زيارة الى عالم الشاعر التونسي منصف الوهايبي- احمد دحبور
في التغريبة الفلسطينية المعاصرة، التي قادتنا الى معظم الاقطار العربية، اتيح لنا ان نكتشف فضاءات جديدة باستمرار، وان نكسب صداقات نوعية نباهي بها أمن هذه الفضاءات والصداقات اذكر بمزيد من السعادة والامتنان اجتماعي الى الشاعر التونسي منصف الوهايبي، الذي ملأ هو وشقه الآخر الشاعر محمد الغزي، عالمي الثقافي بمزيد من المعرفة والالفة اللتين تحولتا الى صداقة فريدة.
ويتميز منصف الوهايبي بتلك الاناة الواثقة التي تميز نصه الشعري بالمزاوجة الفذة بين الحداثة والاصالة فهذا الشاعر الغارق حتى شحمتي اذنيه في الاسئلة المعاصرة هو نفسه المتأبط روح التراث بما يجعلك تخب في التاريخ والحضارة بلا مراوحة ولا تقليد.
ولما كان هذا الشاعر من ابناء جيلي، فقد كان طبيعيا ان تتقاطع اسئلتنا الفنية وارقنا الجمالي بما يحفظ لكل منا لهجته الخاصة فيكون بخصوصيته المغربية صدى اليفا لمرجعيتي الشرقية حيث تجمعنا لغة عربية معاصرة لا لاننا نرغب في ذلك وحسب، بل لاننا كذلك..
وها أنذا امام اعماله الكاملة التي تتضمن مجموعاته الشعرية «الواح - من البحر تأتي الجبال - مخطوط تمبكتو - ميتافيز يقا وردة الامل - فهرست الحيوان - اشياء السيدة التي نسيت ان تكبر» ولعل لديه اعمالا جديدة بعد هذه الاعمال التي صدرت عام 2010.
وهكذا يعبر منصف الوهايبي حدودا جغرافية تفصل بيننا، فأراني في حالة اشتباك وجداني معه وكأني الى جانبه في مدينة القيروان، أو كأنه معي في رام الله.. فالى منصف والى شعره الحميم المتميز عسى ان ندرك او نتخيل الى اين يفضي بنا..
فضاء التجريد
اول ما يلفتك في هذا الشعر، وقوعه في منطقة حرجة من التجريد حتى لتتساءل عن مدى ارتباط الشاعر بالواقع، ليس معنى هذا اننا امام تهويمات وتخيلات مجانية، فخصوصية الشاعر من حيث الجو المغاربي شديدة الوضوح وان كان يميل الى التعبير بلهجة تاريخية تعبق برائحة المكان، من حيث هو الوطن بحساسية تلتقط المرئيات وتوظفها في تشكيل بيئة ينتمي اليها الشاعر وينسبنا اليها:
غيمة ام خيمة هذا المساء
يتدلى من سماء الوطن الاول
هل يبحث عن شيء تلاشى
في مرايانا الصديئة؟
لو.. ولكن مساء الليلة الاولى،
تدلى كحبال المشنقة
هكذا يقول الشاعر ولا يقول، فهو محتشد بالوطن الاول من غير تصريح بالتفاصيل التي تجعل المكان مأهولا، فكيف نتحقق من شخصية هذا الوطن المجرد؟ انه حدس الشاعر ورهافة الاحساس في حالة من الانخطاف والانشداد الى المطلق:
ها انت تبلغ باب الله مرتبكا
الوجه منخطف والروح مشتعل
هذا الهوى الصعب يا مولاي شردني
الا بسطت يدا تحنو وتنتشل؟
فنزوعه الى التواصل يعبر عنه كل من ايقاعه الصوفي ورغبته في ملامسة البشر، واعيا ان «قلبه الوجل» هو دليله الى ذلك التواصل الحميم:
واخفض يديك اذا شارفت مملكتي
هل يطرق الباب الا قلبك الوجل؟
وبهذه المعادلة يتضح تعلقه بالعالم، على صعوبة ذلك فقلبه الوجل يشده الى ذلك الارتباط فيما تعقد الحيرة لسانه ورؤياه.. لهذا علينا ان نتوقع الكثير من هذا البوح الذي يشمل الرغبة في الارتباط والخشية من الصحو المفاجئ حيث يكتشف انه كان سادرا في الاوهام والاحلام.
عند هذا الحد اتريث في الاسترسال حتى لا اظلم الشاعر باعطاء انطباع عن غموض خطابه، فيما هو شديد الوضوح من حيث انه ذات تبحث عما يعمق وجودها في الحياة.
القصيدة العربية
الا ان الشاعر سرعان ما ينفتح على البيت العربي المعزز بقصائد متتالية عناوينها النخلة والصحراء والجمل وغار حراء وما هذه الاشارات العربية الا وسائل ايضاح تؤكد اختياره العربي الذي ينتهي الى خطاب يحاور المقدس بلغة تتشبث بقداسة الايقاع:
ارض حبلى، كنا انزلنا الماء عليها
فاهتزت وربت كالمرأة في وجع الطلق،
واخرجت المرعى فجعلناه غثاء احوى
تذروه الريح
وغني عن القول ان الشاعر يصدر عن ثروة لغوية تستلهم خطاب القرآن الكريم، لا بهدف احياء القديم ومجاملة الذاكرة التراثية، بل بما يتمثله من ارتباط هذا الكلام بالذاكرة المخلصة للقداسة بمستواها الاسلامي، انزلنا الماء، اهتزت وربت، واخرجت المرعى، غثاء احوى.. والاكيد ان الشاعر هنا لا ينسخ النص القديم على الطريقة التقليدية بل هو يعيد انتاج خطابه العربي بما يتناغم مع حنينه الى فجر الاكتشاف والايمان بما ستبدي له الايام بوصفه «رجلا ينهض من غار حراء» بل ان الشاعر يتبرع لنا بكشف هذه الحقيقة العربية من غير عناء:
كنت ابحث في الوطن العربي،
عن الوطن العربي،
فحاصرني عسس واقتفوا حلمي
فانسللت الى جسدي واختبأت
وهذه الدورة - من البحث عن الوطن في الوطن، الى حصار العسس، الى الاختباء، هي دورة تقليدية في دراما الشعر العربي الحديث، حيث يفزع شاعرنا المحاصر مما يتربص به من مخاطر، ويختبئ في جسده لتضليل العسس، وما الجسد الذي يخبئه ويحميه سوى الفضاء العربي، ما يؤكد ان اختيارات الشاعر العربية ليست حيلة اسلوبية للتعبير، بل هو صدور عن التزام عميق وارتباط وجودي بتربة هذا الوطن، وهو ما يجعله من الطبيعي ان ينهي احدى قصائده بارتداء ثوبه التراثي والعودة الى بيت الجدود:
ارتدي برنسي
واحث خطاي الى بيت جدي
ومن المنطقي، والحال هكذا، ان «تتوالى صور الماضي شريطا دافئ اللون، ارى الريف الذي فيه ولدنا، لم يغيره الزمن» وما عدم ثبات الزمن من غير اي تغيير الا الفكرة السرمدية حول الاطار الجامع الذي يشكل الشخصية ويحرسها «فبيوت الطوب ما زالت كما فارقتها آخر مرة - تجمع الشمل وان غادرها آباؤنا صوب المدن».
والمدن مفتاح اساس لفهم الوهايبي، فهذا القيرواني المنتمي الى احد اعرق المدن في المغرب العربي، لا يفوته لحظة انه وان اوغل في المدينة يظل ذلك الشاعر الذي يخاطب ابن غلبون: لماذا لم اعد اسمع الا دودة تنغل في رث العظام؟
على انه وهو يعاين الدود الذي ينخر العظام لا يهجو المدينة التي اوصلته الى هذا المصير بل يعي دورة الدنيا التي قد يصدمها العدم لكنه لا ينهيها، فنحن في هذا العالم نعيش حياتنا ثم يأتي من يلينا ليكمل هذه الحياة.
ولهذا قد يستوقفنا في هذا الشعر تعدد اسماء الاماكن، مع ان المكان هو المكان من حيث انه الوعاء الذي يستوعب التجربة الانسانية برمتها، فليدخل الشاعر حمى تونس او القيروان او مسكلياتي او تمبكتو فنحن نبدل الاسماء والجلود وتستمر الحياة على الارض من خلالنا او من خلال الورثة القادمين.
تعاقب الامكنة
يفترض القارئ العربي المشرقي، ان شعر منصف الوهايبي يأتي من مكان واحد بعيد، لكنه حين يتمعن في رحلة هذا الشاعر يراه متعدد الامكنة فالقيروان مدينته الرئيسة ليست مجرد مدينة تونسية، بل هي تاريخ وذاكرة وتفاصيل واسماء مختلفة لاماكن لها وقع السحر في اسماعنا، لكأن المسافة النائية توحي بشخصية اضافية للمكان، يساعد على ذلك مثلما لاحظنا ونلاحظ، وفرة العناوين والاماكن في هذا البلد العربي العريق. ويزيد من حرارة سحر المكان ان الشاعر شغوف بهذه المسافة التاريخية بل انه يتنفسها خلجة خلجة في خطابه الشعري الموشى بشذرات من تراثنا الغني، حيث تقع على السهروردي وقصته الغربة الغربية، والملك الضليل، وهيروقليطس اما الجغرافيا فلا ترسلك الى حضرموت في الجزيرة العربية، بل تقدم لك حضرموت كأحد الاسماء التونسية، ولا تترك هذه المجموعة الشعرية الا بعد ان تجول في تونس وتطاوين ومقبرة يوعزطة والرباط وغيرها من الاماكن التي لا تنتهي. ولعل الشاعر ادرك ازدحام ذاكرته بالاماكن والعناوين فخصص مساحة لا يستهان بها من كتابه لسرد سجل من المعلومات الجغرافية والبيئية فلا عذر للقارئ - بعد مطالعة كتاب الوهايبي - اذا لم يعرف تمبكتو وترشيش وغاسترونوفيا، اما الرحلة بين اسماء الاعلام شعراء وادباء ورسامين، فهي مسيرة بحد ذاتها.
وبموازاة هذه الكثافة البهيجة في الاسماء يدهشك هذا الشاعر باهداءاته الغزيرة الى اصدقائه من المثقفين على امتداد الوطن العربي، لا كعلامات على علاقات عامة بل كدليل متوهج عن سجله المعرفي الواسع، فهذا شاعر لا يمر مرور الكلام على ما يرى بل يجدل بين المخيلة والذاكرة والتسجيل ما يصلح لان يكون مرجعا الى كل شيء.
خذ هذا المشهد مثلا، والشاعر يتأمل تمثال السياب في العراق - اننا نمر عادة امام هذه العلامات التاريخية فنجتازها او نلتقط صورا عندها للذكرى، اما في حالة الوهايبي فانه يستنطق التمثال ويستخلص منه لا تاريخ السياب وحسب، بل قراءة باطنية لما نراه في الظاهر:
ظهره للنخل والنهر،
وعيناه لوجه البصرة المنتظرة
تتمنى نخلة
لو ان هذا الافق بيت او ضريح
ولعلنا مررنا معنا بتمثال السياب خلال احد مهرجانات المربد الشعري، لكن الوهايبي نجح في تثبيت المشهد، لا على صفحة ذاكرته بل على صفحة الشعر التي تسنتهض الشاعر الراحل وتستبقيه في الذاكرة وحيوية الشعر العابر للزمن:
خلعت زينتها الارض
وما زلت اسوّي جسدي
طميا وماء
وانادي نخلتي المحترقة
ادخلي في جسدي
او فاخرجي من ظلماتي
بهذا لا تقتصر جولة هذا الشاعر في الامكنة على الجغرافيا وفصول السياحة بل يتماهى مع ما يرى حتى تتحول المرئيات الى برنامج جمالي يليق بهذا الشاعر الحاذق الذي يجيد توظيف العناصر لتأثيث بيته الشعري المتميز.
شعر غنائي؟
وقد ابدو كمن يجترح مجازفة اذا وصفت شعر منصف الوهايبي بالغنائية فهذا الشاعر المطبوع المخلص لمختلف اشكال الايقاع في الشعر، لا يقر له قرار عند صيغة غنائية جاهزة لقصيدته، حتى ان احد النقاد قد تساءل عما اذا كان يعمد الى تأليف الفكرة ورصفها في بناء هرموني، والواقع انه لا شيء من ذلك، بل اصغاء عميق من الشاعر الى اسرار الوجود التي تتجلى له حتى بالتفاصيل العفوية التي تمدنا بها الحياة.
وهكذا يحتل منصف الوهايبي مكانا ومكانة لم يقصدهما في الشعر الغنائي، بل أتته الامور بتلقائية وعفوية آسرة:
زرقة الارض العميقة
راودتني فأتيت
فتمنيت لاعشاب الحديقة
ليلة طيبة.. ثم مضيت..
على انه يمضي ليمكث في الذاكرة والوجدان فليس قليلا ان يكسب الشعر العربي صوتا فنيا معافى مثل صوت الوهايبي الذي يجمع بين الفصاحة والحداثة في صوت هو نسيج وحده وسط تشابه الاصوات.