قراءة في رواية "سيزيرين"- نوال حلاوة
رواية "سيزيرين للدكتور خالد ذهني، رواية جديدة في مضمونها وفكرها، وطرحها العميق لكل ما يتعلق بقضايا المرأة الجنسية. من زواج وحمل وولادة، وختان البنات وآثاره السيئة، وعلاج العقم، سواء بزراعة الأنابيب أو بالهرمونات. "سيزيرن" وحتى من خلال الغش باستخدام الحيوانات المنوية.
"سيزيرين" تصف بدقة ما يجري داخل مستشفى ولاده حكومي، أشركنا الروائي الدكتور خالد ذهني بأحداثها يوما بيوم، من خلال أبطالها، وعلى رأسهم الدكتور كريم رفعت بطل الرواية، بسلاسة وزخم لتسارع أحداثها.
استطاعت "سيزيرين" رغم طول الرواية، ووزنها الثقيل (600 صفحه تقريبا) أن تلزمني مكاني للانتهاء منها بعد أن وضعتها على طاولة الفطور المتنقلة والمسنودة على مخدة طرية، حتى أخفف من وزنها الثقيل على كتفي المتعبين، وعيبها الوحيد ثقلها رغم انها من القطع المتوسط، ولكنها سمينة جدا.
أكملت الرواية بشغف، وعشت أحداثها واحدا تلو الآخر، منذ سنة النيابة الأولى للدكتور كريم رأفت، حتى عنبره الذي أصبح المسئول الأول عنه، وذلك في نهاية السنة الثالثة والأخيرة. مجرى الرواية، وتشابكاتها مدعوم بأبحاث علمية، محلية وعالمية، في عالم أمراض النساء الواسع بكل ما فيه من نجاح وفشل. يسجل بوتيرة عالية مجتمع أطباء النساء وتعامل الأطباء بعضهم، وكل منهم يسعى لمكسبة، الا قلة حافظت على قسمها عندما بدأت بمزاولة مهنتها. وتظهر الرواية ضياع الأطباء المتدربين بهذا الخضم الكبير.
تتميز "سيزيرن" بتسجيل مراجعها التي زادت عن 83 مرجعا، مدققة ومفهرسة في نهاية الرواية، وذلك منذ اختراع الملقط للولادات المتعسرة، وعمليات القيسرة "سيزيرن" خاصة في حالات الطفل الذي ينقلب وضعه في آخر شهور الحمل، "برتش"، الى الأنابيب الصناعية، ومعالجة العقم، والكشف عن الكامن. قصص الكامن كالخيال يصف فيها الدكتور كريم جهل وخزعبلات سائدة في الأرياف بأن الحيوان المنوي للرجل يكمن في رحم المرأة لسنوات بعد وفاته، وتستطيع أن تخلف منه، الخ من قصص الجهل المدقع لنساء يعشن عصرا بدائيا وليس القرن الواحد والعشرون.
"سيزيرين" عنوان هام للرواية، لأنه جمع تاريخ أمراض النساء، في كتاب ضخم، وعنوان من كلمة واحدة. خاصة بما حوت تلك الكلمة من مكسب حرام حيث تم استخدام عمليات القيصرة "سيزيرن"، لمزيد من الربح في مستشفى المفروض أنه حكومي، أي يعالج الفقراء، ولكنه كان بؤرة استغلال مادي، وفساد خلقي، لأساتذة كبار وجشعين، اكتشف الدكتور كريم ذلك عندما تأكد من أن عامل البدالة حامد، يقوم وبالتآمر مع هؤلاء الأساتذة الكبار من خلال تحويل المستفسرين الذين يشعرون أنهم يملكون بعض المال، ويحدد لهم موعدا بالاتفاق مع الاسم الكبير في المستشفى لتوليدهم بالجراحة القيصيرية "سيزيرين" مقابل مبلغ 500 جنيه، رغم أنها تجرى بدون أجر في هذا المستشفى الحكومي التي تدور أحداث الرواية فيه.
هدد الدكتور كريم عامل البدالة حامد، برفع شكوى ضده الى الإدارة، فتوسل له ألا يشكوه بحجة أنه بعمر أبيه قائلا: هل تشكو أباك وترفع عليه قضية توقيف؟ أجابه فورا طبعا إذا ثبت لي غشه وخداعه. ولكن الدكتور كريم اكتفى بتوبيخه، لأنه تأكد بأنه سيلاحق هو وليس حامد من أساتذة تعاونا معه، خاصة أنه هدد أكثر من مرة بأنهم سيخربون بيته، ويضيعون عليه سنوات دراسة الماجستير، واكتفى بوعد منه أن يتوقف عن استغلال الفقراء الذين يعج بهم المستشفى، فرد عليه قائلا: " انت شايف كل السيارات المرسيديس اللي في كراج المستشفى المكشوف دول، أنا اللي جبتهالهم، هم يأخذوا الملايين، وأنا آخذ الفتات، هم يسوقوا المرسيديس، وأنا لا زلت أتشعلق بالباص والترمواي."
لم يستطع الدكتور كريم رأفت شيئا أمام الاكتساح الهائل للفساد والرشوة، وذلك على الرغم من لوائح المحظورات الكثيرة في المستشفيات الحكومية. الا أن الفساد كان مستشريا فيها من رأس القمة من الأساتذة الكبار الذين لا يكتفون بريع عياداتهم الخاصة، الى القاعدة الواسعة من صغار الموظفين الذين لا تفي رواتبهم لإعالة أسرهم. الرواية هامة ومذهلة، لأنها تسجل بأمانة وصدق، من قلب الحدث الذي يقول الكاتب بأنه من الخيال، ولكنني أشك بذلك لأن أحداثها تبدو واقعية جدا، ومتفشية بكل أجهزة ومؤسسات الحكومة المصرية بخاصة والعربية بعامة. "سيزيرين" ترصد وتلاحق معاناة المرضى من الفقر، والغش، والواسطات، والتهديدات، والاستغلال، الى المتدربين من الأطباء من خلال تعيينات وامتحانات ظالمة للمتقدم منهم، والتي تنجح بالواسطه من تشاء، وغالبا البليد منهم، وتسقط من تشاء من المتفوقين النابغين إما لأسباب شخصية لمن يمتحن المتقدمين كقتها مع استاذتها التي أنقصت خمسة درجات لها في امتحانها قبل سنوات، فأرادت بعد وفاتها، أن تستد من حفيدتها المتفوقة بإسقاطها في الامتحان، أو بسبب نعرات عنصرية مؤلمة في المجتمع المصري بشكل فاضح وعلني، وذلك بين مسيحي ومسلم، وبين غني وفقير. أمور الفساد هذه تنسحب على جميع المستشفيات الحكومية في الوطن العربي برمته، لأن الإنسانية ذابت مع الحاجة التي تحولت الى طمع، ولأن الجهل متفشي، والتلفيق والغش والفساد أصبحوا السائد الأعظم. لقد حاول الدكتور كريم رأفت تحسين أوضاع المرضى ومساعدتهم، ولكن الملاحقات الأمنية المفبركة ضده زادت، وأصبح ملاحقا ومهددا بمستقبله العلمي، وإسقاطه في امتحانات الماجستير، بعد ثلاث سنوات من العذاب النفسي والإرهاق الجسدي اليومي، الذي كان ياخذ منه كل يوم شيء من ذاته.
جسد الروائي خالد ذهني، مأساة العنصرية العرقية، والدونية التي تابع أحداثها بسرد فيه الكثير من السخرية، أذكر منها قصة العاشقين المتدربين، الدكتورة مريم، والدكتور عمر، الذين سلبوا من حقهم في الحب الذي الشريف، وفرقوا بينهم، لأن عمر من منبت فقير وضيع، رغم نبوغه وتفوقه، ومريم من أصل رفيع وغني وجاة كبير. انتهى أمرهما بزواج عمر من بيئته، وانتقال مريم الى وطن الأم بعد وفاة الأب، وتفرغها لمساعدة الناس في المناطق الأكثر فقرا في العالم.
رواية "سيزيرين" كشفت عن خبايا هذه الأمور، رواية حيكت بدقة، وكشفت خزعبلات البسطاء وجهلهم. وأداء قمعي وفاشل لحكومات هدمت ولم تبنى، ونهبت ثروات الشعب، وهيمنت على حكم البلاد والعباد بالحديد والنار. كما كشفت عن التقصير المتدني في مناهج التربية والتعليم البالية، ورفعت الغطاء عن المستور، من تفشي الدخان الأزرق، كل ليلة في عقر المستشفى الحكومي، وشطحات الدكتور عرابي ومناجاته لأشعار الرومي، وما يفيض عنه من عبقرية عندما تمتلئ الغرفة بالدخان الزرق، وطيب الطعام. كما أن هروب بطل الرواية الدكتور كريم رأفت، الى قهوة ميلانو ليخفف عن نفسه عبء ما يرى وما يسمع وما يشاهد، ويدخن المحظور لينسى محاولاته الفاشلة في تحسين أداء العاملين وتعريتهم، ويستمر بنفس الوقت أمينا على عمله، ومجتهدا في تحسين أداء العاملين معه، لأنه رغم كل هذا الأتون المرهق، ما زال يحمل قلبا رحيما وشفافا في بحر هذا الفساد الفاحش.
رواية الدكتور خالد ذهني أخذتني بعيدا، عندما وضعت طفلي الأول، الذي كان وضعه كإحدى بطلات الرواية، مؤخرته في قاع الرحم في الشهر الأخير من الحمل، ورغم حجمه الكبير الا أن طبيبي إعادته الى وضعه الطبيعي، ولكنه لم ينجح، وبقيت علامات أظافره التي غرزها على لحم بطني باقية لأسابيع خلال محاولاته المتكررة والمؤلمة والفاشلة. ولو كان لدي وعي وأنا لم اصل العشرين من عمري بعد، لو كان لدي المعلومات التي توفرت في الرواية، بأن الحل الأفضل لحالتي ووضع طفلي المقلوب (بريتش) هو عملية "سيزيرن" التي لم يقترحها طبيبي، ولم أطلبها أنا للأسف بسبب جهلي في أول تجربة حمل لي. ولو كانت "سيزيرن" صدرت في ذلك الوقت، لكانت قادتني الى الحل الأصوب، وأنقذتني وأنقذت طفلي أن يخرج الى الحياة بسلام وبدون ألم، ومضاعفات جانبية لي وله. لو كنت أعرف لطلبت من طبيبي الجاهل آنذاك، وأصررت على "السيزيرن" التي كانت متداولة فقط، لمن عنق رحمهن ضيق، ولم أكن منهم، ولكن الولادة القيصرة في حالة البريتش هي الأفضل والأمن.
لا أدري لماذا تمسك طبيبي بالولادة الطبيعية لحالة متعسرة، وتركوني وطفلي نتعذب. على الرغم من توفر الحل الناجع "السيزرين"، خطوة كان يتفاداها الأطباء، ويرعبون بها الحوامل، ويصورون لهن بأن استخدام ملقط الشفط، هو الحل الأفضل، مع ما فيه من مخاطر جسيمة وخطيرة على صحة الطفل والأم. ناهيك عن معاناة الولادة التي استمرت ليومين وليلة عنيفة، لم أصرخ خلالهما خوفا على نفسية جنيني، الذي هيئت له كل أسباب السعادة وهو في رحمي لمدة زادت عن التسعة أشهر. لم أصرخ اثنا الطلق وآلامه، وبقي صوتي في حلقي أكز عليه حتى يبقى في مكانه على الرغم من أن ممرضتي الرحيمة، صاحت بي تطلب مني الصراخ بين كل طلقة وطلقة للتخفيف عن ألمي، ولكني رفضت، حرصا مني على عدم إزعاج طفلي في رحمي. وكانت رحيمة بي، ونقلتني الى غرفة خاصة، لتبعدني عن صراخ الوالدات.
قلت لماريا ممرضتي الإنسانة، سأتحمل المزيد مهما طال الألم، في انتظار طبيب الولادة، الذي لم يرد على استغاثاتها، ولم توقظه نداءاتها، خاصة بعد أن جاء طبيب مناوب وقص، كيس الماء، وانا غير جاهزة للولادة بعد. وخرج جزء طفلي الأسفل، وبقي هكذا حتى ثاني يوم، كنا خلالها في وضع الخطر. ولن انسى مشهد ممرضتي الإنسانة ماريا وهي واقفة فجرا خلف النافذة وعيونها شاخصة، وقلبها خاشع الى الله سبحانه، تطلب منه أن يرحمني وطفلي وتحثه قائلة هل لنه ولد عليها أن تتعذب.
لم أحمل ثانية الا بعد أن فتحوا مستشفى خاصا، مستشفى المواساة في الكويت. ومن حسن حظي كان طبيبي الذي ولدني بطفلي الثاني، والذي جاء بعقد خاص لمدة عام فقط. هو علم من أعلام أطباء مصر المعروفين، كانوا ينادونه (إبراهيم باشا)، لأنه ولد الملكة ناريمان، ملكة مصر السابقة، في طفلها أحمد ابن ملك مصر الأخير، الملك فاروق. أهنئ الروائي خالد ذهني على روايته الشاملة، والجديدة تماما بهذا النوع من القص الأدبي الساخر والناقد لما يجري في مجتمعه خاصة تعاطفة الشديد مع مأساة السجينة الشابة هويدا المتهمة بقتل زوجها وطفلها والتي ثبت للدكتور كريم عندما استدعي لفحصها أنها عذراء، التي ما زالت تدمعني، لأنها تكشف الى حد مفجع مدى الإهمال والاستهتار في الحكم الأبرياء، يعني صدق المثل المصري الشائع "ياما في الحبس مظاليم" . يا ليت هذا وحسب، بل كانت سوء معاملة السجانة وضربها لها أما الدكتور كريم الذي حاول أن يفك اصفادها فرفضت السجانة القاسية متعللة بأنه أوامر السجن، والأدهى إنكار مامور السجن لفحص الطبيب، (طلب تغييره) قسوة ليس لها نظير. رواية "سيزيرن" متألقة بمعلوماتها الزخمة، وأسلوب الفكاهة فيها، والذي خفف من تحمل فجيعة الفساد العلني، والغش والكذب والتحايل، على حساب صحة المرأة، وحقوق المرأة، والظلم الذي وقع عليها.