أسطرة المدينة- جعفر حسن
من المعروف عن الشعر الفلسطيني هيامه بالمكان ، وقد تجلى هذا المكان على اشكال عدة تتعلق بحركة الهجرة الفلسطينية داخل الارض المحتلة أو خارجها ، فكانت صور البيت والخيمة تعكس ما فيهما من حميمية التجربة الانسانية عبر الزمان ، وتلك الحميمية التي امتدت إلى تجربة المخيم ، فكانت المخيمات تتحول إلى شيء اشبه بالمدينة بما فيها من ازقة وطرقات ، وما يلزم الحياة بشكل عام . ولكن تجربة الشاعر الفلسطيني داخل الارض المحتلة فرضت عليه في تعامله مع المكان صورة المدينة التي اقام بين جنباتها أو كانت متخيل له ، ومن ملامح صراع الوجود بين الفلسطينيين والمستعمرين المستوطنين صراع على المكان بوصفه وطن ، بينما اعتبرت دولة الاحتلال محورا عسكريا كمكب نفايات بشري .
بينما ظلت القدس محورا من محاور ذلك الصراع الممتد على مدى عمر الاحتلال الذي يزعم فيه بكونها عاصمة ابدية لدولته ، بينما ظل الفلسطيني متمسكا بتلك البقعة لما لها من دور في المخيال الجمعي للعرب المسلمين ولكنها باتت ارض تقضم كل يوم تأكلها المستوطنات.
ربما كان المنفذ الذي سيدخل منه الشاعر الفلسطيني المتوكل طه إلى القدس يعبر عبر بوابة تاريخا العريق ، والذي يمتد إلى ما قبل ميلاد المسيح قرونا ، لتحمل هذى المدينة اسماء عديدة ، كان من ضمنها إلياء وهي التي وردت في النصوص الاسلامية القريبة من عصر الفتح ، والخطاب الموجه إلى اهلها بالمعاهدة مشهور في التراث الاسلامي ، كما أن يبوس من اسماء القدس التي تنسب فيها إلى اليبوسيين وهم فرع من الكنعانيين استوطنها ، ويبوس هي التسمية الثانية عبر التاريخ لمدينة القدس ، فاختار لديوانه عنوانا يحمل تلك الاشارات التي تدل على الذهاب في عبق التاريخ ويستثمره لصالح الحالة الصراعية التي ينبني النص على اساسها ، ويعتبر عنوان الديوان عتبة أولى للنص الممتد عميقا والمشغول " بحرفنة" الشاعر المجرب فيسمه بـ "نصوص إيلياء ويبوس".
ولعل وسم الديوان بعبارة نصوص تذهب في اتجاه التنوع الذي حمله الديوان من حيث الشكل ، فقد ترافقت قصيدة التفعيلة مع العمود ، ولعلنا نجد التفعيلة بشكلها الكامل في مقطع (أرض السماء) ، وقد ظهرت قصيدة التفعيلة كما في المقطوعة المعنونة (بعشاق يبوس) و (يا قدس) ، بينما ظلت قصيدة (طائر المدينة) تحتفظ بنسقية العمود على الرغم من شكل الكتابة الذي يوحي بطريقة كتابة قصيدة التفعيلة ، ولعلنا نتلمس تشبع نصوص إيلياء بنفس شعري يذهب إلى الارتكاز على الصورة المتداخل مع سرد يكاد يضيء لوقوفه بين القصة القصيرة جدا وقصيدة النثر بينما يحتفظ النص بنبضه الشاعري ، وعلى صعيد المعنى يذهب الشاعر نحو التجربة الروحية التي تتمرد عبر التاريخ لتجد معادلا روحيا يفوق مسألة الصراع الذي يذهب نحو القتل والدمار ليتلبس اقنعة اهل يبوس ويستحضر من استنطاق التاريخ شخصيات ومدن عدة تتطابق في النهاية مع اهل فلسطين ومدينتهم العظيمة القدس ، كما لا يغفل عن ضرب معادلة تفضي إلى أن القاتل ليس مثالا للقتيل.
"الجنود المسخ المقنعون بالزرد اللامع والندوب الخشنة
يقتلون الاطفال ، لكي يأكلوا اللحم الطري !
***
الضحايا يأملون بأكثر من المجد ...."( )
" حب المدينة الذي يحركني ،
وليس كراهية أعدائها ."( )
"في المدينة جمال سماوي يرحب بكم ،
فادخلوها ... شهداء !" ( )
"الاشباح لا تبكي
وحدنا من يملك الدموع ..."( )
ويظل الديوان مرتكزا على ثيمة المدينة بما تحمله من اتجاهين يذهب احدهما في الخسران
"أوسلو أعطتهم المدينة ،
وأعطتنا الحسرة ." ( )
بينما يظل الشاعر يحتفظ بالمدينة باعتبارها حلم تحمله الروح لتبقيه في حالة اليقظة انها مدينة المدن التي تحمل في ابطها تواريخ المدن العابرة لتاريخ الشرق الادنى ، وبهذا تتحول القدس في النصوص من مجرد مدينة إلى اسطورة عابرة لتاريخ الشرق الادنى وتاريخ الحروب ، لكنها (القدس) برغم اسماءها (الياء) تظل تتمايز في روح المتوكل طه وتعلوا
"سأرفع ايلياء زهرة زجاجية ،
إلى أن تطاول النجوم ، التي تراقب الارض
المدماة والمنتهكة .. والحالمة ،
وإلى أن تصبح المدينة شمعتي البابلية
البيضاء ...
التي سأفكر بها كل يوم ،
وإلى الأبد ." ( )
تتشرب القدس في الارواح بكونها محط التطلع ، ولكن المتوكل طه وهو ينحت صورتها عبر اقواس العطر ، وقنطرة الحرير ، وسكر الاسواق ، وباب الضوء ، وشباك الدوالي ، ورعشة الالماس ، وصوت العين ، يصطدم بالصبر المعتق والرجاء ، إنها المدينة التي قطعت جدائلها بالضغائن والمكائد والحروب ، لكننا يمكن أن نتلمس نفسا ايديولوجيا في النص يمتد من منابعه الاولى حتى الختام ، وهو ينبع من التشبع بتاريخ القدس الاسلامي والذي يستطيل عبر العصور ضمن صراعية تحضر الاخر وأطماعه وما يريد ، كما مر التاريخ في تجربة الشاعر المتوكل طه وهو يخرج تجربة البرامكة في ديوانه (حليب اسود)( )، ويمكننا تلمس ذلك التشبع وإن ظل ثاويا تحت الصورة الفنية.
"والقدس طفلتنا التي قصوا جدائلها
بأسئلة الضغائن والمكائد والحروب ،
هم غيروا ذهب الشروق على مآذنها ،
فأدركها الغروب
هم هجروا اطيارها ، من بعد أن هدوا منابرها
فتاهت في الدروب ،
هم ابعدوها عن ملامح أهلها
هم عربوها عن مطالع قلبها النبوي باسم السلم
ساقوها إلى حضن الذي اغتصب الطفولة
والزنابق والهواء ."