أخي فسخ الشجرة - (قصة قصيرة)- نوال حلاوه - مونتريال
بعد تناول فطورالعيد الدسم، خرجت مع إخوتي للتريض بالحديقة، وحتى يرانا اصدقائنا من الجيران بملابس العيد الجديدة. كنت ألبس فستانا ورديا من الأوركنزا، صدره مطرز بعش النحل، وله حزام عريض يلف مرتين على وسطي الصغير، وتتدلى أطرافه من الخلف، حتى نهاية الفستان القصير، مطرزة بحبات الكريستال الصغيرة التي تتراقص وأنا أمشي بنغم جميل، ويشع فيها ضوء الشمس.
حديقة بيتنا الواسعة كانت مرسومة بشمس الصباح المنعشة، وكنا في ملابس العيد الجديدة. توقفنا عند شجرة التين التي أحب، ورأيت حبة تين ناضجة، فتبرع أخي باحضارها لي. تسلق الشجرة بخفة، وكانت صغيرة نوعا ما، وعندما مد يده لتناول الثمرة، شاهدنا بهلع منظر أدهشنا وكمم افواهنا، سمعنا صوتا وشاهدنا الشجرة تفسخ من حيث يجلس رويدا حتى هبط بها مفسوخة حتى وصل الى قاعدتها التي بقيت متماسكة مع جذورها. ارتعبنا جميعا، واحترنا ماذا نفعل، كنا نخاف من صاحبة البيت، لأنها كانت شديدة القسوة، وتمنعنا من اللعب بالحديقة.
تلفتنا حولنا عسى أن نرى شيئا نربط به الشجرة بعد ان ضمها إخوتي مع بعض، فلم نجد، ودون وعي مني بدأت أفك حزام فستاني على عجل، أخذت ألفه حول الشجرة الصغيرة. مسك أخي الكبير بطرفي الحزام، وشدة على الشجرة ثم ربطه بقوة. أخذت أتحسر على حزامي الأوركنزا الذي بدا يتآكل من جانبيه والذي كان قبل دقائق يزين وسطي.
تم كل ذلك على عجل قبل أن تنتبه صاحبة الدار على فسخ الشجرة، وفور أن أنهينا المهمة، سمعنا قهقهه هستيرية أرعبتنا، وجمدتنا في مكاننا لوهلة، ثم ركضا الى البيت نرتجف من الخوف، وإختبأ كل واحد منا تحت سريره. كنا نعرف بأن صاحبة البيت أم جريس ستنزل الينا لتوبخنا، وتهاجم أمنا بلسانها السليط، وفعلا خلال دقيقة، كان صوتها الذي لا يزال يضحك ضحكته الهسيرية، في بيتنا.
لدهشتنا، لم نسمع زعيقها ولا شتائمها، بل أخذت تقص على أمي قصتنا، وتضحك بصوت عال. كانت تراقبنا من شباك غرفتها المطل مباشرة على شجرة التين، أغضبها فسخ الشجرة في البدء، ولكن منظر أخي الذي فسخ الشجرة وهو يهبط بها بالجزء الذي يركبه، ومحاولتنا لف الشجرة، وتضحيتي بحزام فستان العيد، جعلها ولأول مرة تضحك من أعماق فؤادها على منظرنا العفوي والبائس، ومحاولتنا إخفاء فعلتنا، ختمت كلامها قائلة، ضحكت اليوم من أعماقي، شيئ لم أفعله من قبل.
كانت أم جريس إمراة تعسة، دائمة الحزن ولدها الوحيد الذي هاجر هز كيانها. كانت الأم قاسية جدا حتى على ابنتها مريم الوحيدة أيضا، وكان يحزنني أن أرى المعلمة المعلمة مريم تهان أمامنا ، من أمها العجوز.
منذ تلك الحادثة أصبحت ام جريس تزورنا كثيرا، وبدأت ألطف معنا منذ حادثة الشجرة، فرحنا كثيرا لأن فسخ الشجرة لم يفسخ علاقتنا بها أكثر مما هي عليه، وأصبحت تزور أمي باستمرار، وتروي لها الكثير من تجارب حياتها.
في يوم صيفي منعش، جاءت تشرب شاي العصرية مع أمي في الشرفة التي ظللتها أشجار اللوز، وملئت الجو من حولنا بنسيم زهورها البيضاء العطرة. كانت امي تسرح لي شعري الطويل، تجدله وتزينه بالشرائط الملونة. كان الشاي بالميرمية قد أعدته أمي كعادتها، وكانت أم جريس تعرف توقيت أمي لشرب القهوة والشاي.
حدثتنا أم جريس قائلة: خرجت من غرفتي الى الشرفة الكبيرة التي تركب شرفتكم هذه مباشرة، وشاهدت إبنتي مسترخية تماما على سور الشرفة الدائري، وشعرت برأسها يغطس أكثر وأكثر. كانت مريم تصاب بين وقت وآخر بدوخة مفاجأة، وعندما رأيتها قاب قوسين أو أدنى تهبط برأسها المتدلي، صحت بأعلي صوتي علها تصحي، لأن المسافة كانت بيننا بعيدة؛ صحت أطلب النجدة منها ومن الجيران، "حريقه، نار، مريم الحقيني، يا عالم الحقوني حريقه ، النار تلتهم البيت" . انتفضت مريم فجأة وبسرعة، رفعت رأسها، وسحبت جسدها من على السور، وأخذت تركض باتجاه باب البيت بعد ان قطعت ساحة الدار في ثوان.
تكمل أم جريس قصتها بعد تنهيدة عميقة قائلة: تلقفت ابنتي بين يدي بعناق ملهوف، وشعرت بعمق غلاوتها في قلبي، كيف نسيت ذلك؟ كيف نسيت هذا العناق الحميم منذ هجرة جريس، ومشاحاناتي الدائمة مع ابنتي. ضممتها الى صدري بقوة أهنئها بالسلامة وشعور بالذنب يأكلني. كانت مدهوشة من فعلتي، وزادت دهشتها أكثر من الحنان المفاجئ الذي افتقدته منذ زمن، ثم وضحت لمريم ما حصل، ورعبي عليها من الوضع الذي كانت عليه. قلت لها لقد ناديتك من غرفتي فلم تردي، فخرجت لأبحث عنك، وعندما رأيتك تتكئين على سور الشرفة وراسك متدلي منه، طار شرار صوابي خوفا عليك من السقوط، ووجدت نفسي دون وعي مني، أصيح أن تنقذيني من الحريق، والحمد لله نجحت الفكرة، وعدت الى وعيك فورا.
تضيف أم جريس محدثة أمي، التي لا زالت تمشط وتضفر وتزين، شعري بشرائط من لون فستاني، قائلة: أشكر ذاك اليوم الذي فسخت فيه الشجرة، لأنه قربني منك ومن أولادك أكثر، وأخرجت الضحكة الهستيرية ما بقلبي، وبدأ الغم والهم يزولان من وجداني وروحي شيئا فشيئا، لقد كنت وعائلتك خير معين لي. أنهت حديثها صدق المثل الشائع: "إسأل على الجار قبل الدار". سأترك أولادك يلعبون كما يشاءون في الحديقة، ولن أزعجهم بعد اليوم، سأمتع نفسي بهم وسأتسلي بلهوهم، وفرحهم وبرائتهم .
nawalhalawa@hotmail.com