كلمات إلى القدس- محمد علي طه
مسكونًا بالهمِّ والأسى دخلتُ أميرة المدن، للمرة الأولى، في صباح الحادي عشر من تموز 1967، بعد شهرٍ من الحرب التي أسمَوْها الأيام الستة، تشبّهًا بالخالق، إلا أنّهم لم يستريحوا ولن يستريحوا في يومها السّابع الذي طال واستطال حتى اليوم وإلى ما بعد حدود التّاء في كلمة المقاومة.
جئت إلى القدس يومئذ مع والديّ، رحمهما الله، ليصليا حيث صلى المصطفى عليه الصّلاة والسّلام.
لم أبكِ كما بكى ابن مريمَ حينما أشرف عليها، فأنا لست نبيًّا ولا إلهًا ولم يلقنني جبريلُ عليه السلام حجّتي.
عبرت من باب العمود، جبت عبر الحجّاج والفلاّحات بائعات الفواكه والخضار، حيث عبر العساكر والمحتلّون، حيث عبر الرّهبان والشّيوخ وطلبة العلم والزّاهدون، حيث عبر السّواح والسّماسرة وتجارُ المخدّرات، فقرأت ذلَّ الأسير في عيون الحجارة القديمة، وسمعت الآهات من الأعشاب اليابسة بين المداميك العتيقة.
أربكتني النّظرات المنكسرة من مُقل المقدسيّين المتعبة تعاتبني هامسة همسًا جارحًا: ما الذي أتى بكَ؟ وتحدجني كأنّني كائن غريب هبط من اللامكان في ساحة دارٍ لا تؤهّلُ ولا تسهّل به.
كبُرَ الأسير يا أهلي.
شبَّ الطفل الذي حملت أمُّه الوسادة وتركته في المهد، وسرى الليلة يبحث عن حضنها.
كانت القدسُ في ذلك الصباح دماياها حماياها. الوجع والجوع، والذلُّ والفقرُ يعششون في قناطر أسواقها.
وأسير بلا قدمين وبلا ساقين على بلاط زواريبها وأزقّتها التي ما عرفت المياه والمكانس منذ زمن. أحدّقُ مذهولاً في البنايات القديمة. يطلُّ التاريخُ من كل قنطرةٍ ومن كل مدماك، وعلى كل جحرٍ آية من القرآن وإصحاح من الإنجيل. تقول الحجارة لي: من هنا مرّ اليونانيّون والرّومانيّون والمغول والصّليبيّون والأتراك والجنرال الوقح اللنبي. من هنا مرَّ السّمرُ والشّقرُ والصّفرُ والزّنجُ. ارتكبوا المجازر، والمذابح. سلبوا ونهبوا. حرقوا واغتصبوا. وبقيتُ. السّور جسدي والقناطر أضلعي. صمودًا يا من حفرتم اسم فلسطين على صخرة أنف الكرمل بأظافركم!!
أصل إلى السّوق المُعتم فأمشي كما مشى المسيحُ على سطح بحيرة الجليل، وأجتاز البوابة بين صفاقة الجنود وغطرستهم وصراخ الجنرال مردخاي غور "جبل الهيكل تحت سيطرتنا" وأجد نفسي في حضرة الملائكة. وفي حضرة الأنبياء، وفي حضرة الله تعالى.
برهبة نسير على بلاط الأقصى القويّ المتين الذّليل، نشاهد بقعة دمٍ جافٍّ مالَ احمرارُه إلى السّواد، نتحلّق حولها، محدّقين بها، عيوننا لا تبارحها، ورعين، خاشعين، أتقياءَ.
أسمع وقعَ خطى. رجل معمم يهرولُ نحونا. حاذروا واحذروا دم الشهيد. الشهداء لا يموتون. نقرأ له الفاتحة بخشوع.. حتّى أنا الذي لا أصلّي. اللهم أنتَ العفوُ وتحبُّ العفوَ فاعفُ عنا وسامحنا. يا أخانا الشّهيد. يا أفضلَ من في أمّتنا. هل تسمعنا؟ كبُرَ سجنُنا وازداد عددُ أسرانا. كبُرَ الهمُّ وكبرَ الغمُّ.
يمامة المسجد الوحيدة تحطّ على القنطرةِ. يا يمامة المسجد! جاءك المغولُ من كل الجهات. ومن فوقٍ ومن تحتٍ. أتاك بطرسُ النّاسكِ الجديدُ يمتطي حمارًا أبيضَ مرتديًا عباءةَ حاخامٍ سوداءَ، لا يحرّم ولا يحلل، يقرأُ إصحاحًا بعد إصحاح من سفر يوشع. الربُّ يحبُّ الدمَ ويشتهي الموت ويجيزُ السّلبَ والنّهب والسّبيَ والأسرَ والحرائق.
لهم ربُّهم ولي ربّي.
مبهورًا بلون القبّة وزخارفها. أقرأ الكلمات المحفورةَ على رخام وجنتها، وأجتاز الباب، بدون تأشيرة دخول أقدّمها لرضوان، وبدون توصية من قاضي الجليل. وأنا في حضرة سيّدة الصّخور. في حضرة المعراج. أنا حيث تكلّم محمدّ بن عبد الله، صلاة الله عليه وسلامه، اللغة العربيّة الفصحى. أنا حيث أذّن بلال في حضرة أمير المؤمنين عمر فبكى وأبكى. رحمكما الله يا أبا عبيدة ويا معاذ بن جبل.
تسألني سيّدة الصّخور عن أخبار الوفد العربيّ الذي ضمّ علماء وأدباء وقضاة وقساوسة وطاف على عواصم سايكس بيكو من الخرطوم إلى بغداد، ومن القاهرة إلى الرّياض، ومن دمشق إلى الجزائر، فأقول لها: قال غوستاف لوبون: كان سلوك الصّليبيّين حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطّاب نحو النّصارى حينما دخلها قبل بضعة قرون. كان لا يُرى في شوارع القدس وميادينها ومسجدها سوى أكداس من رؤوس العرب وأيديهم وأرجلهم، فلا يمرّ المرء إلاّ على جثث قتلاهم. وأقول لسيّدة الصّخور أيضًا: وجاء في كتب التاريخ أنّه بعد سقوط القدس وحدوث مذبحتها ذهب وفد من الشّام في رمضان إلى بغداد عاصمة الخلفاء وقالوا كلامًا في الجوامع أبكى العيون وأوجع. استغاثوا وبكوا وذكروا ما دهم المسلمين في البلد المقدّس من قتل الرّجال وسبي الحريم والأولاد ونهب الأموال.
وعاد الوفد بدون أن يبلغ الأرب، ولم تُقض له أيّة حاجة. كانوا ينفخون في رماد. فمعذرةً سيّدة الصّخور ومعذرةً أميرة المدن.
ها هو الوليد ابن عبد الملك تصحبه أم البنين يصعد الدّرجات من المسجد الأقصى إلى قبّة الصّخرة. يعاتبني الوليد لأنّ الخليفة المأمون محا اسمه عن حائط الأقصى ونسي أن يمحو تاريخ البناء.
وتقودني قدماي ثانية إلى بقعة الدّمّ وأرى طفلاً مصلوبًا فوقها يتلو الفاتحة. سلامًا يا بن الشّهيد ومعذرةً يا بن الشّهيد. اغفر لنا ضعفنا واغسل خطايانا.
من باب الخليل إلى باب الأسباط. ومن باب العمود إلى خان الزّيت دم أبيك ودم المسيح يلتقيان. دم أبيك ودم ضحايا مجزرة الصّليبيّين يمتزجان. قل لي: ما هذه العلاقة السّرمديّة للدين بالدّمّ؟ للأنبياء بالقتلى؟ لله بالشّهداء؟
وأعرّج على قبر أمير الشّهداء. وأقف وراء القضبان وأقرأ الفاتحة. تركوك يا عبد القادر الحسينيّ فقتلوك. دفنوك وما نسينا.
وأبحث عن ابني الطّفل الصّغير فأجده يعدو على البلاط، يقفز، ينطّ، يغني: القدس لنا القدس لنا.
وأغادر المسجد متّجهًا إلى كنيسة القيامة باحثًا عن اللاجئ الفلسطينيّ الأوّل. صلبوك مرّتين. قتلوك مرّتين. قم. انهض. المسيح قام. وشعبي نهض.
وعامًا بعد عام احجّ إليك يا زهرة المدائن. أزور الأقصى وأزور الكنيسة. وذات مرّة اعترض طريقي شرطيّ حبشيّ. قادم جديد جواز سفره رشوة حاكم من أيتام سايكس بيكو. يقول لي بعبريّة مكسّرة. شلي موليدت، شلي موليدت (الوطن لي الوطن لي) وأقول له. يا حفيد أبرهة؟ لك الدولة ولي الوطن. ويا حفيد أبرهة لن أقول للبيت ربّ يحميه. نحن نحميه.
وأبصق عليه وأسير. أمشي في السّوق أقرأ الآيات على الحجارة القديمة. أقرأ الأسى في العيون. أصل حيث وقف الفاروق وصلاح الدين. وأسمع من بعيد صوت فيروز. أمشي متفجّرًا بالقلق. أرى رهطًا من الأدباء والعلماء فأحاول أن أتعرّف عليهم. هذا أمير البلاغة اسعاف النشاشبيّ. هذا خليل بيدس أمير القصّة. هذا اسحاق موسى الحسينيّ. وهذا شابّ جميل أنيق يقترب منّي. أصافحه وأحادثه. يرسل شابا صغيرًا كان برفقته ويعود الشّابّ يحمل كتابًا يهديني إيّاه. ربيع في الرّماد. لماذا اختار هذا الكتاب بالذّات؟
ينقلني صديقي حسين في سيارته الصّغيرة إلى القطمون وإلى الطّالبيّة. حيّان عربيّان فلسطينيّان جميلان. هذا بيت ادوارد سعيد. النّاقد الكبير والمثقّف الكبير والمفكّر الكبير الذي حمل قضيّة القدس وفلسطين في أمريكا. وهذا بيت خليل السّكاكينيّ. يا أبا سريّ! نهبوا مكتبتك الغنيّة. استعار لي طالب جامعيّ صديق في العام 1964 كتابًا للمازنيّ من الجامعة العبريّة فوجدت على الصّفحة الأولى اسمك بخطّ يدك.
ويشير حسين إلى بيت جميل. إلى قصر شاهق. ويقول لي: هذا البيت الجميل هو بيت حنّا بشارات. رجل بجوازيّ. هل تعرف من احتلّه وسكن فيه؟ غولدا مئير. يسرقون البيوت ويسرقون الكتب وينهبون التّاريخ.
لا شيء ينقذني من الجنون سوى حجر صبيّ وقصّة أكتبها. كتبت "الخطّ الوهميّ" وكتبت "صادروا الفرح في مدينتي" وكتبت "ما تيسّر من سورة زهرة المدائن" والقدس تستحقّ أكثر. وأنا لا أملك سوى قلمي لأزرع الأمل وأحارب اليأس وأطارد الغزاة.
آتي إلى القدس. أزورها. يمدّني أهلها بدم الصّمود وأزوّدهم بخبز البقاء وأجد أن المدعو شارون حوّل الله إلى تاجر عقارات، تاجر غير أمين. ومؤتمر قمّة ينعقد ومؤتمر قمّة يتفرّق. والوفد الشاميّ ما زال في بغداد يُبكي المصلّين.
ما حكّ جلدك يا بن أمّي سوى ظفرك. حسنٌ أنّك تولّيت أمرك. عظيم أنّك تولّيت أمرك.
كنت أقرأ الفاتحة للأب الذي تركوه فقتلوه وصرت أقرأها للابن الجميل الذي دعوه وقتلوه.
الأب والابن. وشعبنا روح القدس.
أما آن لهذا الليل أن يترجّل؟
بحجارة الأبناء، بسواعد الشّابات والشّبّان، بصمود الأهل، بالعرق، بالدّمّ، حتمًا سيرحل. الليل سوف يرحل.
صمود القدس يأتي من حجر طفل من جبل من أحيائها، من رائحة الزّعتر على بسطة فلاحة عند باب العمود، من زغرودة امرأة في سخنين في عرس ابنها، من آذان الفجر في أمّ الفحم، من رنين أجراس كنيسة البشارة في النّاصرة. من تفعيلة قصيدة لشاعر المقاومة، من دفتر تلميذ في الصّفّ الأوّل يتمرّن على كتابة حروف الهجاء، من ثبات سور عكا، من شعاع نورانيّ يتصاعد من القبر في المقاطعة، من قرار وطنيّ في المقاطعة، حتمًا وطنيّ، حتمًا وطنيّ، يجب أن يكون وطنيًّا، لا من فتاوى شيخ خرفان يتغذّى بغاز الدّوحة.
نحن أمّ الطّفل يا سليمان!
الطّفل لنا، والقدس لنا، والأقصى لنا، وكنيسة القيامة لنا، وحرف الضّاد لنا، وهذا الوطن لنا. لنا. لنا.
*ألقى الكاتب هذا النّصّ في مؤتمر القدس العاصمة الدّائمة للثّقافة العربيّة في مدينة رام الله.