إنهم يحرقون الكتب- عبدالغني سلامة
رغم الومضات المشرقة في تاريخنا القديم، التي تألق فيها العلماء، ونشطت خلالها حركة التأليف والترجمة؛ إلا أن بعض الصفحات السود من هذا التاريخ الملتبس شهدت حوادث حرق متعمدة لكتب ومكتبات، فضلا عن عمليات تعذيب وإعدام للكثير من العلماء والفلاسفة، كان الجهل والتعصب الأعمى، والخوف من وجهة النظر المخالفة، إلى جانب عمليات الغزو الأجنبية، والحروب والصراعات الداخلية من بين أهم الأسباب لهذه الجرائم التي أدت إلى ضياع ما يزيد عن ثمانية ملايين كتاب ومخطوطة على أقل تقدير، كان يمكن لها أن تنقل العالم بأسره إلى آفاق مختلفة، وتختصر علينا جميعا قرونا من التخلف.
من بين أشهر حوادث حرق المكتبات ما جرى على يد التتار، حين دمروا مكتبة بيت الحكمة مع ستة وثلاثين مكتبة عامة أخرى في بغداد، وإلقاء ما فيها في دجلة، حتى اختلط حينها لون النهر ما بين الأحمر المتدفق من البشر، والأسود المنساب من الكتب. وقبل هذا التاريخ وبعده حُرقت مكتبات أخرى لا تقل أهمية؛ ففي نهاية القرن العاشر الميلادي أحرقت جيوش الفرنجة مكتبة بني عمار في طرابلس، التي كانت تضم نحو ثلاثة ملايين مخطوطة. بالإضافة لعشرات المكتبات التي أحرقتها جيوش القشتاليين في إسبانيا بعد طرد المسلمين من الأندلس، وإقامة محاكم التفتيش.
ومن بين أبشع جرائم حرق المكتبات، حرق مكتبة الإسكندرية في القرن الخامس الميلادي، وهي الفترة التي شهدت احتدام الصراعات الدينية بين المسيحيين واليهود والوثنيين، وكان آخر من تولى إدارة المكتبة العالم ثيون، والد عالمة الرياضيات والفليسوفة الشهيرة هيباتايا، التي قتلها القساوسة المتعصبون بطريقة وحشية، بأمر من الأسقف سيريل، والغريب أن الكنيسة اعتبرته قديساً سنة 1882.
أما عن المكتبات التي أُحرقت على يد الخلفاء، أو في سياق الصراعات الداخلية، فمن أشهرها مكتبة سابور في بغداد، وكانت تضم أكثر من عشرة آلاف كتاب، أحرقت على يد الملك السلجوقي طغرل بك. ومكتبة ابن حزم الأندلسي التي أحرقها المعتمد بن عباد صاحب أشبيلية، وفي عهد الخليفة أبو يوسف يعقوب المنصور تمت مصادرة كل الكتب الموجودة في مكتبة ابن رشد، والتي تضم إلى جانب كتب هذا القاضي الفيلسوف كتب أخرى لابن سينا والفارابي وبن الهيثم وغيرهم، وتجميعها في الساحة الكبرى في قرطبة وحرقها كلها، وإرغام ابن رشد على مشاهدة احتراق مكتبته، وسط تكبير وصراخ الغوغاء بتحريض من بعض شيوخ الدين. وأيضا مكتبة الركن في بغداد وقد أحرقت بأمر من الخليفة العباسي الناصر لدين الله، وكُتب الإمام الغزالي في المغرب أحرقها أمراء المرابطين، أما الخليفة المنصور الموحدي (في القرن السادس الهجري)، فقد تعهد بحرق كل كتب المنطق والفلسفة، في حين أحرق الخليفة المتوكل كل كتب المعتزلة وعلم الكلام.
وأيضا دار العلم بالقاهرة التي كانت تعد أضخم مكتبة عرفها التاريخ الإسلامي، وقد أسسها الخليفة العزيز بالله الفاطمي، وكانت تضم أكثر من ثلاثة ملايين مجلد، تعرضت للخراب والدمار، وضاعت كتبها حين وقع الخلاف بين الجنود الذين لم يتلقوا رواتبهم بسب المجاعة، مما دعاهم للهجوم على المكتبة وتخريبها، ويقال أن صلاح الدين الأيوبي أسهم أيضا في ضياعها.
وهناك إدعاءات بأن عمرو بن العاص أحرق ما تبق من مكتبة الإسكندرية، وأن الجنود المسلمون أحرقوا مكتبات الفُرس بعد فتح بلادهم؛ إلا أن مؤرخين كُثر فندوا هذه الإدعاءات.
وفي العصر الحديث، لم يتوقف هذا المسلسل البائس؛ ففي عام 1814 تم حرق مكتبة الكونجرس الأمريكية بصورة متعمدة، وهناك عشرات الحوادث المماثلة التي يصعب حصرها في هذا المقال.
بعد الغزو الأمريكي واحتلال بغداد، استهدفت العصابات المنظمة متحف بغداد، ونهبته وخربت محتوياته التي لا تقدر بثمن، وبعدها بسنوات قليلة قام المتنفذون في الحكومة بتخريب كافة بسطات بيع الكتب في شارع المتنبي، بحجة تنظيف الشارع !! ومن المعلوم أن شارع المتنبي يضم أكبر وأشهر مكتبة شعبية في العالم، حيث تباع كل الكتب الممنوعة والمصادرة.
كما قامت في نفس الفترة جرافات وزارة الداخلية في حكومة حماس، باقتحام أحد المقاهي الثقافية في غزة: "الجاليري الثقافي"، وهدمته محيلةً إياه إلى كومة أنقاض، وهذا "الجاليري" هو المتنفَّس الوحيد للنشاط الأدبي والثقافي في قطاع غزة. وكان وزير التعليم في حكومة حماس الأولى قد أمر بمصادرة كتاب "قول ياطير" من كافة المكتبات وحرقة، بحجة أنه يتضمن ألفاظ نابية.
وفي فترة الصراعات الداخلية التي تعيشها مصر منذ ثورة يناير 2011 قام مجهولون بإشعال النيران في المجمع العلمي المصري خلال أحداث مجلس الوزراء، فأتت النيران على أغلب محتويات المجمع البالغ عددها 200 ألف وثيقة؛ تضم مخطوطات وكتباً أثرية وخرائط نادرة، كانت تمثل ذاكرة مصر وتاريخها.
وفي حادثة أخرى، تعرضت مكتبة الكاتب المصري محمد حسنين هيكل إلى الاحتراق بالكامل، وذلك على يد أنصار الرئيس المعزول محمد مرسي، وتضم مكتبة هيكل آلاف الكتب، وعددا كبيرا من الوثائق النادرة، وحسبما ذكرت الصحافة المصرية فإن واقعة حرق المكتبة أتت بعد ساعات من فض اعتصام رابعة العدوية المؤيد لمرسي، بعدما أعلن نشطاء ما سموه القائمة السوداء، التي تضم أسماء الكتاب الذين دعموا الانقلاب، ومنهم هيكل.
وفي لبنان التي تشهد عودة تدريجية للفتنة الطائفية، تم إحراق مكتبة السائح التي يملكها الأب ابرهيم سروج، في منطقة السرايا في طرابلس. والمكتبة تضم أكثر من نصف مليون كتاب، وسبب الإعتداء شائعات نُسبت للأب سروج تتهمه بالتهكم على الإسلام.
الحُجة دوما في حرق المكتبات التخلص من الأفكار المغلوطة والمسيئة !!
لكن الدافع واضح: التعصب والتوهم بامتلاك الحقيقة، والنزعة لمصادرة الرأي الآخر. أما الهدف الحقيقي فهو استهداف الكتب التي تطالب بالحرية والعدالة الاجتماعية ومحاسبة الفاسدين، والتي ترفض الطائفية والتعصب والهوس الديني. أو لنقل ببساطة: "خوف الطغاة من الأغنيات".
وقيل قديما: "من يحرق كتابا اليوم، سيحرق إنسانا في الغد".