حاخام على خط النار
جميل ضبابات - لماذا يضع حاخام يهودي غطاء الرأس (الكيباه) في قرية فلسطينية، ويسير منفردا، بكل ثقة؟. 'ولماذا لا'؟!. يقول ايرك اشيرمان.
فللكيباه في هذا اليوم، منظور آخر.
فإذا كنت تلبس طاقية حاخام وتسير ملوحا بيدك من نافذة مركبتك في قرية فلسطينية، تدافع عن حقول الفلسطينيين أمام هجمات المستوطنين وسياسة الاحتلال، فانت لست من جماعة دفع الثمن (تاج مخير) الإرهابية.
أنت بالتأكيد من: جماعة الحاخام ايرك، الصغيرة، التي لا يزيد أعضاؤها عن عدد أفراد وحدة صغيرة في الجيش الإسرائيلي.
لكن من هو ايرك؟.
اذا شاهدت بعض رجال دين يهود يقومون بغرس الزيتون في القرى الفلسطينية، أوّ يجر بعضهم إلى المحاكم الاسرائيلية. فبالتأكيد، هم: اما ايرك، أو واحد من الحاخامات الذين يعملون معه.
إنه، الاسم الذي يتردد في الحقول المحروقة بعد كل عملية ارهابية، ينفذها المستوطنون.
رجل في اواسط الخمسينات من عمره، منكوش الشعر، ومهلهل اللباس، لا يكف عن استقبال المكالمات الهاتفية.. وايضا يتجول طيلة قيادته للمركبة بنظره على الحقول مثل بومة جادة لا تتوقف عن مراقبة محيطها.
ويلعب عدد قليل من الاسرائيليين في الجانب المظلم من المشهد السياسي والامني القاتم، الذي تحاول الولايات المتحدة ايجاد مخرج له من خلال انجاز اتفاق.
فعلى الرغم من استطلاعات رأي تشير إلى تنامي الظاهرة اليمينية المعادية لقيام دولة فلسطينية، ثمة قليلون يدعون إلى منع هجمات المستوطنين على الشعب الواقع تحت الاحتلال.
لكن المجموعة التي يقودها ايرك ويعمل فيها بعض الفلسطينيين في مجال حقوق الانسان، ترى ان ما يجري من هجمات واحتلال 'هو الجنون الذي لا ترضى به الشريعة اليهودية' كما يراها.
عندما نظر اشيرمان من نافذة مركبته التي تسير على مهل، أشار إلى المنزل الذي حشرت فيه دزينة من المستوطنين، من قبل فلسطينيين في منزل قيد الانشاء، واشبعوا ضربا بعد اعتداءاتهم على حقول الزيتون، في حادثة نادرا ما تكرر، غطتها معظم وسائل إعلام العالم.
ويخشى الفلسطينيون في الريف من هجمات دامية قد يشنها المستوطنون. فثمة توجس وخوف في القرى التي تتعرض للهجمات.
العيون التي تتابع اشرمان على جانبي الطريق في قرية جالود، الواقعة في عمق جبال نابلس الشرقية، تبدي بعض الاستغراب، لكنها لا ترفض هذه الصورة: حاخام يهودي يسوق سيارة بلوحة تسجيل صفراء، كلها اشارات غالبا ما تحمل الخوف من هجمات مبيته لمجموعات دفع الثمن في الضفة الغربية.
يقومون بحرق منازل، وقطع حقول، وتخريب المركبات، واطلاق النار المباشر احيانا.
اخترق الحاخام اليهودي بمركبته التويوتا، سلسلة القرى الفلسطينية شرق نابلس، وفي قريوت، ونظر من علو إلى سلسلة حقول الزيتون المترامية في ارض مشتعلة بمعارك يومية.
'ليس هكذا تقول التوراة؛ لماذا الحرائق في كل مكان'. يقول اريك طارحا نظرة مختلفة لحل الصراع من داخل التوراة.
كان ايرك اشيرمان اليهودي 'العدو للمستوطنين'، المعروف لدى الشرطة والمحاكم الاسرائيليتين، للتو، اغلق هاتفه النقال، وانهى محادث هاتفية مع مركز عملياته في القدس، وعبر حاجز زعترة وسط مجموعات يهودية دينية تسكن المنطقة باتجاه، المنطقة الاكثر اشتعالا في الضفة الغربية.
وفي جالود، التقط الرجل انفاسه، فيما احاط به حاخامات اخرون، وبعض الفلسطينيين المرحبين. ستتساءل وسط محيط مشتعل بالخراب الذي ينشره المستوطنون: إلى اين يتجه هذا الصراع والقتل في المنطقة؟.
لكن الجواب ماثل امامك دائما.
فعلى بعد تلتين من جالود حيث وصلت جماعة اريك لإعادة زراعة ارض دمرها المستوطنون، تظهر سطوح القرميد في' النار المقدسة' وهي مستوطنة اقيمت حديثا تمتد على التلال والجبال، وبقوة ما يقوله تفسير آخر للتوراة، يمعن متطرفون يهود ملتحون يستوطنون وسط النار المقدسة في نشر الحرائق في كل مكان انطلاقا من 'النار المقدسة'.
ستتساءل مرة اخرى، أي قداسة يحملها احتلال شعب لأرض شعب آخر؟
بدأت رحله اشيرمان إلى جبال نابلس، من بنسلفانيا في الولايات المتحدة، التي تقود جهودا منذ عقود، لوضع السلام المتعثر موضع التنفيذ في الارض المشتعلة. لكن الرجل الذي يفسر التوراة، بطريقه مختلفة عن سكان المستوطنات، لا يأبه لوضع الكيبا على راسه او حطها على تابلو السيارة.
وهو يبدو فخور بها.
'الفلسطينيون يعرفونني. لي اصدقاء في كل هذه الجبال. لي اصدقاء هنا وهناك'. قال اشرمان، الذي يقود حمله لمساعدة سكان القرى الذين يتعرضون لهجمات من المستوطنين.
اليوم هو عيد الشجرة الإسرائيلي، وعندما خرج اشيرمان من منزله في القدس الغربية، قال إنه، شاهد بعض اليهود يزرعون الاشجار، لكن الرجل كان من قبل قرر ان يحتفل بالعيد في جالود، التي دمرت حقول زيتونها واحرقت على ايدي يهود آخرين، يستوطنون اراض فلسطينية، بقوة السلام.
إنها نظرة مختلفة لتفسير دوافع ما يجري وسط جبال نابلس، من عمليات قتل، واحراق، ودهم ليلي لقرى الفلسطينيين.
فالمسألة وسط هذه الجبال معقدة. فتحديد المكان والزمان للهجمات التي يشنها مستوطنون ينضوون في جماعات ارهابية منظمة، يكاد يكون معروفا؛ انها اطراف القرى المحاطة، بمستوطنات يسكنها راديكاليون، يقومون بالتخريب في ساعات الفجر الاولى.
فيأتي اريك، وجماعته في الساعات التالية، أوّ في اليوم التالي، ليقوم بما شأنه اصلاح معنوي لما دمره المستوطنون، وهو الذي لا يحسب في الاوساط الشعبية الفلسطينية، بانه محاولة لتحقيق العدالة. ولا ايضا محاولة لتكفير ذنوب المستوطنين التي لا تعد ولا تحصى.
لكن عبد الله الحاج محمد رئيس مجلس قروي جالود، وعينه على تل شيلو الذي تنطلق منه هجمات المستوطنين على القرى، يقول من وسط حقل محترق تماما لاريك وجماعته 'انتم مرحب بكم. اهلا وسهلا بكم. اهلا وسهلا بكل من يناصرنا'.
وتتعرض نابلس، لهجمات متواصلة من المستوطنين من داخل المستوطنات. والمنظمات الدولية مثل الامم المتحدة تقول إنها الهجمات تضاعفت بشكل كبير.
وتقف الحكومة الاسرائيلية موقف المتفرج على ما يجري يوميا، رغم تحذيرات المؤسسات الدولية، لما قد يجره هذا التغول الذي وصفه مسؤولون دوليون بانه 'جنوني'. فإحراق المساجد قد يقود إلى حرب دينية. واحراق الحقول مصدر رزق السكان قد يؤدي إلى ردات فعل لا يعرف كيف يتم وقفها.
قبل 18 عاما عندما بدأ اريك تحركه باتجاه القرى الفلسطينية، لم يكن المستوطنون يجرؤون الدخول إلى القرى الفلسطينية، لكنهم الآن على بعد امتار من جالود.
فاذا كنت من سكان القرية أوّ واحدة من سلسلة القرى المجاورة، فبإمكانك في اي لحظة مشاهدة واحدة من الهجمات التي لا تتوقف ابدا.
واذا كنت واحدا من مجموعة تتكون من 120 حاخاما 40% منهم ولدوا في دولة الاحتلال.
فستفسر الأمر بلطف عميق، لكن ستعترف ان حل الصراع ليس سهلا تحت الظلم.
اتهم ايرك بانه معاد للسامية من قبل متطرفين وسياسيين إسرائيليين، وتعرض للتهديد بالقتل، وجلب إلى المحاكم الاسرائيلية مرارا. وايضا، الفلسطينيين الذين يتعرضون لهجمات المستوطنين، اعتقلوا على خلفية دفاعهم عن أرضهم، لكن مجموعات دفع الثمن ما زالت طليقة الايدي!.
هنا في الخط الفاصل وهو مراح واسع مزروع بأشجار الزيتون يفصل بين جالود والمستوطنات المحيطة بها، لا فاصل ابدا بين تطبيق سياسة الاحتلال، والارهاب.
فالمستوطنون الأيديولوجيون ذاتهم يتوسعون في بناء مستوطناتهم كل يوم نحو الحقول.
كانت مستوطنة النار المقدسة (ييش كودش) في البداية مجرد كرافانات متنقلة. لكن ذلك ليس مانعا ابدا، عند الرئيس السابق لمنظمة حاخامين لحقوق الانسان السابق الذي خلفه ايرك في قيادة المنظمة، بان يقوم الفلسطينيين بتحديد معالم حياتهم.
'إنه الوجه الحقيقي لليهودية. العيش بسلام مع الآخرين' يقول ايهود بنديل.
لكن جملة مثل هذه لن تكون ذات فائدة في هذا الصراع. فالتطرف في المجتمع الإسرائيلي يزداد. والهجمات التي يشنها المستوطنون بحماية الجيش ايضا تزداد.
لذا. ما فائدة ان يتواجد اليوم في واحدة من الجبال الفلسطينية المشتعلة، بنار المستوطنين متدينون يهود وفلسطينيون يزرعون أرضا دمرها المستوطنون. بالنسبة لايرك، فانه لا يجب التوقف. 'يجب العمل دائما'.
فالكثير من العلمانيين يسيرون خلف المتدينين من منظمة حاخامين لحقوق الانسان.
وتتساءل. هل يكفي بضع عشرات من دعاة السلام، لمواجهة سياسة الاحتلال التي يقف خلفها جزء كبير من المجتمع الإسرائيلي بينهم اعدادا كبيرة من رجال الدين والحاخامات الذين دعوا إلى طرد الفلسطينيين وسلبهم ارضهم..
اذا كيف يبدو حضور اريك الى المنطقة التي يتم تخريبها في الاراضي الفلسطينية؟
يكفي ان يعدل مصور صحافي اعدادات الزوم في عدسة كاميراته، ليخرج اريك بطاقيته اليهودية، يساعد فلاحا فلسطينيا يعتمر كوفيه لزراعة شتلة..
وكان المشهد الصغير الذي يعكس شعاع تفاؤل واحد، اقتطع من مشهد قاتم واسع جدا.
على مقربة من الحاجز العسكري المسمى محليا 'زعترة' حيث قتل هناك مستوطن قبل اشهر على ايد فلسطيني، واستشهد فلسطينيان على يد جيش الاحتلال، يخبرك ايرك 'إنه الانقسام في المجتمع الاسرائيلي يتعمق'، وتفهم منه ان ذلك مؤشرا سيئا على الوضع.