رواية السلك تتحدى مقررات الواقع ومعطيات المنطق بواقعية ساحرة- احمد مسلم
القدس - رام الله - الدائرة الإعلامية
كان الأفق مظلما كجوف لا متناه. وهدير البحر سحابة زرقاء تزحف فوق الارض الرملية الرخوة. بهذا الوصف الواقعي الساحر استهل عصمت منصور روايته عن واقع لم يعشه انما يرويه بانتماء من عاشه وايمان من حلم به وانتظار من منعته جدران السجن عن مزاولته. هو عصمت منصور الفتى ذي السبعة عشرة سنة الذي حكم بالسجن المؤبد مدى الحياة لمشاركته في التصدي لجيش الاحتلال مدافعا عن بيت وأم وأحبه .
عشرون سنة هي القطعة الزمنية التي قضاها عصمت في السجن حيث تعلم وكبر وشب ليخرج لنا محملا بالحكايا وروايتين. أولهما رواية "سجن السجن" والثانية هي رواية "السلك" والتي سأتناولها في هذه القراءة
رواية السلك - الصادرة عن الرصيف الثقافي للنشر والتوزيع في رام الله - رواية تتحدى مقررات الواقع ومعطيات المنطق بواقعية ساحرة. حيث يتحدى الانسان نفسه في معركة وجود ملحمية تصل حد الاسطورة. فعندما ترسم الشخوص أقدارها يمسي أقل تغيير في واقعها المعاش مؤثرا حقيقيا على سرد الحكاية والنتائج. في الرواية الشخصيات تنتظر القدر ونحترم مفهوم القدرية لكنها في لحظة حاسمه تتحدى هذا النص لتحاول ان تفرض نصها ومشيئتها في تحد اسطوري حبك بواقعية ساحره .
على مستوى قصة السرد نرا ان رواية "السلك" لعصمت منصور اتخذت في ظاهرها سردا كلاسيكيا لكنها حملت مضامين حداثية بالغة بالتأثير على مستوى القصة والخطاب اثرت على الشكل العام للرواية دافعا القارئ نحو التغلغل في متن الحكاية اكثر غير آبه بصنفها او نوعها. وهذا نوعي المفضل .
الشخصيات في "السلك" انسانية بحتة تضع همها الشخصي في المقام الاول. لتكرس صورة البطل الانسان. بعيدا عن صورة البطل الاغريقي الخرافة. فعظم شخصيات "السلك" ومن على جانبي السلك هم ابطال الموقف المحدد في الزمان والمكان. حيث نرى الأم العادية البطلة والمثقف المخذول والمغترب في وطنه والجندي المؤمن والطفل الثائر والحبيبة المخذولة والباحثين عن الخلاص. كلهم شخصيات واقعية مأخوذة من واقعنا الوحلي المعيش .
لغة السرد في رواية "السلك" لعصمت منصور رقيقة محبوكة بصبر صياد بتأن وعناية. لغة ذات ايقاع متدرج من الكسول الوصفي الهادئ في البداية إلى البطيء في المتن. ثم تتسارع لتصل الى سرعة تكاد تكون مرهقة الأمر الذي ربما ارجعه الى موعد تحرير كاتبها حيث امتزج توق الكاتب الشخصي للحرية والانعتاق من الأسر مع توق بطله للراحة والخلاص ليخرجا معا من دوامة الدوائر الضاغطة احدهما الى الحرية المجتزأة والمحاصرة من خلال اطلاق سراح الكاتب المشروط بالإقامة الجبرية داخل حدود رام الله. ودخول الاخر الى السجن. المكان الذي رأى فيه الكاتب خلاص بطله من العذاب ليمتلك الوقت على الاقل لكي يراجع ما سبق من احداث اسطورية نسبة للزمن والمكان .
رواية "السلك" رواية جموح نحو الإنسانية. باتجاه المشاعر المطلقة. تتحدى من خلال أبطالها الثوابت الاجتماعية المتآكلة داخل مجتمعنا الفلسطيني. من عادات سلبية وقيم متهتكة. هي وصف واقعي لمجتمع ما بعد الهزيمة راقب وسجلت شهادتها لتحوله الى مجتمع الحصار المهزوم .
رواية عصمت منصور " السلك" هي رواية التحام واشتباك انساني مع الحياة والواقع المعيش. خالية من الاشتباك الكاذب المشوه الغبي القبلي محدود الافق والاعمى. اشتبك البطل فيها مع واقعه ليغيره قبل ان يشتبك مع الاحتلال. حاملا قراءة واعية لمستجدات المرحلة ومتطلبات الوطن. حيث الوطن الانسان. رواية تؤكد على الانسان كضرورة حتمية في الصراع وعلة وجود الوطن .
هي رواية مقاومة من طراز غائب تبعث الامل وتفعله وتحض عليه. الامل المكلف المتعب الموجود. الامل الواعي الذي يحتاج لإرادة وإيمان عقائدي واع بالوطن .