لمحة نقدية - ما يحتاجه كتاب القصة القصيرة جدا- فراس حج محمد
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
قد يظنّ البعض أن كتابة القصة القصيرة جدا (القصة الومضة) سهلة ميسرة، وربما لا يدري أنها من أعقد فنون السرد المعاصرة نظرا لما تحتاجه من دقة ولماحية وذكاء في اقتناص المشهد الذي سيتحول إلى نصّ تتأرجح فيه الأفكار وتتراكص على أكثر من وتر، وتثير في الكاتب قبل المتلقي كل المخزون المعرفي ليكون على شكل نصّ صادم مدهش يتمتع بالصدمة الإبداعية التي تهزّ المتلقي، وتجعله يعيد القراءة مرات ومرات، وفي كلّ مرّة ثمة خيال من فكرة تتراءى بين السطور.
وتذكّر الـ(ق ق ج) بفنون عربية قديمة من أشهرها توقيعات الخلفاء والأمراء والقادة، على الكتب والمراسلات التي كانت تأتيهم، فكانت تعليقاتهم على تلك الكتب ذات نمط خاص ومدهش وصادم وذكي، يعتمد على الذكاء والخبرة والمعرفة، والأهم من كل ذلك أنها وليدة الحاجة الملحة، فتعاضدت كل الظروف لولادة هذا النوع من الأدب، فليس المجال مجال سرد مطوّل وشرح، وإنما قول فصل مختصر يدل على المطلوب ليتم الالتزام والتنفيذ، لا سيما وأنه قد صدر عن أعلى سلطة تنفيذية مخولة بالمتابعة.
وفن الومضة ليس مقصورا على السرد القصصي، بل إنه وجد في الشعر، وفي الفلسفة، وقد كتب كثير من شعراء الأدب العربي والعالمي كثيرا من الأشعار المكثفة السريعة التي لا تتعدى أحيانا بضع كلمات، كان لها وقع الوخزة في نفس قارئها فتحدث عنده الهزة والنشوة والتأثير المطلوب، وقد كتب كذلك الفلاسفة المعاصرون كثيرا من أفكارهم باستخدم فن الشذرة أو ما يمكن تسميته (الومضة الفكرية)، وخاصة في سن متأخرة من أعمارهم، فهذا الفن هو فن الحكمة، وينفر من الثرثرة الزائدة. وفي هذا المجال علينا أن نتذكر قصار السور القرآنية، إذن المسألة وليدة حاجة إبداعية يجب علينا أن نتدبرها جيدا ونستفيد منها.
وهذا الواقع يشبه إلى حد ما الظروف الحالية، فالجميع في عصر السرعة، وكثيرا ما تعرضتُ شخصيا لانتقاد بعض القراء على الفيس بوك بسبب بعض النصوص الطويلة، راجين مني مثلا عرض زبدة الموضوع وكفى، دون الحاجة (للمطمطة) والتطويل، فالقارئ ليس غبيا، حتى نشرح له كل شيء. وقد أتاح الفيس بوك فرصة عرض الأفكار الكثيرة من متابعين وأصدقاء كثيرين، ولذلك وجب التكثيف والتركيز، حتى نقرأ بعضنا ونتحاور إن شئنا بعد ذلك، وأصبح فن الاختصار مهمة إنسانية بامتياز ومطلبا ثقافيا ضروريا، ولكن من يستطيعه قلة قليلة، وهذا يذكر بالطرفة القديمة، فعندما طلب من أحدهم أن يختصر في كلامه، فكان الجواب "ليس عندي وقت"، إن هذا الجواب له ما له من دلالات وسياقات تبين أهمية الإيجاز وصعوبته أحيانا كثيرة.
والآن ما الذي يحتاجه كاتب الومضة ليقدم ومضة قصصية ذات مغزى ولها التأثير القوي، وتتمتع بكل المقومات الفنية؟ إنها تحتاج إلى التأني والخبرة، وحسن التقاط المشهد الغني بالتأويل والتفسير الذي يفرض الشك لعدم قبوله اليقين التأويلي المعرفي مع تحقق كل عناصر القصّ الرئيسية، ولا بد من أن يكون في القصة القصيرة جدا ثلاثة عناصر رئيسية لا يجوز أن تغيب في أي ومضة أو قصة قصيرة جدا، وهذه هي: أولا وثانيا الحدث المصوغ بلغة عالية التوتر والحساسية، وثالثا الشخصيات، ويمكن أن يكون شخصية واحدة فقط، يمكن أن يمثلها الكاتب نفسه، ولا بد من أن يشارك القارئ بجزء من النص يفسره حسب وجهة نظره ومخزونه المعرفي، وضرورة تجنب اليقين القاطع في النص، لأنه يصبح فكرة وفرمانا وسلطة معرفية مغلقة، وهذا يبعد النص عن أن يكون قصة قصيرة جدا، ويفقدها مبرر حياتها وحيويتها!