
تحرك فريق إنقاذ يقوده حسن سليم عواد شقيق وضحة، الرئيس السابق للمجلس القروي في عورتا، يرافقه عدد من الأصدقاء هم رائد دراوشة وامجد كواريك ونبيل كواريك واحمد معن عواد، فحقيقة أن القرية تبعد عشرة كيلومترات عن موقعي بعثت الأمل في أن يتمكن الفريق بجيب ذي دفع رباعي من الوصول إليّ قبل منتصف الليل. ولكن للأسف هذا لم يحدث، فعند وصول الفريق مفترق زعترة أغلق الجيش والشرطة الإسرائيلية الطريق باتجاه الشرق، ووجد الفريق نفسه في طريق جبلية التفافية في محاولة للوصول إليّ، وبينما هم يصعدون احدى التلال في شارع ضيق وإذا بالجيب يسقط في مستنقع طيني تسبب به تساقط الثلوج بهذه الكثافة الغير متوقعة، والتي ساهمت بدورها في إعاقة الحركة وصعبت عمليات الإنقاذ.
وهنا .. أصبح فريق الإنقاذ بحاجة إلى إنقاذ، وهذا ضاعف قلق حسام ووضحة وميسر الذين يتابعون الموقف من المنزل.
حاول الفريق دفش الجيب بقدراتهم الذاتية وهم مجموعة من الشباب الأقوياء جسديا ولكن دون جدوى... فتوجهوا إلى إحدى القرى المجاورة سيرا على الأقدام طالبين المساعدة وتوفير جرافة تسحب الجيب من المستنقع الطيني، ولكن لم يستجب أحد لطلبهم في هذه الظروف الصعبة. وكان لا بد من الانتظار لعدة ساعات حتى تصلهم جرافة من قرية عورتا وعلى القارئ أن يقدر حجم البرد الذي احتملوه.
الشيء الغريب أن الشباب عثروا في هذه الأثناء على سيارة تكاد الثلوج تغمرها متوقفة وبها أسرة لديها طفلتان صغيرتان، علموا أنها قادمة من منطقة طولكرم ومتوجهة إلى رام الله، وليس لديهم وسيلة اتصال ولا يعرفون بالضبط أين هم. وقد قام الشباب بعد وصول الجرافة بمساعدة هذه الأسرة وإنقاذها في هذه الظروف القاسية.
في هذه الأثناء صادفت جيبا رباعي الدفع معلقا عليه حبل جر قوي من الجهة الخلفية، أسرعت ونقرت على زجاج السائق:
 "هل يمكنك أن تسحبني من هنا؟" سألت بإلحاح ظهر في صوتي ولغة جسدي.
فرد علي: "أين تريد أن تذهب؟".
قلت: "إلى أي مكان باتجاه أريحا".
نزل احد الركاب من الجيب وربط الحبل في المكان المناسب في مقدمة سيارتي وبدأ الجيب يجرني خارج الطابور.
عندما تقوم سيارة بجر سيارتك في مثل هذه الظروف، هذا يحتاج إلى مهارة خاصة. كان من المهم أن ابقي نظري على حبل الجر، وان استخدم الفرامل بلطف عند ارتخاء الحبل لكي لا تصدم مقدمة سيارتي في مؤخرة الجيب. بالطبع تأجيلي لإصلاح نظام الفرامل في سيارتي لم يساعدني كثيرا.
بعد مسافة من الجر وخروجي من طابور السيارات التي انقطعت بها السبيل، أوقفت دورية شرطة استيطانية الجيب، وأمرت ركابها بالخروج منه. الركاب الملتحون كانوا يبدون كالشيوخ الوقورين. الدورية ادعت أن جر سيارتي في هذا الشارع مخالف للقانون (ربما لأن الجيب مرخص فلسطينيا وسيارتي "الخنفساء" مرخصة إسرائيليا). احد عناصر الدورية نقر على زجاج سيارتي، فأنزلته.
تحدث معي بعربية مكسرة، مكررا الادعاء أنني أخالف القانون وأنه ضابط شرطة، قلت بالعربية إنني لا اعلم عن أية مخالفة، سألني إن كنت يهوديا، ولا حاجة للقول إنني أجبته بالنفي. غالبا أنه لم يصدقني، وكرر بالعبرية أنني مشارك في عملية جر مخالفة للقانون. تظاهرت بأنني لم افهم وبقيت في مقعدي.
سمعته يقول إنه لم يفهم ما قلته له، وبعد ذلك سمح للجيب و"خنفسائي" المربوطة به بمواصلة الطريق.
مع الوصول إلى قمة الجبل توقف الجيب ونزل السائق ذو اللحية البنية الكثيفة، وسألني مرة أخرى عن الوجهة التي أنوي الذهاب إليها. قلت مرة أخرى: أريحا. فقال إنه لا يستطيع جري إلى أريحا لأنه هناك الكثير من السيارات المنقطعة بها السبل والتي تنتظر أن يتم جرها.
فرجوته: "إذن خذني إلى أقرب قرية عربية" ثم سألته: " ما هي أقرب قرية إلى مكاننا هذا؟"
 "عقربا": قال محاوري.
فقلت له: "عندي طلب واحد... خذني إلى بيت ذي سمعة طيبة".
إجابته المفاجئة كانت: "يوجد معنا في السيارة سجين سياسي سابق من عقربا، وسنأخذكما الاثنين إلى منزله".
سألته: "كيف يمكنني أن أشكرك؟" واستفسرت :"هل تقومون بذلك على أساس تطوعي، أم مقابل اجر مالي؟ هل يجب علي أن ادفع لكم، وان كان نعم فما قيمة المبلغ؟"
تبين لي أن الجيب كان واحدا من ثلاثة جيبات مشابهة تملكها عائلة مسلمة ملتزمة تعمل في بيع حديد البناء بالجملة، وتملك متجرا للحديد في قرية زعترة القريبة. عند اقترابهم من مفترق زعترة، وإدراكهم وجود الأزمة شرق المفترق، حركوا جيباتهم بشكل تطوعي في عملية إنقاذ.
اسم الرجل الذي سيستضيفني هو شداد بني فضل، ومع وصونا إلى منزل والده عياض بني فضل، كانت الساعة إما العاشرة أو الحادية عشرة مساء.
 "اسمي أوري ديفيس"، قدمت نفسي لهم ومددت جواز سفري البريطاني إليهم، رفض عياض أن يأخذ جواز السفر.
 "هذا ليس ضروريا" قال مبتسما. "في هذا البيت الضيف مرحب به كإنسان، بغض النظر عمن يكون"..
ليس من الضروري أن أقول إنني أبلغت ميسر عن وصولي سالما إلى عقربا.
وليس ضروريا القول إن "كانونا" مليئا بالجمر احضر إلي سريعا ووضع قرب قدميّ، وفورا قُدّمت إلي ملابس وكميات من الشاي والطعام والقهوة.
وبالطبع في كل مرة كان يدخل الغرفة فرد من عائلة بني فضل الممتدة، كنت أرى انه من الضروري أن أعيد تقديم نفسي بطريقة تسبب الغثيان (أنا شخص ملتزم بمعاداة الصهيونية ومن أصول يهودية، وفي الوقت نفسه بروفيسور في الدراسات الإسرائيلية في جامعة القدس –أبو ديس، وعضو في المجلس الثوري لحركة فتح، وعضو في المجلس الوطني الفلسطيني، أحمل الجنسية البريطانية والإسرائيلية)، وأعرّف بعائلتي في رام الله (متزوج من ميسر أبو علي، وقبل تسجيل زواجنا في رام الله أعلنت إسلامي).
خلال ما يقارب الساعة تبادلت انأ ومستضيفيّ بعض القصص من حياتنا، وتبين أن عائلة بني فضل تعود في أصولها قبل أربعة أو خمسة أجيال إلى بيت ساحور المسيحية، كانوا مسيحيين ولجأوا إلى عقربا على خلفية نزاع، وبما أنهم لن يتمكنوا من تزويج أبنائهم من فتيات من القرية، إلا إذا أعلنوا إسلامهم، هذا ما فعلوه.
لاحقا كانت الفرشات جاهزة على السجاد، ولليلة الثانية على التوالي بعيدا عن منزلي، وبمجرد وضع رأسي على الوسادة، دخلت في نوم عميق مثل صخرة تحت طبقة من البطانيات الثقيلة.
السبت 14-12-2013
بعد عودتي سالما في اليوم التالي (السبت) قالت لي ميسر إنها وبعد أن أخبرتها أنني وصلت إلى منزل عياض بني فضل، كانت معنية بالتأكد إن كنت موجودا في بيت كريم، (أي انه لم يتم تضليلي وإرسالي إلى بيت مشبوه). وكان لحسن عواد مصدر موثوق به في عقربا والذي أخبره أن العائلة المذكورة هي ذات سمعة طيبة، وأني بوصولي إلى منزل عياض بني فضل، فإنني بالتأكيد في أمان. بعد هذه التطمينات تمكنت المسكينة ميسر ولأول مرة خلال ثلاثة أيام من الشعور بشيء من الراحة.
بعد الظهر وصل إلى عقربا حسن سليم عواد من قريته القريبة عورتا في سيارته رباعية الدفع، يرافقه فريق الإنقاذ المكون من سليم عواد ورائد فتحي دراوشه وجبريل عواد ورزق عواد. لأخذي إلى منزلي. وقد كنت أتوقع أنني سأمكث في عقربا يومين على الأقل إلى أن تفتح الطرقات.
وصل حسن مع وضع مائدة الغداء، (صينية كبيرة من المقلوبة وكمية من اللبن). وبالطبع لم يسمح لحسن ورفاقه إلاّ أن ينضموا إلى الوليمة.
بعد التعارف المتبادل، بدأت تبرز الأسماء والمعارف المتبادلة بين الطرفين، وتم سرد قصص محاولات الإنقاذ التي فشلت في اليوم السابق، وبعد نصف ساعة كنا في طريقنا إلى رام الله، بعد أن أكد لي عياض بني فضل أن محرك سيارتي "الخنفساء" سيكون شغالا في اليوم التالي (وهذا ما كان).
وفي وقت متأخر من بعد ظهر يوم السبت كنت في منزلي في رحلة استغرقت حوالي خمسين ساعة، وهي تستغرق في العادة حوالي ساعتين لقطع المسافة ما بين بيت صديقي مأمون دقة في باقة الغربية ومنزلي في رام الله.
وعندما عددت على مسامع زوجتي الفوائد التي حصلت عليها من هذه الرحلة رغم صعوبتها، من تعزيز علاقاتي بعدد من الناس الطيبين المضيافين.. وأنه لا بد من وجود سر كوني رتب الأمور على هذا النحو...وأنقذني من هذا الموقف الصعب.. أجابت بلهجة جادة.. اعتقد أن سبب مشاكلك وكل هذا القلق الذي تسببته لنا هو سيارتك "الخنفساء" التي لا تصلح لهذه الظروف أو أي ظروف غيرها، فهي تتعطل أكثر مما تسير، لذا فأنا أنصحك ان تلقي بها في اقرب "سكراب" فلو كان لديك سيارة بمواصفات حديثة لما حصل ما حصل. وعليك هذه المرة أن تختار بيني وبين خنفسائك...
وبشطارتي في التفاوض... وبتسامحها اتفقنا أن لا أسافر بها إلا لمدينة القدس وضواحيها ثم أكمل في المواصلات العامة، على اعتبار أن هناك العديد من ورش تصليح السيارات القريبة في القدس بالإضافة إلى خدمة الونش لسحبها عند الضرورة. وحتى لا اعبر مزيدا عن حبي لخنفسائي.. واغضب زوجتي الحبيبة فسألتزم بالمقولة التي أحب...
 "حينما لا يستطيع الشخص الكلام، فيجب عليه الصمت".
-------------------------------
الأستاذ الدكتور أوري ديفيس هو بروفيسور يدرس في جامعة القدس، القدس/ابو ديس وباحث ومناضل مناهض للصهيونية من أصل يهودي مواطن من دولة إسرائيل الابرتهايدية ومن الملكية التي تسمى دستورية هي المملكة المتحدة. ولد في القدس عام 1943 وهو رئيس مؤسسة البيت: جمعية للدفاع عن حقوق الإنسان في إسرائيل، وعضو المجلس الثوري لحركة التحرير الوطني الفلسطيني (فتح) وعضو في المجلس الوطني الفلسطيني.

 
 

za

إقرأ أيضاً

الأكثر زيارة

Developed by MONGID | Software House جميع الحقوق محفوظة لـمفوضية العلاقات الوطنية © 2024